الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغة المحكية شعبيا تنتزع حق البقاء والديمومة

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 2 / 12
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


نعود للهجة أو النمط الثاني من الكتابة وقبلها طريقة تواصل كلغة محكية بين الناس والتي تتسم عادة بخلوها من التعقيد اللغوي البنائي وتحررها من الكثير من القواعد الملزمة، هذا النمط من اللغة العراقية القديمة أو ما يسمى باللهجة الشعبية العراقية بقيت مع التبدل التأريخي في أستخدام اللغة في المجال الرسمي والديني بقيت محافظة على شكلها ودورها في حياة الناس قديما وحديثا، فالتغير اللغوي دوما ما يطال الطبقات العليا من المعرفة أما القاعدة والهوامش قيلا ما يصلها التغير وحتى قد يصلها متأخرا جدا لا ينفع في تبديل المفردات والأصوات التي هي خصائص فسيولوجية أيضا، إن اللهجة العراقية وريثة تراكم عدة طبقات لغوية مرَّت في تاريخ العراق: السومرية والاكادية بلهجتيها الجنوبية البابلية والشمالية الآشورية، ثم الآرامية، ثم العربية، بالإضافة الى اكتساب مفردات كثيرة ومتعدد من مصادر كثيرة ومتعددة مرت على العراق وشعبه لكنها تركت مخلفات نتيجة التعامل والأستعمال الضروري لها مثل اللغات الكردية والفارسية والتركية وحتى الانكليزية.
ان هذه اللهجة تتميز عن العربية الفصحى، بالقواعد والبلاغة وقاموس المفردات:
1. ـ القواعد: من أمثلة بعض التمايز في قواعد العامية استخدام كلمة (اللي) وحدها بدلاً من (الّذي والتي واللذين.. الخ)، وهي حالة سائدة في جميع اللهجات العربية، كذلك استخدام النصب دائماً في المثنى، مثل (فلاحَين) والجمع (فلاحين)..
2. ـ البلاغة: أما الناحية البلاغية والتعبيرية، فهناك صور خاصة بالعامية العراقية لا يمكن أن تفهم لو ترجمت الى الفصحى، مثلاً : (أخليك على عيني ورأسي، بمعنى الاعتزاز والتقدير). (إتسّخَم وجهه / إسوَّد وجهه وهبطت قيمته). (الله بالخير / عبارة ترحاب ضرورية بالضيف بعد جلوسه). (وريني ظهرك / اترك المكان). (بعد روحي / أنت أغلى مثل روحي). (سوده عليَّه / للحزن على شخص). (طاح صبغه / فقد قيمته).
لهذا فأنه من الاخطاء الكبرى لدى مترجمي النصوص العراقية القديمة (السومرية والأكادية)، انهم لم يعتمدوا على بلاغة العامية العراقية في فهم النصوص القديمة مثلاً، عندما تقول عشتار (أصبحت أيامنا من طين)، فان هذه الترجمة تمت بصورة حرفية ومعناها يبدوا مبهماً، بينما لا زالت العامية العراقية تقول عن شخص (مطّيَن)، بمعنى انه (وضعه سيء) إذن كان من المفروض أن تترجم العبارة بـ (تطينت أيامنا، أي أصبحت تعيسة).
3. ـ المفردات وتلفظها: ان من خصوصيات اللهجة العراقية، ان كلماتها تحتوي على حروف لم توجد في العربية، هي : (گ) أي (ج المصرية) إذ يحَّول حرف (ق)، مثل: (قال) تتحول الى (گال). كذلك حرف (چ) أي حرف (H) الانكليزي. وعادة يحوَّل اليه حرف التملك المؤنث (ك) بالعربي، مثل: (كتابك) للمؤنث، تحول الى (كتابچ).
ومع كل ما تقدم وعلى أعتبار أن اللهجة تتميز عن اللغة الأم بطغيان الطابع المحلي عليها دون أن يقطع ذلك صلتها باللغة الأم، هذا ما يجعل من المتكلم باللهجة لا يجد صعوبة في فهم اللغة الأصل وأن يستطيع تبعا لذلك أن يتكلم بها دون الحاجة إلى ترجمة أو مقابلة، وبالرغم مما يعترض الباحث في اللغة السومرية من عقبات وعلى رأسها بعض المسلمات الخاطئة التي سادت في النصف الأول من القرن الماضي وعرقلت وبعثرت جهود الباحثين مثل الادعاء بأن السومريين قوم أصولهم آرية والآريين ظهروا الا في الألف الأولى قبل الميلاد أي ثلاثة آلاف سنة على الأقل بعد ظهور السومريين في جنوب العراق، أو الإدعاء بأن السومرية لا تمت بصلة للغات شبه الجزيرة العربية بما أنها تحوي على كلمات مدمجة، في حين ان العربية تحوي في الواقع الكثير من هذه لأمثلة اذا ما أخضعت للتحقيق الدقيق وخصوصا في مفرداتها القديمة، كما هو شأن أكثر اللغات الغير مضبوطة بقواعد لفترة طويلة من الزمن وهو ما نجده بغزارة في العربية العامية.
