الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الديمقراطية من جديد

عبد الرحمن جاسم

2006 / 10 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مشكلة الديمقراطية، أنها شأنها شأن أي شيءٍ حقيقي، لا يمكن إلباسه ثوباً لا يلائمه، وإلا لعاب! فالديمقراطية يا أحبتي، ليست ادعاءاً مطلقاً يمكن أن ترسمه على وجهك وأنت تتحدث مدِّعٍ أنك تفهمها وتدركها وتمارسها، بينما أنت قادمٌ من عصور التخلف والجهل وحرق الساحرات على الأوتاد، إنها شيءٌ تدركه بدقة، وتمارسه بدقة، وتحاسب نفسك عليه بدقة. وأي خللٍ فيه يجعلك كمثل الذي يحدّثك عن جمال وجهه وطلعته البهية، ووجهه أمامك، وعيونك في وجهك. أو كمثل إدعاءك أنك لست وجبة طازجة أمام نمرٍ جائع!
الديمقراطية يا أحبتي، ليست حلاً سحرياً؛ ليست دوءاً لعسر الهضم تتناوله بعد وجبةٍ حافلة. إنها ترتيبٌ زمني للأمور، وخطوة أخرى على طريق التطور المنهجي والمنطقي. ولا تستطيع أبداً أن تحملها ما لا طاقة لها عليه. فأنت لا تستطيع أن تخرج الديمقراطية من قبعة الساحر، لأنك آنذاك ملزمٌ بإخراج الأرانب وبقية الخدع من تلك القبعة، فالساحر عليه دائماً أن يكمل العرض للنهاية. وادعاء أيٍّ كان أن الحل السحري هو حقيقي يذكرنا بتجربة تطبيق الإشتراكية في بلادنا، بدءاً من التأميم إنتهاءاً بالإعدامات الكثيرة، فلا الإشتراكية المطبّقة على الورق كانت حقيقية، ولا الإدعاء نفسه كان حقيقياً. والدليل على هذا أن "الرئيس" السادات لم يحتج إلى أكثر من ثلاث أيامٍ ليحول مصر من الإشتراكية إلى الرأسمالية المفتوحة. وأي إدعاءاً آخر من شأنه أن يجعلك أشبه بالفتاة التي تلطخ ثوبها، وحينما أغمضت عينيها وفتحتهما قالت ليس على ثوبي شيء إنه ناصع البياض.
الديمقراطية يا أحبتي، لا تعلّم، إنها ليست حرفةً تدرس في مصبغة، وليست كتاباً يقرأ ويكتب، إنها حتى ليست منهجية ينتبه إليها. إنها مسيرة أمة، وطريقٌ طويل، وخطوات لا تعد ولا تحصى، يخطوها ملايين الناس الذين يسكنون حيزاً جغرافياً وتاريخياً واحداً، خلال عبورهم لنفس الطريق يومياً. فهي لم تكن أبداً قرصاً مدمجاً يمكنك أن تضعه في جهازك وتتفرج عليه وتنتقي منه ما تحب لتعلّمه لأطفالك. وأي تحويرٍ لذلك يجعلك أشبه بالأميركان، حينما قرروا تعليم الأفغان والعراق الديمقراطية، فجاء المشهد كهذا: الرجل الأفغاني الذي تعاني رجله من الغارغارينا (وبطبيعة الحال مهددة ببترها) ولا دواء حوله، لأن المساعدات التي وصلت كانت تحوي أجهزة كمبيوتر لا أدوية طبية ضرورية. أو كمشهد الطفل العراقي الذي لا بيت له، رافعاً يديه بإشارة النصر بجانب الجندي الأميركي الذي كان يعذّب كل أقاربه البارحة في سجن أبو غريب!
