الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتواضعُ العظيم … السنبلةُ الثقيلة

فاطمة ناعوت

2023 / 2 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


العظماءُ دائمًا متواضعون. والعكسُ صحيح. وفي الصين حكمةٌ من الطبيعة تؤكد الفكرة. سنبلةُ القمح الممتلئة بالحبوب، دائمًا منحنيةٌ على ساقها لأنها مثقلةٌ بما تحملُ من رزق، والسنبلة الفارغة، تقفُ منتصبةً تطاول السماء، فقط لأنها شاغرة. كذلك البشر. تجد الشاغرين من الناس متعالين، فيما "الكِبارُ" يتواضعون ويتباسطون، حتى أمام الصغار. والعالمُ كلما ازداد علمًا أيقن أن ما يجهلُ أكثرُ مما حصّل.
بعد أيام نحتفلُ بعيد ميلاد أحد العظماء من ذوي السنابل الُمثقلة بالعلم والفكر والتنوير. يوم ١٨ فبراير القادم سوف نطفئ الشمعة الواحدة بعد المائة من عمره الخالد، لأن ما ترك لنا من فكر وتحضُّر ووطنية ونضال، باقٍ وحيٌّ وإن رحل صانعُه. أتحدثُ عن المفكر المصريّ الكبير "محمود أمين العالم". فكلّ سنة وهو طيب، حيث يكون في فردوس الله العليّ. كلُّ عام وابتسامتُه مشرقةٌ تعلِّمُنا التفاؤلَ والثقة في غدٍ أجملَ لمصرَ. كان الأستاذُ واثقًا من إشراق مصر الذي لن يخلفَ موعده مهما تأخر. لم أرَ أكثر منه تواضعًا وطيبةً وحبًّا للبسطاء وحبًّا للحياة وحبًّا للوطن ودعمًا لتلامذته.
قبل عشرين عامًا، عام ٢٠٠٣، كنتُ في المجلس الأعلى للثقافة أحضر ندوة للأستاذ، وبعد انتهائها ذهبتُ لأصافحه فأخبرني أنه قرأ ديواني الأخير وأعجبه. ثم سألني عما أنا مشغولةٌ به آنذاك، فأخبرته عن كتاب جديد أعمل عليه حول: العمارة والهندسة والفنون السبعة وعلاقتها بالفلسفة والمنطق. أعجبته الفكرةُ وطلب المخطوطةَ وكتب لي تصديرًا للكتاب، من أعظم ما يكتبُ أستاذٌ عن تلميذته. صدر الكتابُ في ذلك العام بعنوان: “الكتابة بالطباشير"، وصدر الجزء الثاني منه عام ٢٠١٩ عن الهيئة العامة للكتاب بعنوان "الكتابة بالطباشير الملوّن"، وحرصتُ على وضع التصديرَ القديم في الطبعة الجديدة. ذات يوم جاءني كاتبٌ شابٌّ وطلب مني أن أقدّمه إلى الأستاذ العالم الذي كان يجلس على مقربة منّا. قال إن كل ما يرجوه هو نيل شرف مصافحته. فقلتُ له اذهبْ وحدك، سوف يرحب بك فهو جميل وبسيط! لكن الشابَّ تردد خجلا، فنهضتُ وذهبنا للأستاذ وقلتُ: "هذا الشاب الطيب يودُّ مصافحتك.” فما كان من الأستاذ العالم إلا أن نهض ومدّ يده قائلا: "أنا اسمي محمود أمين العالم.” وابتسامة رائقة باشّة تكسو وجهه. قلتُ مندهشةً: "يا أستاذ لا تعرّفْ نفسَك! فالمعروفُ لا يُعرّف، وتقديمك نفسَك إهانةٌ لنا، كونك رمزًا من رموز مصر! أَبَعد كل ما قدّمتَ لنا وللوطن من فكر وعمر وجهد وكفاح، تُعرّف نفسك؟!”
والكلام عن هذا الرجل لا ينفد. سواءً في شِقّه الإنسانيّ، أو في شقّه الفكري والفلسفي والتنويريّ والسياسي. حدثنا الأستاذُ عن اعتقالات 59، وكان محبسه في سجن القلعة. كان السجّانُ يجلد الأستاذ بالسوط كل صباح، وكان الأستاذ العالِم يجلس في المساء إلى ذلك السجّان ذاته، لكي يعلّمه الأبجدية والقراءة ويمحو أميّته!! هتفتُ مندهشة: "تُعلِّم من يجلدك؟!!!" قال: "نعم. كلٌّ منا يؤدي عملَه! هو يجلدني لأن يظنُّ أنني عدوُّ الوطن والدين، وبالتالي يعاقبَني، لأنه يحب الوطنَ ويحبُّ الدين. وأنا أقوم بدوري معه فأعلّمه. فهذا واجبي نحو ديني، ونحو وطني أن أنوّرَ أبناءه ما وسعني ذلك. لأن محنة هذه الأمة تكمن في وعيها. ودور كل مثقف أن يبني وعي الناس، قبل أن يحاسبهم على أخطائهم.” هكذا كان ذلك الرجل الاستثنائي الذي قُدَّ من نسيج رفيع الطراز. هكذا كان "محمود أمين العالِم" القادر على الغفران للمسيئين إليه. هو لم "يكظِم غيظه"، ولم "يعفُ عن الناس" وحسب، كما تأمرنا الآية الكريمة، بل تمّمَ الآية وكان من "المُحسنين"، لمن آذوه وعذبوه. "والكاظمين الغيظَ والعافين عن الناس، والله يحبُّ المحسنين" آل عمران ١٣٤.
والحق أن العالم حين جلس إلى السجان وراح يعلّمه الأبجدية والقراءة، فيما خطوط السياط تقطر دمًا من ظهره، كان يعرف أين يكمنُ عدوُّه. عدوّه لم يكن ذلك البسيط الجاهل الذي يحملُ سوطًا في يده، بل عدوه وعدونا جميعا هو "الجهل" ذاته. ولذلك كان يحاربه. ثم يأخذه السجّانُ إلى حيث الصخور الضخمة ويقول له: "كسّرْ يا مسجون! للصخرة سبعة أبواب، في واحد منها فقط تكمن نقطة الضعف.” فيسمحُ العالمُ للسجان "الجاهل" أن يعلمه كيف يحدد مكمن الضعف في الصخرة!
عشقُه لمصر ووعيه بالتاريخ، جعلاه قادرًا على الإيمان بقوة مصر. فهو فيلسوفٌ يحوّلُ المقدماتِ إلى توالٍ، والمعطياتِ إلى نتائجَ، ويعرفُ أن لكلِّ "بما إن"، "إذن" تلاحقُها. ومازالت قصائده التي حفرها على جدران "سجن القلعة" مستيقظة تشهد ميلاد "الجمهورية الجديدة". كل سنة وأنت طيب يا أستاذ محمود العظيم.

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إليكم مواعيد القداسات في أسبوع الآلام للمسيحيين الذين يتّبعو


.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم




.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله


.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط




.. 102-Al-Baqarah