إن التقدم في دراسات علوم الألسنة والبحوث الآثارية الواسعة لحضارات العراق القديم وما جاورها جعلت نتائجها من منطقة الشرق الأوسط المرشحة الأولى كمصدر شعاعي للغات الرئيسة في العالم منذ أن وجدت بقايا أقدم انسان عاقل فيها، وزاد الأهتمام بها أكثر حين بدا واضحا بأن شعاعها اللغوي المنبثق من أرض سومر كنواة لهذا الإشعاع قد ترسخ وأنتشر في كل الأتجاهات منذ أن أصبحت منطقة أول نشاط زراعي، وتحديدا في منطقة وادي الرفدين منذ ما يقرب من "12000" سنة قبل الميلاد أي في نهاية آخر فترة جليدية في أوربا والتي يقابلها في العراق وسوريا وباقي الجزيرة وشما ل أفريقيا ما يسمى بالفترة المطيرة الأخيرة.
لقد كان السومرين أبناء هذا الوادي الفسيح والخصب وامتداده في الخليج وترجع آثارهم المكتوبة الى ما لا يقل عن ستة آلاف سنة ق م، أما آثارهم التي سبقت عهد الكتابة فتعود الى أبعد من ذلك بكثير وحضارتهم نشأت وترعرعت في منطقة مركزية بالنسبة لتلك المرحلة التاريخية وهي مفتوحة ومتصلة بريا في غربها وجنوبها بباقي أنحاء الجزيرة العربية عكس المناطق الشرقية التي تكتنفها المستنقعات والمرتفعات، لذا تعد أول وأهم منطقة جذب سكاني بالنسبة للمناطق الداخلية للجزيرة العربية بأعتبارها الأمتداد الطبيعي السهل، وبالأخص أثناء فترات الجفاف تلك التي تعاقبت منذ نهاية الفترة المطيرة الأخيرة ولحد اليوم، فلا غرابة اذن أن تكون اللغة السومرية وعلى مر العصور هي نفس المعين الذي لا ينضب والمتجدد لكل لغات أو لهجات وادي الرافدين وأيضا لهجات الجزيرة وشمال الجزيرة بأتجاه الغرب (مصر والشام)عموما .
ان الدراسات اللغوية المقارنة بين العربية والسومرية مازالت في أول عهدها ومع ذلك نستطيع القول أنها بدأت فعلا تعطي ثمارها، بالرغم من أن البحوث في قراءة وفك رموز الرقيم المسمارية لا تتجاوز العشرة بالمائة لحد الآن من مجموع ما مكتشف منها، وأن المفردات التي لم تعد قيد التداول في العربية أو غبرت منذ نهاية الحقبة السومرية قبل أربعة آلاف سنة تقريبا وللآن كثيرة جدا، وقد تتجاوز المئات ولكننا نعرف ان كل سفر يبدأ بخطوة وكل خطوة تقرب أكثر فأكثر للهدف، وكمثال على ذلك ومن الأسماء التي لها دلالاتها الثقافية وأزحنا عنها غبار الماضي وتأويلات الحاضر أسم البطل الأسطوري السومري "كيل خامش" الذي يلفظ عادة بالكاف الأعجمية فكلمة كيل أو كال بالسومرية يقابلها في العربية القديمة كلمة قيل، والتي تعني حاكم أو زعيم لكن لا تعني أبدا دلالة ملك في كلا اللغتين، كما جاءت في قصة الطوفان، ان هذا الأسم هو أسم مركب أو مدمج من أسمين الأول قيل والثاني خامس أي ان صفته تماما مثل "الفرعون" في مصر أو "التبع" في اليمن أو القيصر في روما 1، إذا هو القيل الخامس أو الحاكم الخامس ولم يكن هناك يعد مفهوم الملك والملوكية متبلورا كنوع من أنواع السلطة إلا بعد مدة طويلة جدا ، وهذا ما كان عليه فعلا كخامس حاكم على أوروك تلك المدينة العريقة التي شهدت أول تطور للكتابة في العالم، مما يعني ان كلا الكلمتين موجودتين في العربية والسومرية الا ان كلمة قيل سقط استعمالها منذ أمد بعيد في العربية، الا ما ندر وهذا الشعر للمتنبي يذكر بها
ألا ايها القيل المقيم بمنبـــــج
وهمته فوق السماكين توضــع
أليس عجيبا أن وصفك معجز
وان ظنوني في معاليك تظلع
ونحن نود بالنهاية أن نلفت الأنتباه الى عدة أشياء أولها ان اللغة السومرية هي لغة قديمة جدا بل هي أقدم اللغات المكتشفة للآن لذا فأن عملية البحث وتعقب أثر المفردات ومسح الغبار عنها وتقديمها للقارئ هي عملية مضنية وصعبة مقارنة باللغات الأحدث وبالتدرج ونقصد هنا الأكدية والبابلية فالآشورية والآرامية وغيرها فكلما اقتربنا من الزمن الحاضر كانت السهولة أكبر والمحصلة أكثر وأغزر والعكس بالعكس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. . أعتبر السومريون أن الإله هو المسؤول عن كل الأمور المتعلقة بالأوامر الطبيعية والاجتماعية، فقد كانت دول المدينة محكومة فعليًا من قبل الكهنة الثيوقراطيين والمسؤولين الدينيين قبل بداية الحاكمية المدنية في سومر، فقد استُبدل هذا الدور لاحقًا من قبل الحكام الذين يعملون تحت أوامر الإله الأعلى أو من يمثله، ولكن استمر الكهنة في ممارسة تأثير كبير على المجتمع السومري مع الحاكم وبمساندته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتفاق التهدئة.. حكومة نتنياهو تواجه خيارات حاسمة


.. انتخابات إيران الرئاسية: خامنئي يحث الناخبين على التصويت في




.. القسام تعلن إيقاع قوة إسرائيلية بكمين وتستهدف آليات إسرائيلي


.. إخلاء منازل في القدس بعد اندلاع حريق كبير بحي هار غيلوه




.. الشرطة تعتقل مؤيدين لفلسطين من فوق مبنى البرلمان الأسترالي