الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأعداد الصماء

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2023 / 1 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
العودة المحزنة لبلاد اليونان
٤٠ - الأعداد الصماء

فيثاغوراس لم يكن ينظر إلى العدد ككمية مجرَّدة فقط وإنما كتجلٍّ إلهي وكانعكاس للواحد الذي هو منبع وأساس التناغم الكوني، فعلم الأعداد كان بالنسبة له جزءاً من عملية فهم القوى الحيَّة وجزء من ذلك الفيض الفاعل في جميع العوالم ومن بينها عالمنا الإنساني. والأعداد الفيثاغورية كانت من حيث الأساس أعداداً صحيحة وموجبة ومرتبطة بالملموس. ففي البدء، لم يكن الفيثاغوريون، على ما يبدو، يميِّزون بين العدد وبين الأشياء المحسوسة في العالم الواقعي، إنما حصل هذا التمايز لاحقاً على يد أفلاطون وجماعته. قسم الفيثاغوريون الأعداد إلى أعداد فردية وأعداد زوجية، وكانت تمثَّل بنقاط هندسية موزعة كمتتاليات بواسطة زوايا حيث تمثل الأعداد الموجبة أو المربَّعة، شكلاً هندسياً متوازناً، بينما تمثل الأرقام الفردية مستطيلاً، أي شكلاً هندسياً غير متوازن. كان العدد الأول الـ 1 يمثِّل بالنسبة لهم أول الأرقام ورمز الألوهة، فعنه ينبع كل شيء وهو، بحكم كونه رمزاً، تحدُّه نسبية الإنسان ومحدوديته، منبثق عن العدم أو اللانهاية الذي ليس بوسعنا استيعابه، أما على المستوى الإنساني فيبقى الواحد هو المنطلق والأساس لجميع الأعداد التالية، فهو إذن محور الكون، منه ينبع الثنائي أو الـ 2 وهو النسبي ووالتعدد والخليقة، ويُرمَز له عادة بخط مستقيم. وتوصَّل الفيثاغوريون أيضا إلى معرفة العدد غير الصحيح .. الأمر الذي كان يشكِّل في حينه مأزقاً فلسفياً لايمكن استيعابه.. فالعدد غير الصحيح كان ربما أول تعبير فلسفي واقعي ملموس للفوضى الكونية المفترضة. في الرياضيات، الأعداد غير النسبية أو العدد الأصم أو الجذر الأصم Irrational number هي الأعداد الحقيقية التي لا يمكن كتابتها على صورة كسر اعتيادي - أي كسر بسطه ومقامه عددان صحيحان ومقامه يختلف عن الصفر- وأقدم الأعداد الصماء هو الجذر التربيعي للعدد ٢ والذي اكتشفه فيثاغوراس في محاولته البرهنة على نظريته التي ذكرناها، وهو ما يساوي مقدار : 1.41421356 وهو عدد غير منته أبدا.
هذا العدد سيخلق مشكلة هائلة في النظام الفيثاغوري ويفتح شرخا في البناء الصلب الذي تم بنائه خلال سنوات عديدة، لأن هذا الإكتشاف يمس أركان الرياضيات ذاتها والتي اعتبروها اساس العالم والكون والأشياء، فكل البناء الفكري والفلسفي والديني يمكن أن ينهار فجأة. إنه عدد غير معقول، سماه العرب بالعدد الأصم، عدد جديد وغير صحيح ولا تنطق به الطبيعة، كما أنه يمكن أن يكون فرديا وتارة زوجيا وهذا تناقض لا تحتمله نظرية التبات والتوازن، إضافة إلى أنه عدد غير متناه وهذا سيخلق إشكاليات لا حل لها، فالعدد الصحيح عدد متناه، يسبقه ويليه عدد متناه، فكيف سنصل إلى العدد الموالي للعدد الأصم اللامتناهي؟ لقد وجد فيثاغوراس نفسه في فخ أعده وبرهن بنفسه على وجوده، أثبت أنه بين عددين صحيحين متناهيين يوجد عدد لا متناه. العدد الصحيح المحدد الكم هو وحده العدد القادر على الانسجام مع العقيدة والفلسفة الفيثاغورية التي أقامت نظريتها ورؤيتها إلى الوجود على أساس التناسق والتناغم والإنسجام الذي تمثله الأعداد. المدرسة الفيثاغورية الأم - كروتونا - والتي تطورت فيها الرياضيات بشكل لا نظير له في تاريخ العلوم، وجدت نفسها في مأزق "العدد الأصم" الذي هز جدرانها وأسسها، ولم تكن قادرة، لعدم وجود الإمكانيات النظرية الكافية في ذلك الوقت، على مواجهة هذه الأزمة لأن ذلك يقتضي إجراء مراجعة جذرية لكامل نسقها الفلسفي والديني والشك في مصداقية مقدماتها. فأعلنت "قانون الصمت" مهددة كل من يتحدث عن هذا الإكتشاف بالطرد من المدرسة أو بالموت حسب البعض الآخر. أن هذا الاكتشاف هو ما دفع زينون وجماعته على ما يبدو، إلى معارضة المدرسة الفيثاغورية ومفاهيمها الدينية والفلسفية والمساهمة في تخليص الفلسفة من المقولات الروحية.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل.. تداعيات انسحاب غانتس من حكومة الحرب | #الظهيرة


.. انهيار منزل تحت الإنشاء بسبب عاصفة قوية ضربت ولاية #تكساس ال




.. تصعيد المحور الإيراني.. هل يخدم إسرائيل أم المنطقة؟ | #ملف_ا


.. عبر الخريطة التفاعلية.. معارك ضارية بين الجيش والمقاومة الفل




.. كتائب القسام: قصفنا مدينة سديروت وتحشدات للجيش الإسرائيلي