الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشيخ متولي الشعراوي، وأسباب الضياع

عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)

2023 / 1 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لا أعرف متى ولماذا أثيرت هذه الضجة الإعلامية حول الشيخ متولي الشعراوي، لكن ما لفت نظري حدية الخلاف حول الرجل، بين من ينزع عنه صفة الوطنية، ومن يجعله في مرتبة القديسين والأنبياء. ونظراً لأهمية الموضوع، حيث إنَّ الشيخ الشعراوي واحد من الذين أسسوا وساهموا في صناعة وعي وثقافة جيل كامل، صار لزاماً أن نفهمه أكثر.

ولكن حتى نفهمه يتوجب تسليط الضوء على شخصيات أخرى اقترن ظهورها معه، وشكلوا معاً نتاجاً ثقافياً وفكرياً، بدا وكأنه مكرس لخدمة جهتين محددتين (الدولة المصرية، وتيارات الإسلام السياسي)، وأبرز تلك الشخصيات الدكتور مصطفى محمود، والشيخ عبد الحميد كشك.
ولكن قبل أن نتحدث عن تلك الشخصيات، من الضروري فهم طبيعة المرحلة التي ظهروا فيها، وأن نفهم توجهات النظام المصري آنذاك، وبالذات عقلية وشخصية الرئيس السادات، الذي يعتبر أهم صانع لتلك المرحلة بشخوصها ورموزها.

ما أن تولى السادات الحكم في خريف العام 1970 حتى وضع لنفسه هدفاً مركزياً ذا شقين، الأول: وطني، يتلخص في ترك أثر تاريخي عميق وممتد، فكان عليه تجاوز آثار النكسة، وتبني حل سياسي يغير المشهد بالكامل. والثاني: ذاتي، فقد كان عليه إثبات حضوره الشخصي، والتفوق على كاريزما عبد الناصر، وكسب قلوب المصريين.

في الشق السياسي عمد السادات إلى استبدال تحالف مصر مع الاتحاد السوفياتي بإعلان الولاء للولايات المتحدة، على قاعدة أن أوراق الحل بيدها (تخلّصَ من الخبراء السوفيات)، ثم العمل على إنهاء الصراع مع إسرائيل (زار القدس، واعترف بإسرائيل، وعقد اتفاقيات كامب ديفيد)، وعلى المستوى الإقليمي أعاد ترميم العلاقات مع السعودية.

اقتصادياً، تبنى سياسة "الانفتاح"، وهي نهج اقتصادي رأسمالي أشبه بالنيوليبرالي، يتم فيه تقليص تدخل الدولة في الاقتصاد لصالح القطاع الخاص، أي إتاحة المجال للقوى الرأسمالية والكومبرادور أن تنمو وتتضخم على حساب الطبقات الوسطى والضعيفة.
ومن الواضح أن هذه التوجهات السياسية والاقتصادية على العكس تماماً من إرث الناصرية، وستشكل صدمة للوعي الجمعي المصري، وستضر بمصالح الشعب، وليس من السهل تسويقها وتمريرها. ومهما امتلك الرئيس من جرأة وبُعد نظر سيحتاج أدوات إعلامية تروج وتمهد وتساهم في إنجاح مشروعه. ومن البديهي أن الإعلام الرسمي وحده لن يكون كافياً.

في البداية سيواجه السادات قوتين مناهضتين: مراكز الدولة العميقة التي ما زالت مؤمنة بالناصرية ومتمسكة بإرثها، والقوى الحزبية المعارضة وخاصة اليساريين والشيوعيين. ولتجاوزهما قام بسلسلة تغييرات في هيكلية جهاز الدولة (الجيش، الأمن، الحكومة).
ولتكنيس آثار الناصرية والتخلص من اليسار، قام بإطلاق خصومهم التاريخيين (الإخوان المسلمين)، فأخرجهم من السجون، وفتح لهم معسكرات التدريب، وسمح لهم بإعادة بناء التنظيم من جديد، وافتتاح المقرات، وطباعة مجلاتهم الخاصة، وإعادة توزيع كتبهم المحظورة، والسماح لشيوخهم باعتلاء المنابر، وتسهيل مهمات دخولهم النقابات والبرلمان، وتشجيع الشركات الاقتصادية الخاصة بهم.

