الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البروكرستية Procrustean

صابر ملوكه
طبيب و كاتب

2023 / 2 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


البروكرستية
Procrustean

"بروكرست “هو شخصية في الميثولوجيا اليونانية لقاطع طريق وقاتل كان يعيش في أتيكا وهي منطقه تاريخيه عباره عن شبه جزيرة تضم حاليا أثينا عاصمه اليونان.
وكان لبروكرست طريقة فريدة في التعامل مع ضحاياه. فقد كان يستدرج ضحيته ويُضيّفه ويُكرِم وفادته، وبعد العشاء يدعوه إلى قضاء الليل على سرير من حديد صنعه بنفسه.
الغريب في صنعة هذا السرير أنه لا يلائم احدا ابدا، فاذا كان الضيف طويلا ضاق به، وإذا كان قصيرا أتسع عليه، ومن اجل فك هذه المعضلة خرج علينا بروكرست بحل عجيب غريب. فاذا كان الضيف قصيرا قام بتكسير عظامه ومط جسده لكي يلائم السرير، وإن كان طويلا يقوم بقطع قدميه او رأسه.

استمر بروكرست على هذا المنوال في قتل ضيوفه وسرقة اموالهم حتى حل عليه يوما ضيف يدعى ثيسيوس، كان بطلا اغريقيا مشهودا اخذ على عاتقه مهمة تنظيف البلاد من السراق والقتلة.
وهذه المرة بدلا من ان يقوم بروكرست بملائمة ضيفه على السرير قام ثيسيوس بالعكس، أي وضع بروكرست في سريره، ثم قطع رأسه لكي يتسع له السرير. فكان جزاءه من جنس عمله.
في هذه الأسطورة كان بروكرست يطبق معياره الوحيد للحقيقة، ألا وهو طول السرير الذي يطابق طول بروكرست نفسه وكل شخص لا يتفق طوله مع نفس طول السرير كان يعذب ويقتل.

وتنتهي الأسطورة عند هذا الحد، ولكن لا تنتهي المعاناة!

فإن تلك الشخصية الأسطورية لم تمت إلا جسدًا، أما روحها فهي حاضرة وبقوة في جسد مجتمعاتنا العربية.
أن مجتمعنا العربي يحمل سرير بروكرست معه في كل جلسة للحوار، ناسياً أنه كما لأقدامنا مقاسات فإن لأفكارنا مقاسات تأبي المط أو التشكيل أو القولبة!
إن بروكرست مازالت روحه سارية في مجتمعاتنا
تجد روحه في رجال السياسة وكذلك رجال الدين والإعلام
وتمتد روحه لتسكن المعلمين وأساتذة الجامعات
فإما أن تتطابق أحلام الآخرين وأفكارهم وبرامج حياتهم مع أحلام وأفكار وبرامج هؤلاء، وإما أن يتم إخضاعها وتكييفها بالقهر والقوة البروكرستية.
في مجتمعاتنا نريد الأشخاص والأفكار والادب والفلسفة وحتى النظريات العلمية على مقاس سريرنا والا مصيرها جميعا القتل والتشويه.
لقد أصبح (بروكرست) على مر العصور مثالاً تلقائياً لكل من يجرك إلى زنزانة أفكاره، ومن يمارس عليك عمليتي القص واللزق قبل أن يحدد ما إذا كنت كفء أم لا.
تأصل هذا السلوك واقترن بـ (بروكرست) حتى تم اعتماد مصطلح (البروكرستية).
نعم لقد أصبحت البروكرستيه مصطلح مستخدم وترجمتها العربية هي القولبة الجبرية او احداث التجانس بين الناس بالعنف والاكراه بدون اعتبار للتنوع والاختلاف بين البشر.

