الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا يبعون ؟؟ يوميات أستاذ زائر

شريف حتاتة

2023 / 1 / 27
التربية والتعليم والبحث العلمي


لماذا يبدعون ؟؟ يوميات أستاذ زائر
-------------------------------------------------------------------------
منذ شهر يناير سنة ١٩٩٣ ، سافرت إلى أمريكا للتدريس في جامعة "ديوك" بـ "نورث كارولينا". كل ثلاثاء, وخميس ، نخترق - نوال السعداوى وأنا - المساحات الخضراء سيراً على الأقدام، فنحن نقوم بالتدريس سوياً ، وهي تجربة جديدة حتى في الجامعات الأمريكية.
الجو منعش حتى عندما تسطع الشمس بقوة في السماء الصافية. لا نتعب من المشى مهما طالت المسافات . المطر يغسل كل شئ، البيوت والشوارع والحدائق، والأشجار، وحتى السيارات، وينقى الجو من كل ذرة تراب، أو دخان. يروى الخضرة، والأشجار فتمسك جذورها الضاربة في الأرض بالطبقة السطحية ، لتمنعها من التفتت والتآكل.
من هنا جاء الصراع المحتدم بين جماعات البيئة، والرأى العام ضد الشركات الضخمة ، التي ظلت تقطع في الغابات بمناشيرها لتبيع الأخشاب . لم تكترث بما يسببه ذلك من اختلال في التوازن البيئي، من زيادة في كمية ثاني أكسيد الكربون في الجو، وارتفاع فى درجات الحرارة، وتغيرات في المناخ تؤدى إلى العواصف والدوامات، واختفاء بعض أنواع النباتات . لم تكترث بتفكك التربة والصخور، وبما تسببه من تصحر، وفيضانات واختفاء أنواع كثيرة من الطيور والأسماك، والحشرات، والطحالب التي تعتبر مصدراً للغذاء ، والتي تحول دون انتشار الكائنات الضارة على الحياة.
نملأ عيوننا بألوان الطبيعة مازالت رغم العدوان الذي يقع عليها، تغدق جمالها على الناس فى هذه البقاع الشاسعة التي تمتد آلاف الأميال. أندهش كيف انتقلت هكذا في غمضة عين من مجتمع إلى مجتمع، ومن وضع إلى وضع. ما الذي جعل هؤلاء الناس يطلبونني في أمريكا ، بدلاً من أن يطلبني الذين تركتهم في البلاد التي أنتمى إليها؟.
أمريكا قارة ساحرة ومخيفة ، فيها أجمل الأشياء وأقبحها. فيها إنسانية الإنسان، والعنف الفظيع الذي يمارس ضده. وفيها قبل كل شئ آخر الحركة الدائبة التي لا تنتظر أو تتوقف.
جامعة "ديوك" قامت وتقوم على الأموال الخاصة. أسسها صاحب مزارع التبغ، ومصانع الدخان في ولاية "نورث كارولينا" اسمه "ديوك". دفع لها ملايين الدولارات من الثروة التي تركها بعد وفاته. فسموها باسمه ، وأقاموا له تمثالاً وسط المساحة الخضراء الواسعة أمام الكنيسة التي يصلون فيها يوم الأحد، ويضيئونها بالكشافات البيضاء ، فأراها تتلألأ في الليل أعلى الربوة ، التي يتجه طريق الجامعة الرئيسي إليها.

ولاية اضطهاد السود
------------------------------
الطلبة والطالبات في هذه الجامعة ، هم أولاد الموسرين أو الطبقات المتوسطة. الأغلبية الساحقة من البيض، ونسبة صغيرة من أصل أسيوى أو لاتيني. أما السود فلا يشكلون سوى نسبة 6% من الطلبة ، رغم أن أغلبية السكان في ولاية "نورث كارولينا"، من السود.
الجميع ينتقلون فى المساحات الشاسعة للجامعة ، في الأوتوبيسات الخاصة مجاناً، أو يستقلون سياراتهم، أو يركبون الدراجات. تبدو عليهم علامات الراحة. يقرفصون أو ينامون فوق الحشيش. يثرثرون ويضحكون تحت آشعة الشمس ، قبل أن يتوجهواإلى الفصول. يأكلون في كافيتريات، ومطاعم الجامعة، ويستهلكون فيها مشروبات ومأكولات بثلاثة ملايـــــين مــــن الدولارات في السنة الواحدة ، أى ثلاثة آلاف وخمسمائة دولار للفرد الواحد.
السود موجودون في كل أنحاء الجامعة، ولكنهم عاملون في أدنى الدرجات. أراهم وأنا سائر يهذبون الحدائق التي نتتره فيها، أو يعبدون الطريق، أو يقطعون الحشيش بالجرارات الصغيرة المزودة بالمحركات، أو يجمعون المخلفات، وأوراق الشجر، أو ينثرون السبخ أو يحملون البريد، وكراتين الكتب ، أو يكنسون المكاتب وصالات الحصص، أو يجمعون الأطباق من فوق الموائد.
ولاية "نورث كارولينا" قامت تاريخياً على مزارع التبغ والقطن ، التي جلبوا إليها العبيد عبر المحيط الأطلسي. مازالت التفرقة ضد السود أحد أركانها . فيها حركة أصولية مسيحية ويهودية ومسلمة ، وفيها قوانين جنسية متزمتة تبيح ضرب الزوج لزوجته، واغتصابها بالعنف من قبله إذا رفضت معاشرته، بينما مثل هذه القوانين ألغيت فى باقى الولايات المتحدة الأمريكية منذ زمن.