هل الهدف من ذلك كله التخلص من إرث الناصرية؟ الجواب لا. هنالك هدف أهم:

رغم أن السادات اكتسب شعبية كبيرة بعد حرب أكتوبر، إلا أن توجهاته السياسية والاقتصادية الجديدة بحاجة إلى ما هو أكثر من "انتصار عسكري"، وما هو أقوى من أي جهاز أمني. هذا المشروع بحاجة إلى رئيس قادر على إخضاع الشعب، وتمرير كل ما يريد بقوى خفية جبارة (الدين، الإعلام). وهو أسلوب معتمد منذ أقدم الأزمنة، استخدمته جميع السلطات على مر التاريخ، بل يمكن المجازفة بالقول: إن السلطات السياسية هي التي وفرت دعائم استمرار وتأثير المؤسسة الدينية على مر العصور، لما لها من قوة خفية، استطاع كل من وظفها البقاء في السلطة، والظفر بامتيازاتها، وتبرير أي سياسة ينتهجها.

أراد السادات إنتاج نسخة خاصة استخدم فيها المؤسسة الدينية الرسمية (الأزهر)، والمؤسسة الدينية الحزبية (الإخوان وغيرهم)، والمؤسسة الدينية الشعبية (استخدم فيها التلفزيون، ومنابر الجوامع). وقبل ذلك كله خلع على نفسه لقب "الرئيس المؤمن"، وروج لمصطلح دولة العلم والإيمان. والمفارقة المدهشة أن أحد نتاجات هذا المشروع كان السبب في مقتله (حادثة المنصة).

كان السادات يدرك أن سياساته الاقتصادية تتطلب تضخيم بيروقراطية الدولة، والتركيز على اقتصاد الخدمات، وإيجاد اقتصادات طفيلية موازية، والترويج للثقافة الاستهلاكية، بدلاً من التوجه نحو الإنتاج، وأدواته الحقيقية، أي التنمية الصناعية والزراعية، مع إدراك في أعماق وعيه أن ذلك سيؤدي إلى هبوط شرائح كبيرة إلى أسفل خط الفقر، وتآكل الطبقة الوسطى واتساع الفجوات بين طبقات الشعب، وانتشار العشوائيات السكانية، خاصة مع الانفجار السكاني الهائل، وتنامي الإحساس بالظلم الاجتماعي.

بالنسبة للنظام، لا مشكلة في ذلك كله، ففي جراب الساحر ما يصرف نظر الجماهير عن مشاكلهم الحقيقية، ما يحول دون انفجارهم، وما يجعلهم يوجهون إحساسهم بالقهر نحو أعداء متخيلين، ورمي سهام غضبهم بعيداً عن النظام، وما يقحمهم في معارك جانبية، بحيث يجد هؤلاء المقهورون النظام في صفهم ونصيراً لهم في تلك المعارك. وهنا يأتي دور رجال الدين.

وبالمناسبة، هذه التقنية ما زالت مُتبعة في سائر بلدان العالم الثالث، وتحقق نجاحات بارعة، حيث ينبري العامّة (وأغلبهم فقراء ومسحوقون ومقموعون) لخوض معارك جانبية ضد أعداء مُختلقين، بينما النظام ماضٍ في سياساته المعادية لمصالح الشعب.
سياسياً، سيقدم السادات على الصلح مع إسرائيل، ورغم جراءة الخطوة، والصدمة التي ستحدثها، إلا أن ما كان يحتاجه فتوى دينية تبيحها (سيفتي بذلك الشعراوي ومجموعة أخرى من المشايخ)، ومعارضة شكلانية لا تمتد إلى الشارع، وتكتفي ببيانات إنشائية واستنكار لفظي لا يتبعها خطوات فعلية (سيتولى "الإخوان" هذه المهمة).

في المجال الاقتصادي سيظهر ولأول مرة "بنك إسلامي"، وستتبعه شركات توظيف الأموال (التي تعمل بالبركة)، ولضمان نجاحها ستندلع حملة إعلامية ضد البنوك الوطنية (الربوية)، ومن "المصادفات" السعيدة أن يكون في مجالس إدارة تلك الشركات والبنوك الإسلامية أشهر الدعاة ونجوم البرامج الدينية، وبرواتب فلكية وأعطيات سخية جداً، وبرعاية دول النفط، في فترة المد الوهابي.

سنعرف كيف تمكن النظام من ذلك، وأين دور الشعراوي ومصطفى محمود؟

بدءاً من سبعينيات القرن الماضي سيتكاثر المشايخ والخطباء، وستمتلئ الأرصفة بكتب «سيد قطب» و»أبو الأعلى المودودي»، وكاسيتات «الشيخ كشك» و»عمر عبد الرحمن»، وستتحول الجوامع والجامعات إلى مراكز استقطاب للتنظيمات الإسلامية، وستصبح مناطق نفوذ لها، وسيظهر الرديف الأكاديمي لهذا التوجه الشعبوي (محمد عمارة، عبد الوهاب المسيري، الغزالي)، ثم سيأتي الرديف العلمي (زغلول النجار)، أما الأكثر أهمية وحضوراً فسيكون للحضور التلفزيوني (مصطفى محمود، الشيخ الشعراوي).

