الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين التوحيد والحلول

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2023 / 2 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
العودة المحزنة لبلاد اليونان
٤٨ - الله والطبيعة

وأضاف كزينوفان بجانب التنزيه، صفة "الكمال" في الفكر والسمع والبصر، ولذلك جائت إنتقاداته العنيفة لهوميروس وهزيود اللذان "يعزوان إلى الآلهة كل الأعمال وصفات البشر الدنيئة التي تحط من قدر الآدميين كالتلصص والحسد والإنتقام والزنا والغش". فالإنسان قد أساء إلى الله وكل شعب يتخيل الله على صورته وحسب مزاجه "لم يوجد في العالم كله، ولن يوجد فيه، رجل ذو علم أكيد عن الآلهة... فالآدميون يتصورون أن الآلهة يولدون، ويلبسون الثياب، وأن لهم أصواتاً وصوراً كأصوات الآدميين وصورهم. ولو كان للثيران والأسود أيدٍ مثلنا، وكان في وسعها أن ترسم وتصنع صوراً كما يفعل الآدميون، لرسمت لآلهتها صوراً وصنعت لها تماثيل على صورتها هي؛ ولو استطاعت الخيل لصورت آلهتها في صورتها، ولصورت الثيران آلهتها في صورة الثيران. والأحباش يصورون آلهتهم سوداً فطس الأنوف؛ والتراقيون يصورون آلهتهم زرق العيون شقر الشعر...ألا إن ثمة إلهاً واحداً يعلو على الآلهة والبشر؛ لا يشبه الآدميين في صورته ولا في عقله. فهو كامل الرؤية، وكامل الفكر والإدراك. وهو يسيطر على الأشياء كلها بقوة عقله" ويؤكد عبدالرحمن بدوي في "ربيع الفكر اليوناني" بأن كزينوفان في قصيدته "في الطبيعة" كان موحدا رغم ذكره للآلهة في صيغة الجمع لمتطلبات شعرية وفنية، ولكن لا يجب أن يُفهم هذا التوحيد بأنه توحيد على صورة الأديان السماوية اللاحقة كاليهودية أو الإسلام. ذلك أن الله عند كزينوفان هو الطبيعة والطبيعة هي الله، وإن كان أرسطو يرى أن هذه الفكرة غير واضحة، فهو لم يحدد إن كانت الطبيعة أو العالم واحدا من حيث الصورة أو من حيث المادة. ويجب التنبيه هنا بأن مصطلحات مثل "الشرك" و"التنزيه" و"الكمال"، تنتمي للقاموس العربي الإسلامي وقاموس الديانات السماوية المنبثقة عن التراث اللاهوتي اليهودي، ولا يجب أن تغرينا هذه المفاهيم وتضللنا بخصوص المصطلحات اليونانية المتعلقة بالآلهة في الفكر الفلسفي اليوناني، فالآلهة جزء من المنظومة الفكرية وجزء من الطبيعة، وهي قد تكونت مع بداية الكون، ويمكن إعتبارها متخصصة في إدارة الكون وليست مبدعة أو خالقة له، أي مسؤولة عن إستمراره ودوامه.
وفكرة الوحدة المطلقة بين الله والطبيعة أدت بكزينوفان إلى القول بوحدة الكينونة أو وحدة الوجود وقدمها وثباتها، ويقترب كزينوفان هنا من فكرة الحلول الصوفية وتصور الكينونة تصورا روحيا، رغم أن برتراند رسل يعتبره من سلك العقليين الذين كانوا يعارضون الميول الصوفية وأن عدم التغير هي ميزة الكينونة، رغم عدم إنكاره للتغير والحركة في الظواهر والحوادث الجزئية، وهو الفرق الجوهري بينه وبين بقية فلاسفة المدرسة الإيلية الذين يرفضون التغير. وكان يرى أن الأشياء كلها، بل والناس أيضاً، مخلوقون من الطين والماء حسب قوانين طبيعية، وإن الماء كان في يوم من الأيام يغطي الأرض بأجمعها مستندا في قوله إلى الحفريات البحرية التي نجدها عادة بعيدة عن شواطئ البحار وأحيانا في المرتفعات وعلى رؤوس الجبال. ينقل عنه أنه بحث في الحفريات ووجد قواقع في قشرة الأرض و حفريات لأسماك في الصخور و أستخلص من ذلك ان الماء سابق وجوده على اليابسة وان الأرض ظهرت من البحر