الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدروب الوعرة

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2023 / 1 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
العودة المحزنة لبلاد اليونان
٤٢ - الفلسفة والدروب الوعرة

يرى البعض أن الفلسفة ما هي إلا علم أو نشاط علمي يدور في حلقة مفرغة حسب بعض الإدعاءات، ولهذا يجب العودة باستمرار إلى الفلسفة اليونانية وطرح نفس الأسئلة من جديد، وبالتالي فالفلسفة مجرد تمرين لغوي لا طائل من وراءه. ونحن لا نتفق مع هذه النظرة المبسطة للفكر عموما وللفلسفة بصفة خاصة. ذلك أن الفلسفة هي المجال المثالي والحيوي الذي يتحقق فيه العقل بكل إمكانياته، يعبر عن نفسه ويرسم أهدافه ويخطط خريطة حدوده القصوى. وأهمية أية عملية فلسفية لا تكمن في نتائجها فقط وإنما في الديالكتيكية الحيوية والنشاط النظري والمغامرة العقلية التي أدت إلى هذه النتائج، ولذلك لا بد من العودة في كل مرة لنعرف الخريطة التي اختارها والطريق التي سلكها والأخطاء والتناقضات التي ارتكبها والفخاخ التي وقع فيها الفكر في رحلته الطويلة نحو المعرفة. ذلك أن الفلسفة ليست علما مغلقا كالعلوم الطبيعية ولا تتطور في خط زمني مستقيم، وكل إشكالية فلسفية تتطلب عدة حلول، حسب الزمن والإمكانيات والأدوات الفكرية المتاحة. في كتابه الكينونة والعدم، سارتر يعالج مشكلة إثبات وجود الغيرية أو الآخر وهو ما يسمى في الفلسفة بالـ Solipsisme وتترجم عادة بكلمة التوحّديّة، فلجأ إلى الكوجيتو الديكارتي أولا، ثم كانط ثم هيجل وهوسرل وهيدجر، وتمعن في الحلول التي وصل إليها كل منهم، ليتمكن من الإحاطة بالإشكالية من جميع النواحي والزوايا، ليتمكن أخيرا من حل المعضلة الفلسفية وتجاوز المثالية التي يمثلها كل هذا الفكر طوال قرون عديدة. ورغم مجهود سارتر الرائع، فإن العديد من الفلاسفة المعاصرين ما يزالون يحاولون الإثبات منطقيا بوجود أو بعدم وجود الآخر، وما يزالون يعتبرونه موضوعا للمعرفة وليس مكونا أنطولوجيا للوجود الإنساني. فالخط الزمني لتطور الفكر الفلسفي ليس سهما مستقيما يشير إلى إتجاه واحد من الماضي إلى المستقبل، إنه تطور في خط لولبي يعود على نفسه في فترات زمنية متباعدة.
الفلسفة إذا هي مغامرة عقلية ورحلة طويلة شاقة ومميزة، وطريق مليء بالعقبات والحفر والنتوءات والمطبات، وهي ليست طريقا أفقيا مستقيما، بل عشرات الطرق والمسارب المتعرجة والمتقاطعة، تختلط ببعضها البعض لتكون ما يشبه الشبكة الضخمة، أو المتاهة المكونة من مئات الطرق التي يؤدي أحدها للآخر بلا نهاية. وفي كل مرة نجتاز طريقا لنصل إلى جزيرة دوران حيث تلتقي عدة طرق وتتقاطع فيما بينها، ونجد لافتات تحمل أسماء، بعضها يشير إلى مناطق جغرافية وبعضها لفترات زمنية وبعضها أسماء لمدارس فلسفية أو أشخاص معينة مارسوا الفلسفة. وقد بدأنا هذه المغامرة إنطلاقا من المحطة الرئيسية الواقعة في آسيا الصغرى وهي المدرسة الأيونية L école ionienne، وهي مدرسة فلسفية كان مقرها الأساسي مدينة ملتية وكذلك مدينة ساموس والإسكندرية. تضم