التخلص من النص الجامد
-------------------------------------
"ليني تشانج" طالبة من أصل صينى ، ندرس لها الإبداع مع بقية الطلبة فى الفصل. قرأت شأن زملائها وزميلاتها من الروايات المترجمة لنا، ولغيرنا ، ومن بينها رواية "العين ذات الجفن المعدنى" ، من تأليفى .
حضرت ذلك الصباح ، حاملة تحت إبطها لفة طويلة من الورق المستخدم في رسم اللوح، وفي يدها حقيبة ملونة من التيل. طلبت منا أن نضم المنضدتين الكبيرتين اللتين تتوسطان الحجرة ، وأن نبعد المقاعد عنهما. فكت الرباط من حول لفة الورق، وبسطت اللوحة الكبيرة التي كانت تحملها على سطح المنضدتين ، ثم أخرجت من الكيس مجموعة من الأقلام "الفلوماستر" الملونة، وأنابيب لألوان الرسم، وفرش.
التففنا حول المنضدة. كانت قد رسمت على اللوحة عدداًمن الرسومات ، تختلف فيما بينها من حيث مضمونها والأسلوب الذي لجأت إليه في الرسم. فبعضها أخذت شكل الظلال، والخطوط المجردة . وبعضها واقعية يسهل التعرف على مضمونها، وبعضها تجمع بين هذا وذاك. ثم أضافت إليها بعض الكلمات المتفرقة، سألتها ما هذا ؟. أجابت:
"هذه هي رواية "العين ذات الجفن المعدنى" كما تصورتها، ورسمتها. انتقيت منها بعض فصولها، أو أجزائها، أو فكرت في مجمل موضوعها، ثم حاولت أن أعبر بالرسم عن إحساسي نحوها ، عن رؤيتي لشخصياتها، وأحداثها، وعلاقاتها الداخلية والصراعات التي دارت بين شخوصها. أحضرت الرسم لكى تضيفوا إليه انطباعاتكم، وكل ما يخطــــر علـــى بالكم".
أمسك كل منا بقلم، أو فرشاه. ساد الصمت في الحجرة . ثم بالتدريج أخذت تتخلله خشخشة الفرش والأقلام فوق الورق. انكب كل منا حول اللوحة يضيف إليها رسماً، أو ظلاً، أو كلمة عابرة فى الفراغات التي فصلت بين أجزائها. عندما انتهينا من عملية الإضافة أو التعديل ، بدأت المناقشة.
طلبت من "ليني" أن تشرح لنا ما أدركته، وأحست به من الرواية، فحاولت أن تعبر عنه برسوماتها، أن تفسر لنا ما أرادت أن تقوله بألوانها، وخطوط فرشاتها. بعد أن انتهت أضاف بعدها كل من الطلبة والطالبات رأيهم، فيما قالت ورسمته "لينى"، وفى الرسومات التي أضيفت إلى لوحاتهم . ثم دارت مناقشة من أمتع ومن أعمق المناقشات التي حضرتها ، في مجال العمل الأدبى . مناقشة نقدية تناولت الرواية من مختلف الزوايا، وعبرت بالكلمة، وبالرسم جامعة بينهما. هكذا تعلمنا من "ليني تشانج" أسلوباً جديداً في تناول الإبداع الروائي ، يجمع بين فن التعبير بالكلمة، وفن التعبير بالرسم، يكسر الحواجز بينهما، يتخطى الفواصل بين العقل والحس، ويبعث الحياة في الفصل لأن منْ حضره ساهم فى المناقشة وفى الرسم، وأضاف إليه. لم يكن أحد منهم مجرد مشاهد، أو متلق سلبى ، وإنما مشارك أحس أنه يعبر عن نفسه . لم يتلق الإبداع من غيره فحسب ، وإنما أضاف إليه من عنده إبداعاً ، واكتشف قدرات جديدة لم يمارسها من قبل. هكذا أيضاً تجددت العلاقة بين الفرد المبتكر مع الجماعة المحيطة به، شأن ما يحدث في المسرح أو في السينما ، عندما لا يعتمدان على تسلط البعض ، وإنما على خلق الفريق المنسجم.
هذه الحرية فى تلقى المعرفة وإعطائها، هذا الخروج عن الأنماط التقليدية، وعن الحفظ ، مازال مجالا للصراع بين المدارس المختلفة ، في معاهد التعليم والجامعة . فهناك تيار قوى ومسيطر مازال يعارضه النظام هنا ، شأن كل النظم يدافع عن نفسه ويسعى للإبقاء عليه. فالتعليم بهذه الطريقة يمكن أن يخلق أجيلاً من الشباب والشابات لهم رأى مستقل، قادرين على الحركة، والفكر، والفعل. وهذا الصراع هو جوهر المشكلة في نظم التعليم، وتلقى المعرفة والعلم. إنه يجسد الفارق بين تسلط الفكر، وبين الديمقراطية وتنمية الشخصية، والرأى المستقل.