وسيظهر دعاة وخطباء في دول عربية أخرى، لكن من بين هؤلاء سيكون الحضور الأبرز للشيخ الشعراوي ومصطفى محمود، وستكون لهما الحظوة في قلوب الملايين.. بالرغم من وجود علماء دين أوسع ثقافةً وأعمق فكراً منهما، فمثلاً يعترف الشعراوي بأنه لم يقرأ كتاباً واحداً طيلة حياته، باستثناء القرآن الكريم.

في تلك الفترة كان التلفزيون الوسيلة الإعلامية الأهم والأكثر شعبية، وبلا منافس.. وقد اختير موعد بث الحلقة الأسبوعية لهما بعناية، بعد صلاة الجمعة، وفي موعد اجتماع العائلة الأسبوعي على مائدة الغداء، وفي فترة المساء في منتصف الأسبوع.. يسبق البرنامجين موسيقى حزينة تثير الشجن (وهي الموسيقى المصاحبة دوماً لكل ما له علاقة بالدين!)، ما يثير العاطفة، ويهيئ النفس لاستقبال المحتوى بالقبول، ومن هنا اقترن البرنامجان بالوجدان الشعبي، وصارا من علامات الزمن الجميل، والتي تثير الذكريات العائلية، حتى ارتقيا إلى مرتبة من القداسة الدينية بحيث يصعب توجيه أي نقد لهما.

جمهور البرنامجين من عامة الناس، وأكثرهم يتلقون المحتوى بالتسليم، دون التدقيق في التفاصيل، فكان الشعراوي يتناول القرآن بالتفسير، معتمداً على براعته اللغوية، ومهارته في استخدام لغة الجسد، ومحاكاته للعواطف.. بينما كان مصطفى محمود يعتمد أسلوب الإلقاء الهادئ، متكئاً على مصطلحات علمية، وبلغة سهلة لتبسيط العلوم، جاعلاً من كل ظاهرة علمية جزءاً من الإعجاز العلمي للقرآن، مع الأخذ بعين الاعتبار أن البرامج الوثائقية كانت آنذاك مقتصرة على الدول الغربية، وباللغات الأجنبية، ولم تصل للجمهور العربي بعد، فكان يترجم بعضاً منها، ويعلق على الصورة بشرح مختصر، وأحياناً مكتفياً بقول: سبحان الله.

ولا أناقش هنا محتوى ومضمون البرنامجين، فربما لا أكون مؤهلاً لذلك، لكن ما أناقشه علاقة الرجلين بالسلطة، وأثرهما على حركات الإسلام السياسي، وكيف وظفتهما لمصالحها الحزبية وتوسيع انتشارها الأيديولوجي، بنزعة وهابية.

بالنسبة للرئيس السادات، فقد بلغ مبتغاه، حين بارك الشعراوي الصلح مع إسرائيل، وحين دافع عنه في استجواب لمجلس الشعب، قائلاً: «لو كان لي من الأمر لحكمت لهذا الرجل بألا يُسأل عما يفعل». وكان الموضوع حينها عن فساد سكرتير المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية توفيق عويضة، إلا أن الاستجواب تعرض للسادات، واتهمه بالتستر على الفساد. حتى أن موقف الشعراوي أثار حفيظة الشيخ عبد الحميد كشك، الذي وبخه قائلا: «ماذا ستقول لربك غداً يا شيخ شعراوي؟ من الذي لا يُسأل عما يفعل يا شعراوي؟

وكان السادات قد منح الشعراوي في 1976 وسام الاستحقاق المصري من الدرجة الاولى، وفي نفس العام، عيّنه وزيراً للأوقاف ووزير دولة لشؤون الأزهر في الحكومة التي رأسها ممدوح سالم، وظل في منصبه (بحقيبتين وزاريتين) إلى ما بعد توقيع كامب ديفيد، أي أنه كان ركناً من النظام آنذاك.