انها طريقة غريبة في قتل الناس والأفكار!
ما لديك مختلف عما لدي إذا فليكن مصيرك القتل.
لا يُدرك كثرتنا أن للحقيقة أوجه مختلفة، قد لا تمثلها، لكنها قطعًا تعكس ضرورة اختلاف رؤيتنا.
أقول ذلك لكل من يجعل رأيه مقياسًا للحقيقة، معيارا للصواب والخطأ، القبول والرفض، والحب والعداء.
لا يعني ذلك بحالٍ من الأحوال أن الحقيقة في ذاتها ليست مطلقة، بل يعني بالأحرى أن معطياتنا الحسية، وقدراتنا العقلية على الإدراك تخضع لشروطٍ مكانية وزمانية متغيرة، وبالتالي فمعرفتنا بالأشياء والمواقف ليست مكتملة.
الحالة البروكرستية موجودة من حولنا، سواء في بيوتنا، عندما يحاول رب الأسرة قولبة الأبناء حسب مقاس قناعاته "وسرير" عقله. وفي مجتمعاتنا عندما يحاول كل طرف أن يثبت صحة أفكاره ومعتقداته بمجرد أنها متعارضة مع "سريره" العقلي. ولدى حكوماتنا أيضاً ذات السلوكيات، في تصريحاتها وإعلامها وسياساتها، فلا تروّج إلا لما يرضي رأس الدولة ويزيد من نرجسيته وتضخم ذاته، وتقمع وتشوه وتحاكم وتعزل الآخر المختلف، أكان فرداً أو جماعة، حتى ولو كان في قرار عقلاء الحكومة بأن وجودهم وتشجيعهم مفيد للحكومات..

خلاصة القول.. البروكرستية تمتد الى جميع نواحي الحياة، وقد تكون أنت أو أنا قد مارسناها، أو وقعنا ضحيتها، لذلك في المرة المقبلة حين تحل أي فكرة ضيفا على عقلك فحاول ان تعدل السرير لكي يلائم الضيف لا أن تقطع اوصال الضيف ليلائم سريرك
نعم قد نكون نحن مارسنا (البروكرستية) بشكل أو بآخر، بوعي منا أو بجهل. يحدث هذا عندما لا نقبل الاخر كما هو، بل نحاول حشره في صوره خلقناها لأنفسنا.
لاحظ عندما نحب من يشبهنا فإننا في الواقع نحب أنفسنا فقط، أما الآخرين فمجرد أطياف، والاختلافات مهما كانت صغيرة نحاول مطها أو بترها حتى تطابق سرير عقلنا الحديدي،
والكثير من الناس يعتبرك فراغاً.. معدماً.. حتى تشبهه!
حينها فقط يسمح لك بالارتقاء إلى طبقة المادة والوجود، يدرك أن لك كتلة من المشاعر، وتشغل حيزاً من الفكر
لا بل يعتمد دخولك جنات الخلد إذا كنت تشبهه،
لقد قرر سلفاً أن الجنة للمتشابهين والجحيم تتسع لكل من سواهم.
وكأن الحياة ليست كافية لممارسة (البروكرستية) فعليه أصبح من اللازم أن تمتد إلى ما بعد الوفاة ووراء الطبيعة
نحن حين نقتنع بأننا لسنا محور الكون وبأن هناك أناس ربما يختلفون معنا فكرياً
وان ما نراه اليوم صواباً ربما نغير قناعتنا به مستقبلاً،
وبأن رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب،
حينها نكون قد وضعنا أقدامنا على بداية الطريق الصحيح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شبح -الحي الميت- السنوار يخيم على قراءة الإعلام الإسرائيلي ل


.. الحركة الطلابية في الجامعات : هل توجد أطراف توظف الاحتجاجات




.. جنود ماكرون أو طائرات ال F16 .. من يصل أولاً إلى أوكرانيا؟؟


.. القناة 12الإسرائيلية: إسرائيل استخدمت قطر لتعمّق الانقسام ال




.. التنين الصيني يفرد جناحيه بوجه أميركا.. وأوروبا تائهة! | #ال