الأستاذ في الجامعة الأمريكية ، يتمتع بقدر أكبر من الحرية في اتباع الأسلوب الذى يراه. وهناك تيار ينمو ولو ببطء، تيار يؤمن أن التعليم لا ينبع من الكتب التي نقرأها، أو من كمية المعلومات التي تختزنها، ولكنه في جوهره محاولة للاهتداء إلى منهج للتفكير ، من شأنه أن يخلق شباباً وشابات ذهنهم متفتح، مستنير، وشخصياتهم مستقلة. فالمعلومات موجودة فى الكتب والمطبوعات، والأفلام، والكاسيتات، ووسائل تخزينها، تتطـور بخطوات سريعة بفضل العقول الإلكترونية. ولكن منهج التفكير هو المفتاح ، الذي يسمح لنا بولوج كل الأبواب، وحــل المعضلات التى تواجهنا.
التعليم الحقيقى هو الذى يقود الإنسان إلى اكتشاف ملكاته العقلية والحسية والجسمية. هو ما يبث الثقة في النفس، وفى قدراتها ويجعلنا نعيها وندركها . هو الربط بين العقل والعواطف، والجسم، والربط بين التفكير والفعل. فالأفكار التي لا تتحول إلى شئ مفيد نفعله ، تظل عقيمة .
في كل الامتحانات التي كنت أعقدها للطلبة والطالبات في المنهج الذى قمت بتدريسه ، كنت أطلب أن يعد كل منهم أو منهن ، عملاً ابداعياً يختاره هو أو تختاره هي بكل حرية. قصة، أو قصيدة أو رسماً، أو لحناً، أو شعراً، أو أغنية . دراسة عن عمل أدبي، أو خواطر أو رقصة أو مسرحية قصيرة يؤديها الفرد. ان الغرض هو حفز الدارسين على التعبير عن النفس في أي شكل من أشكال الإبداع. ثم أن تخضع جميع هذه العمليات للمناقشة ، فى آخر الفصل الدراسي قبل منح الدرجات.
إنه ليس طريقاً معبداً، وسهلاً. فالدارسون لم يتعودوه، وأحياناً يترددون في عرض أعمالهم على زملائهم وزميلاتهن في الفصل. المنافسة هنا شديدة، والدرجات هي الوسيلة الأولى للفرز. وفرص العمل فى المجتمع تتقلص ، كلما اشتدت الأزمة التي يعانيها النظام الرأسمالى فى الغرب. لكن كانت النتائج في أغلب الأحوال جيدة ، فيها اكتشاف للنفس . وما أحوجنا نحن فى بلادنا ، الى مثل هذا النظام ، الذى تترسخ آلياته فى القهر والتنميط .
مناهج التعليم في كل أنحاء العالم ، أصبحت محل صراع يزداد يوماً بعد يوم . فمازالت هناك مدرسة شائعة تتمسك بالتلقين، والتسلط والحفظ. ومازال الحكم على الطلبة والطالبات يرتبط بقدرتهم على قراءة الكتب أو المحاضرات وترديد النصوص، وجمع المعلومات فى الذهن ، أكثر من قدرتهم على التعبير عن الشخصية الأصيلة ، منبع كل جديد في الفكر والعلم والفن.
إن المسألة ليست هي التعليم في ذاته ، كما يدعى الكثيرون من الخبراء والمستشارين الذين يأتون إلينا من البنك الدولى، ومن الغرب، أحياناً فى ثوب أمريكي ، أو في الجلود السمراء "للشرق" وإنما ما الذي نتعلمه وكيف؟.
هذا هو السؤال .
-------------------------------------------------------------------
من كتاب " تجربتى فى الابداع " 2004
-------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -عفوا أوروبا-.. سيارة الأحلام أصبحت صينية!! • فرانس 24


.. فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص




.. رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس


.. انقلاب سيارة وزير الأمن القومي إيتمار #بن_غفير في حادث مروري




.. مولدوفا: عين بوتين علينا بعد أوكرانيا. فهل تفتح روسيا جبهة أ