و توقع ان تعود مغمورة بالمياه ثانية وتنتهى الحياة على اليابسة ثم تتكرر الدورة وتظهر اليابسة من البحر ثانية و تعود الحياة فيها كما سبق، لذلك استنتج البعض أنه أول من قال بالتطور. كذلك ارتأى ان الشمس و النجوم عبارة عن بخار ماء مشتعل والشمس تسير في خط مستقيم و تختفى بنهاية اليوم، والشمس المشرقة في صباح اليوم التالى هى شمس أخرى من بخارماء حديث التكوين. ويرى أن كل ما يحدث في التاريخ من تغير، وكل ما يحدث في الأشياء من فرقة وانقسام، ليس إلا ظواهر سطحية، وأنه من وراء هذه الظواهر وهذا الاختلاف في الصور والأشكال هناك وحدة أزلية لا تتغير أبداً هي حقيقة العالم الباطنة الداخلية الحقيقية.
كزينوفان إذا لم يقل بالعناصر الأربعة كغيره، بل قال بعنصر واحد وهو التراب أو الطين. لقد كان في الحقيقة تلميذا للفيلسوف أناكسيميندريس الذي كان فيلسوفا يهتم بالطبيعة، وأضاف كزينوفان الجانب الديني والإلهي لهذه الفلسفة الطبيعية، منتقدا الأنتروبومورفيسم في الديانات اليونانية، مما يجعله يخطو خطوة جبارة نحو فكرة التوحيد والتنزيه، رغم التناقض الواضح في التأكيد على ثبات الوجود ككل وعدم تغيره، بينما الوجود كأجزاء متغير وغير ثابت، ولهذا يعتبر حلقة الوصل بين فلاسفة الطبيعة الأوائل، وفلاسفة الكينونة، أي بين الأيونيين والإيليين.
يعتبر كزينوفان أيضا مؤسس الإبستيمولوجيا أو نظرية المعرفة، ومن أوائل المفكرين الذين فرقوا بين الإعتقاد belief وبين المعرفة knowledge، حيث أنه يمكن للإنسان أن يعتقد بمعرفته لشيء ما دون أن يعرفه حقيقة. وهذا ربما يعني بكل بساطة أننا لا نستطيع أن نحصل على معرفة شيء ما بمجرد النظر إليه، بل يجب الحصول على أكبر ما يمكن من المعلومات ومعاينة الشيء من كل الجوانب للحصول على معرفة يقينية. وهو الذي يقول بأن الآلهة لم تكشف للإنسان الفاني جميع الأشياء منذ البداية، بالأحرى تركته يسعى على مرور الزمن ليكتشف ما هو أحسن. ويعتقد بـ "حقيقة الواقع"، غير أن الإنسان لا يمكنه الوصول إلى هذه الحقيقة. وفي القليل من الشذرات المتبقية من أشعاره يمكن تخمين بوادر نظريته المعرفية. حيث يتسائل عن طبيعة وماهية المعرفة المتاحة للإنسان، وهل هذه المعرفة، مهما كانت طبيعتها نتحصل عليها بواسطة القدرات الإنسانية أم بواسطة نوع من الوحي أو الإلهام الإلهي؟ وأي دور تلعبه حواسنا في الوصول إلى معرفة الواقع؟ وحسب بعض الروايات فإن كزينوفان لا يثق في الحواس ويعتبرها مصدرا للخداع والوهم قد يذهب العقل ذاته ضحيتها، ولذلك يجب الإبتعاد عن كل ما هو ظاهر ومحسوس والثقة في العقل وحده. وقد انتقد بشدة فكرة التناسخ عند فيثاغورس وسخر منها وقام بنقد مماثل للعادات والتقاليد الإجتماعية السائدة في ذلك الوقت في المجتمع اليونانى، وبالذات المبالغة في تقدير وتكريم المصارعين والملاكمين والألعاب القائمة على القوة العضلية، والمبالغة في هذا التكريم لدرجة تأليه البعض منهم، لذلك قال كزينوفانيس في ذلك ساخرا " حكمتنا خير وأبقى من قوة الرجال والخيل ".

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا بعد موافقة حماس على -مقترح الهدنة-؟| المسائية


.. دبابات الجيش الإسرائيلي تحتشد على حدود رفح بانتظار أمر اقتحا




.. مقتل جنديين إسرائيليين بهجوم نفذه حزب الله بطائرة مسيرة


.. -ولادة بدون حمل-.. إعلان لطبيب نسائي يثير الجدل في مصر! • فر




.. استعدادات أمنية مشددة في مرسيليا -برا وجوا وبحرا- لاستقبال ا