إضافة إلى موقف الرجلين المؤيد للسلطة، الأكثر أهميةً مما كانا يقدمانه في برنامجيهما: تلك الرسائل الضمنية والخفية، وما يقولانه بين السطور، والأهم ما لم يقولانه، وسكتا عنه.. ومعيارنا في الحكم هنا نتائج ذلك كله على الجيل، والذي لا يحتاج للكثير من الشرح.
أما عن التوظيف السياسي للبرامج الدينية عموما من قِبل الإخوان وغيرهم من الحركات السياسية، فيمكن القول إن تلك البرامج كانت توفر العجينة الأولية، التي سيستخدمها كل حزب حسب توجهاته. وللتوضيح: يمكن لكل خباز أن يصنع من نفس العجينة ما يشاء من منتجات متنوعة (خبز، بيتزا، منقوشة زعتر، معجنات جبنة، صفيحة لحمة..) كلها تأتي من العجينة ذاتها، وقبل تشكل العجينة هناك من يزرع القمح، ومن يحصده، ومن يطحنه، ومن يبيعه.

ما تقوم به البرامج الدينية هو خلق البيئة التي تهيئ الشبان لاستغلالهم من قبل الحركات السياسية، وتهيئ الحكومات الاستبدادية للهيمنة عليهم، فالحركات الأصولية تعتمد في نجاحها وانتشارها على توفر بيئة شعبية متدينة، لتقوم هي بصياغة فهم مغاير للدين، واستغلال العاطفة الدينية لدى الجمهور (وخاصة الشبان المسحوقين، والباحثين عن خلاص)، وتجنيدهم في مشروعها السياسي.

أما النظم الاستبدادية فستكون مهمتها أسهل للسيطرة على الدولة ومقدراتها وعلى الشعب وتوجهاته حين يكون المجتمع خاضعاً لسلطة دينية (هي في حقيقة الأمر جزء من هذا النظام)، فتقوم تلك السلطة الدينية بإخضاع الشعب، عبر تقنيات عديدة، وأهمها إشغاله في معارك ثانوية.

وما حصل فعلياً في مصر (وأغلب البلدان العربية) دخول هؤلاء المشايخ والدعاة ونجوم البرامج الدينية في سباق محموم للاستحواذ على عقول وأفئدة الشبان.. أما تيارات الإسلام السياسي فصار همها التغلغل في الجامعات والنقابات، والسيطرة على المناطق الشعبية.
ولإشغال الشارع في القضايا الهامشية تم إدخال مصطلحات ومفاهيم جديدة إلى قاموسه: الولاء والبراء، المجتمع الجاهلي، قتل المرتد، دفع الجزية، تحريم السياحة، لباس النساء، الحجاب والنقاب، الفنانات المعتزلات، تطبيق الشريعة، الحاكمية لله، دار الإسلام ودار الكفر. لتصبح تلك المفاهيم عماد الأيديولوجيا الجهادية الجديدة، ومحور خطابها الإعلامي وبرنامجها العملي، وعناوين للمعارك الوهمية التي سينشغل بها الناس عن قضاياهم الأساسية، كالفقر، والبطالة، والتخلف، والفساد، والهزائم العسكرية، وغياب العدالة الاجتماعية، وانعدام الحريات، والاعتقالات السياسية، والقمع السلطوي، والتبعية للغرب، والتطبيع..

ما هي نتاجات تلك العجينة؟

جماعة الإخوان تفرع عنها عشرات التنظيمات، من الأكثر اعتدالاً إلى الأشد تطرفاً.

بعد أن كان الدعاة والخطباء يعدون على أصابع يد واحدة، ظهر جيل جديد يصعب عده، وأغلبهم حازوا على شعبية كاسحة، لكنهم حققوا ثروات طائلة.. وصارت البرامج والمحطات الدينية بالمئات (تجارة رائجة).
النظم الاستبدادية ظلت قائمة، وتحكم سيطرتها على الشعوب، وماضية في مشروعها السياسي الانهزامي التطبيعي.

المجتمعات العربية ما زالت قابعة في أسفل سلم التطور بين شعوب العالم، تعاني الفقر والبطالة والتخلف، وأضيف إليها انفلات الطائفية واشتعال الحروب الأهلية، وانتشار الفساد لدى الحكومات والشعوب على حد سواء.
بالتأكيد، لا يتحمل هؤلاء الدعاة وحدهم، ولا الحركات الإسلامية المسؤولية الكاملة عن كارثية الوضع الحالي، فالأسباب كثيرة ومتداخلة، لكنهم كانوا من بين أسباب الضياع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah


.. 104-Al-Baqarah




.. وحدة 8200 الإسرائيلية تجند العملاء وتزرع الفتنة الطائفية في