الديمقراطية يا أحبتي، ليست إعادة تسمية، فلا يمكن تسمية نظام توليتاري، (والكلمة تعني استئثار حزبٍ واحد بالسلطة، ورفض تعددية الأحزاب، وحلها، سواء بالقوة أو بالأساليب الترهيبية الأخرى، وطبعاً هذه الأنظمة غير موجودة في بلادنا، نهائياً!!!!)، أبداً مهما غيّر أو أضاف أو بدّل بالنظام الديمقراطية، فمن شروط الديمقراطية، مثلاً أن يكون هناك منافسة شريفة، تحميها صحافة شريفة، لا يمكن أن تشترى وتباع، يحمي كل ذلك قضاءٌ نزيه، غير متأثرٍ بسلطات الجهاز الفلاني، ولا الوزير العلتاني، والأهم من هذا وذاك اقتصادٌ قوي، يجعل كل ذلك ممكناً. وهي أمورٌ من شأنها أن تنجحٍ في بلاد يكفل الدستور المطبّق -(لأن كلمة الدستور وحدها لا تكفي، فكل الدساتير في بلادنا تكفل ذلك، ولكنها للأسف غير مطبّقة، لأننا يا أحبتي خرس!)- حرية المسير والمسار والمصير، وهي أمورٌ عاديةٌ في بلادٍ أوروبا لأنها تطبق منذ مئات السنين واعتياد الناس عليها بات من المسلمات، لكن أخذ التسمية من هناك، ووشمها على ثياب المسؤولين وخطاباتهم، وحتى أثوابهم الداخلية، لا يغيّر شيئاً، وإذا فعل أحدهم ذلك بات كالحمار الذي تسابق مع حمار الوحش، وحينما لم ينطلق عند بداية السباق، سأله المنظمون لِمَ لم تنطلق قال: لن أفعل إلا إذا أحضرتم لي بذلةً رياضية شبيهة بتلك التي يرتديها حمار الوحش!
الديمقراطية، يا أحبتي، ليست استئثاراً بالسلطة بالقوة، وليست تمسكّاً بها بحجج كثيرة، بدءاً من حماية الوطن والمواطن، إنتهاءاً بحماية الشرعية. وهي حججٌ من شأنها أن تضحك حيوانات الغابة جميعاً، لأن الغاية واضحةٌ كشمس في ليلٍ حالك. فالأب الذي يستئأثر بقرار المنزل مستمسكاً بقدراته المادية والمبالغ المادية التي يدفعها يجعله استئثارياً في السلطة، وليس ادعاءاً كونه ديمقراطياً سوى نوع من الكريما التي توضع على قالب الكاتو المحترق لتخفي السواد. والزعيم الذي يختفي خلف أكثرية لا تتجاوز الواحد والخمسين بالمئة، متباهياً بها، ومسرفاً في شرح المفاهيم الديمقراطية، متناسياً أن الواحد و الخمسين في المئة ليست ديمقراطية أو عدلاً، إنها خلل في البرنامج أي loop في القانون. فحينما يقوم أبٌ في المنزل، أو ضابطٌ في الجيش، أو حتى مسؤولٌ على التلفاز، بالتموضع والتمذهب أمام عيونكم، أحبتي، والحديث عن كيفية أنه يسمع لآراء الآخرين، ويتقبلها، ويسمح بها، فهذا معناه أنه سيسحق ويدمر ويقتل كل من تسول له نفسه بأن يدّع قدرته على التفكير أمامه.
يا أحبتي، الديمقراطية، حتى ليست مقالاً أكتبه وأنتظر من وراءه الكثير، إنها تجاربٌ يومية تعيشونها أنتم، وتحاولونها أنتم، وكل خطوةٍ تقومون بها، أنتم وبخياراتكم الشخصية، وبإختياراتكم الشخصية، تجعلها أقرب إلى التصديق وأقرب إلى الحقيقة. وأي تجاهلٍ لهذه الحقائق، أو ممالأةٍ للواقع يجعلنا كمثل واحدة من جمهوريات الموز في أميركا الوسطى، أو لا نصير كمثل الوحش الذي أكل كل القرية، وحينما وصل إلى طفلٍ صغير يبكي، امتلأت عيناه بالدموع، حزناً وألماً، فأكل الطفل إطفاءاً لحزنه!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتصامات الجامعات الأميركية وانعكاسها على الحملات الانتخابية


.. ترامب يكثف جهوده لتجاوز تحديات الانتخابات الرئاسية | #أميركا




.. دمار غزة بكاميرا موظفة في الا?ونروا


.. رئيس مجلس النواب الأمريكي يهدد بإسقاط التا?شيرة الا?مريكية ع




.. 9 شهداء بينهم 4 أطفال في قصف إسرائيلي على منزل في حي التنور