الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطقوسية التعبيرية ح1

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 1 / 6
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


أرتبط الدين كمفهوم وظاهرة وشكل بالطقوس والعبادات والخضوع الإرادي لها من حيث هي غاية تفسر للخارج إيمان الداخل، فالطقوس تعبير خارجي عن حقيقة داخلية لا مفر من إتيانها لأنها الحالة المتحركة من الإيمان الساكن في العقول والنفوس، ولطالما شكلت الطقوس والعبادات ما ترمز من جوهرية غائية الوجه الحقيقي للدين، حتى أنه قيل دين بلا طقوس مثل زوبعة تحدث وتنتهي دون أن تترك أثرا فعليا على الأرض، فالطقوس عماد الموضوع الديني ويأتي في المرتبة التالية والنتيجة اللاحقة لموضوع الرمز المتعالي الله أو الرب أو الكائن المستحوذ على أهتمام الفرد بعالمه الخارجي.
ترجح بعض النظريات المطروحة للنقاش والتي بحثت في أقدم مظاهر الطقوسية والتعبد أن هذه المظاهر غارفة في القدم التاريخي ومرتبطو بالتطور البشري وفقا لنظرية دارون، فقد أشارت إحدى هذه النظريات إلى (أن “الإنسان المنتصب” بدأ النزوح نحو آسيا وأوروبا قبل 1.8 مليون سنة، وأنه تطور لاحقا إلى سلالة “نياندرتال” التي ظهرت قبل 350 ألف سنة، وأن هذا المخلوق كان يقدس الحيوانات بدليل العثور في كهوف جبال الألب على جماجم دببة مرتبة بطريقة خاصة ومحاطة بقطع من الحجارة، كما عُثر في أماكن أخرى على جماجم محفوظة لحيوانات الثور والماموث، فافترض الباحثون أنه كان يعبدها تقديسا لقدرات الحيوان الجسمية التي تفوق قدراته)، وبالرغم من أن هذه النظرية ليس لها دليل علمي أو حجة أركيولوجية بقدر ما هي أستنتاج ظني وأفتراضي، لكنها من جهة أخرى تشير إلى مسألة تلازم التدين مع العبادة من خلال الطقوس والتقديس للمعبود أيا كان شكله أو ماهيته.
يُعد موقع “غوبكلي تيبي” في تركيا الذي يضم 20 معبدا ويعتقد أنها أقدم المواقع الدينية المكتشفة حتى اليوم والتي تمثل علاقة الطقوس بالدين وتعبيرات التجسيد المادي لديانة ما، يذكر الباحثون المختصون أن هذه المعابد التي من الممكن أن يقال عنها الشكل الأول للمعبد الديني الذي تتم فيه أو من حوله الطقوس والفرائض الدينية والذي يعود تاريخ اكتشافه إلى عام 1994، أما من حيث قدمه ووجوده كمرحلة مبكرة من تاريخ الأديان تاريخ فإن بنائه يعود إلى ما قبل 12 ألف سنة تقريبا، أي إلى أواخر العصر الحجري الحديث حيث يتوقع الألماني كلاوس شميدت الذي أشرف على التنقيبات في الموقع أنه كان أكبر موقع للعبادة والحج في العالم القديم، وأن القبائل كانت تقصده من أماكن بعيدة وهذا دليل على أور على أهميته كمركز ديني رئيسي يبين لنا أن الإنسان الأول لم يكن فقط يتعبد الرب في أماكن تواجده المحدودة بالرقعة الجغرافية، طالما أنه يؤمن واجبا عليه أن يسعى حتى بعيدا من أحل نسك أو طقس معين أو عبادة محددة، كما يجري اليوم الحج للأماكن المقدسة وزيارتها، ومازالت حجارته تحتفظ بنقوش تصوّر أشخاصا ونساءً عاريات وحيوانات أسطورية وبرية وحشرات وطيور.
إذا الطقوس هي قرينة التدين وهي الأداة التي يظهر فيها الإنسان أخلاصه للرب وتفانيه في خدمته دون أن يكون للصعوبات أو الظروف المحيطة فيه أثر على أداء التعبدات الطقوسية، هذا الأستنتاج بقودنا إلى حقيقة مهمة أن الدين ومنذ البداية كان يشكل ركنا مهما ومحوريا في حياة الإنسان ولم يكن نتاج تطور تاريخي، فلو كان من نتاج تطور حتمي أو حتى طبيعي لتطورت تلك الطقوس والعبادات القديمة والتي تتلخص بمظاهر موحدة، وهي الحج والصلوات والتراتيل والصيام والطهارة والدعاء والتوسل وأخيرا النذور والأنفاقات على المعبد وفي سبيل الرب، هذه المظاهر هي نفسها تتداول اليوم بالروح والجوهر وحتى المسميات دون أن تتطور إلى أشكال تعبدية أخرى، فالدين ولد من الظاهر عبر التاريخ كتلة واحدة من قيم وأسس وبنائيات، المختلف فيه هي التعابير لا الدلالات واللغة بالتأكيد تختلف من مكان لمكان ومن زمان لزمان لكن تبقى الطقوس هي الوجه المادي لروحية الدين.