المدرسة الأيونية كل من طاليس وأناكسيماندرس وإنكسيمانس وهم فلاسفة مدينة ملتية Milet الأوائل، وكذلك هيراقليطس وإمبيدوقليس وإنكساغوراس وأركليوس وهيبو وديوجانس الأبولوني، رغم أنهم فلسفيا يختلفون عن الفلاسفة الأوائل وإن كانوا ينتمون جغرافيا إلى نفس المنطقة. جاءت التسمية من لفظ إيونية l Ionie، المدينة الإغريقية القديمة والتي تقع على الساحل الغربي لآسيا الصغرى على البحر الأبيض المتوسط. وعُرفت هذه المستعمرة بهذا الاسم وقت قيام دولة اليونان القديمة، وهي منطقة تاريخية تقع بالقرب من مدينة إزمير بتركيا، والتي أسسها اليونانيون وأطلقوا عليها إسم سميرنا Σμύρνη. شهدت إيونية ولادة الفلسفة، واستوطن الإيونيون هذا الساحل منذ القرن العاشر ق.م، وانتشروا فيما بعد في جزر بحر إيجة المجاورة. وهناك ذاعت شهرة هوميروس، الشاعر الذي تنسب إليه ملحمتا الإلياذة والأوديسة منذ القرن التاسع قبل الميلاد.
أرست المدرسة الإيونية دعائم البحث الميتافيزيقي، فكان لمشكلة أصل الوجود الاهتمام الأكبر والوحيد. فاعتمدت المدرسة على البحث عن مبدأ أولي واحد للوجود يمكن تفسير الكون بالرجوع إليه. فقد اعتبر طاليس الماء بمثابة مبدأ لوجود المادة والكون، يرجع إليه كل شيء وتنطلق منه الحياة بأشكالها كافة. كذلك عد أنكسيمندرس تلميذه، فكرة "اللامحدود" مبدأً كليًا يضفي عبره على العالم معقولية جديدة، في حين ركز أنكسيمانس على مبدأ الهواء، وانتهى الأمر إلى هيراقليطس الذي أعتمد عنصر النار كالعنصر الأساسي الذي أنبثق منه الوجود. نشأت في أحضان هذه المدرسة الإيونية مفاهيم فلسفية جديدة أثرت في الفلسفات اللاحقة ولم تفارقها مثل مفهوم اللوجوس أو العقل، وقد استخدمه هيراقليطس ليشير به إلى القانون الكلي الذي يدبر حوادث العالم. وانتقد هيراقليطس معاصريه لأنهم قصروا في إدراك أهمية اللوغوس ومعناه. كما تعزى إلى المدرسة الإيونية، وخاصة إلى أنكسيمانس، فكرة التناظر بين العالم الأكبر أو الكون من جهة وبين العالم الأصغر أو الإنسان من جهة أخرى. وهي فكرة أساسية أعتنقها فيما بعد بعض فلاسفة الإسلام مثل إخوان الصفا في رسائلهم، ومن بعدهم ابن عربي في مذهبه. كما أن الفكرة نفسها قد نفذت إلى الفلسفة الغربية الوسيطة. كان لهذه المدرسة مكانة رائدة وإبداعية في تاريخ الفلسفة اليونانية القديمة وذلك بمحاولتها التخلص من الفكر الأسطوري الموروث عن هيزيود وهوميروس وغيرهم، كما أسهمت مبكرًا في تطوير العلوم في المستعمرات اليونانية. إلا أن أهم ما قدمته المدرسة الإيونية للفلسفة، هو طرحها لفكرة المبدأ الواحد للوجود، الذي يكون مرجعية شمولية تقوم عليها نظرة واحدية للكون.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استمرار البحث عن مروحية كانت تقل الرئيس الإيراني ووزير الخار


.. لقطات تحولت ا?لى ترندات مع بدر صالح ????




.. التلفزيون الرسمي الإيراني يعلن هبوط مروحية كانت تقل الرئيس ا


.. غانتس لنتنياهو: إذا اخترت المصلحة الشخصية في الحرب فسنستقيل




.. شاهد| فرق الإنقاذ تبحث عن طائرة الرئيس الإيراني