إذا تاريخيا وإن كان على عجالة من الأمر لم نشهد ولم يسجل لنا أحد أو يكتشف حالة دينية منعزلة عن الطقوسية والتقديس هذا في الخط الديني العام لكل المجتمعات، أما في الواقع الديني العراقي فقد لعبت الطقوس والقداسة دورا مهما تسبب في أنتساب الكثير من تلك الممارسات من خلال الفهم الخاطئ لها على أنها تخص كائنات ومعبودات دون الله، يكتب أحدهم ما نصه (يرى باحثون أن ظهور الحضارة نفسها تزامن مع ظهور الكتابة والتأريخ، فالناس كانوا يعيشون قبل ذلك في قبائل، وبدون تنظيم لحدود الدول وسياسة الحكم، لذا لم ترتبط معابد ما قبل التاريخ بنظام حكم وثني مؤسسي قائم على التوافق بين الملك والكهنوت، وهو ما حدث عندما ظهرت الدول الحضرية للمرة الأولى في العراق كما يُخبرنا التاريخ المدون)، بمعنى أخر أن الدين والحضارة سبقتا النظم السياسية الحاكمة وأنها أي النظم هب نتاج تعاون الكهنوت أي المعبد مع المعرفة الحضارية، وبالتالي فكون وجود المعبد قبل وجود المؤسسة الحاكمة يثبت أن العراقيون القدماء نجحوا في بناء حضارتهم ونظامهم السياسي من خلال عنصر الدين والذي أنتج معرفة حقيقية وإن أنحرف المعبد لاحقا في ظن البعض وتبنى الوثنية، هذا لا يعني أن الدين المؤسس والمعبد المؤسس الذب أنبثقت منه المعرفة عبر ضروريات الطقوس ومستلزماتها كان وثنيا أو شركيا.
مهما كان الأمر فالطقوس في رأي البعض من الباحثين أستنادا للوقائع المعروفة والمدروسة قد يكون هو المظهر الأول قبل الفكر الديني، بمعنى أن البعض الذي يشير إلى أن الدين مرحلة تالية للسحر وتأثيراته قد أخطأوا في الترتيب، فالسحر يأت عندما تولد الطقوس وتأثيراتها الفعلية في يهض النفوس والعقول البشرية، لذا فهي لم تسبق الدين لأن الغالب من الأدوات السحرية يعتمد على الأفكار الدينية أولا وثانيا لأن السحر طقوس أكثر منها معرفة أو قوانين، وهناك ملاحظة أخرى أن غالب السحرة لا يمكن قبولهم أو التعامل معهم حتى في المجتمعات القديمة ما لم يكونوا دينين أصلا لأن السحر بالحقيقة هو أختصار لإرادة البشر عبر وسائل دينية لإجبار عناصر كونية لها وقع ديني أن تفعل أو لا تفعل أمرا مطلوبا من الساحر، هذا هو بالمختصر علاقة السحر بالدين والمعبد والطقوس.
إذا السحر ولد من رحم الدين والتدين والإيمان ولم يكن سابقا له ولا يبرر أن الإنسان القديم مثلا كان كثير الإيمان بالسحر والساحرين مع أننا لا نجد في الحقيقة ما يدعم هذا الفرض، لكن مسايرة لما ينشره البعض من أبحاث غير دقيقة حول أثر السحر في نشأة الدين ودوره في صنع الإيمان بالأرباب أو الآلهة التي تخضع للسحر وتستجيب له، ولطالما أهتم العاملون في المعبد وخاصة الكهنوت والرجال والنساء المقربون من السلطة العليا فيه أو في المجتمع ولليوم في دراسة جوانب من عالم السحر المتعدد في الطرائق والوسائل والأساليب وحتى في المصادر الدينية التي هب عمقها المعرفي محاولة للاستعانة بالوثنية، من خلال البحث عما عرفناه سابقا من معنى السحر وهو أكتشاف أقرب الطرق للوصول للغايات الدنيوية من خلال مسلك ذا طابع ديني، هذا الترابط بين الدين والسحر واحدا من أهم أسباب التغيرات السلبية التي رافقت الفكر الديني في عصوره المتعاقبة ولليوم، أولا من خلال البحث عن أسباب خفية أو معادلات مضمرة داخل الدين يمكن أو يعتقد أنها تملك مقدارا من القوة الخارقة، أو من خلال خداع العقول القاصرة وتضليلها عن أستخدام الوسائل والقوانين والطرق الطبيعية التي يشير لها الدين، من هذه الزاوية تحديدا ومثلا نرى خروج طوائف المتصوفة وأصحاب الطرق الوصولية وأفكار ميتافيزيقية غيبية مفرطة في روحانيتها التي تبعدها عن الواقع الطبيعي، منها ما يعرف بوحدة الوجود والتقمص والأستبدال والأستدلال الحرفي والعددي بنصوص مقدسة، إنها واحدة من أزمات الإنسان الدائمة التي تم اللجوء إليها على الظن، ويتم اليوم فيها اللجوء إلى الدين وتركيبته التفصيلية للعثور على حل لها، برغم التجربة الطويلة من الفشل إلا أنها قائمة وتتجدد يوميا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتفاق التهدئة.. حكومة نتنياهو تواجه خيارات حاسمة


.. انتخابات إيران الرئاسية: خامنئي يحث الناخبين على التصويت في




.. القسام تعلن إيقاع قوة إسرائيلية بكمين وتستهدف آليات إسرائيلي


.. إخلاء منازل في القدس بعد اندلاع حريق كبير بحي هار غيلوه




.. الشرطة تعتقل مؤيدين لفلسطين من فوق مبنى البرلمان الأسترالي