الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أور مدينة الثراء والرفاهية في بلاد الرافدين

عضيد جواد الخميسي

2023 / 2 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


أور مدينة في أرض سومر جنوب بلاد الرافدين . وحسب الروايات التوراتية ؛ سُميّت المدينة على اسم الشخص الذي وطأ أرضها لأول مرّة ( ناحور والد النبي إبراهيم ) " ثُمَّ أَخَذَ الْعَبْدُ عَشَرَةَ جِمَال مِنْ جِمَالِ مَوْلاَهُ، وَمَضَى وَجَمِيعُ خَيْرَاتِ مَوْلاَهُ فِي يَدِهِ. فَقَامَ وَذَهَبَ إِلَى أَرَامِ النَّهْرَيْنِ إِلَى مَدِينَةِ نَاحُورَ، بَلْ إِلَى أَرْضِي وَإِلَى عَشِيرَتِي تَذْهَبُ وَتَأْخُذُ زَوْجَةً لابْنِي إِسْحَاقَ" (سفرالتكوين 24: 4 ـ 10)، وأن هذا الأمر مازال محل خلاف بين علماء الآثار ورجال الدين . ويرد أيضاً في سفر التكوين ؛ بأن هناك صلة بين أور والأرض المقدّسة الأخرى ( كنعان) التي نزح اليها النبي إبراهيم عندما ترك أور ليستقر فيها . هذا الزعم أيضاً نقضه علماء الآثار الذين يَرَون أن موطن إبراهيم كان شمال بلاد الرافدين في مكان يسمى " أورا " بالقرب من مدينة حرّان ، وأن كتّاب الرواية التوراتية في سفر التكوين قد خلطوا بين المكانين .
على الرغم من ارتباط اسم أور مع الكتب التوراتية ، إلاّ أنها كانت مدينة ساحلية مهمة تطّل على مياه البحر الكبير . وعلى الأرجح ؛ أنها كانت قرية صغيرة في فترة العُبيد من تاريخ بلاد الرافدين (عام 5000-4100 قبل الميلاد) ، ومن ثمّ مدينة مأهولة بحلول عام 3800 قبل الميلاد، واستمرت حتى عام 450 قبل الميلاد. وقد باتت أور مشهورة في العصر الحديث بسبب ذكرها مراراً في نصوص التوراة ، ولكنها كانت مركزاً حضرياً مهماً قبل زمن طويل من كتابة التوراة .

الفترة المُبكرة والتنقيب
اشتهر موقع مدينة أور( تل المگيّر) في عام 1922 ميلادي عالمياً ؛ عندما قام السير "ليونارد وولي" بالتنقيب عن الآثار فيه ، واكتشف ما أسماه "حفرة الموت الكبيرة" ( مجموعة قبور منتظمة ) ، وعدد من المقابر الملكية . والأهم من ذلك ؛ زعم أنه عثر على أدلة تثبت حدوث الطوفان الكبير الموصوف في سفر التكوين (لقد تراجع وولي عن هذا التصريح لاحقاً ولكن لا يزال يجد له مناصرون) .

كانت أور مدينة ذات حجم ونطاق وثراء واسع ، حيث استمدّت ثروتها من خلال موقعها الاستراتيجي على ساحل البحر الكبير الذي سمح لها في نمّو تجارتها مع دول بعيدة مثل الهند . أمّا الموقع الحالي لآثار مدينة أور؛ هو أبعد بكثير مما كان عليه في الوقت الذي ازدهرت فيه المدينة ؛ بسبب طمي نهري دجلة والفرات وانحسار مياه البحر الكبير مع الزمن . ومنذ بدايتها كانت أور مركزاً تجارياً مهماً ، نظراً لموقعها عند نقطة تلاقي نهري دجلة والفرات اللذّان كانا يصبّان في مياه البحر الكبير مباشرة . حيث أثبتت التنقيبات الأثرية أن أور كانت تمتلك ثروة كبيرة في وقت مُبكر من تاريخها ، ومواطنوها كانوا يتمتعون بمستوى عالٍ من الرفاهية الغير مألوفة في مدن بلاد الرافدين الأخرى .

مثلما الحال مع المستوطنات الحضرية الكبرى الأخرى في المنطقة ؛ بدأت المدينة كقرية صغيرة يديرها على الأرجح كاهن أو كاهن ـ ملك. كما لم يُعرف عن "ميسانيبادا" كملك للأسرة الأولى ؛ إلاّ من خلال قائمة الملوك السومريين ، ومن نقوش القطع الأثرية الموجودة في مدافن أور. إذ من المعروف أن الأسرة الثانية كان لديها أربعة ملوك ، ولكن لايُستدّل على أسمائهم أو إنجازاتهم وتاريخهم في تلك الفترة . ويُعزى السبب في ذلك ؛ لربّما أعتبر كتّاب بلاد الرافدين الأوائل ؛ أنه ليس من المقبول تدوين منجزات البشر ومآثرهم بأسمائهم ، وفضلّوا في أن ينسبوها إلى الآلهة ؛ لأن تلك هي إرادتها وعلى البشر إدراك ذلك . وكان الملوك "المؤلّهون" القدامى مثل؛ "گلگامش" و"إتانا" وغيرهما، الذين لهم منجزات كبيرة؛ كانوا جديرين بالتدوين ، لكن الملوك البشر لم يحظو بنفس القدر من التقييم .

ملوك أكد العظام
تغيرت النظرة إلى الملوك والحكّام مع تولّي الملك "سرگون الأكدي" (عام 2334-2279 قبل الميلاد) عرش إمبراطوريته الأكدية التي امتدّ نفوذها إلى مناطق مختلفة من بلاد الرافدين ما بين عام 2334 وعام 2083 قبل الميلاد. حيث ادّعى الملك سرگون أنه وُلِد من كاهنة وإله ، وأن ماء نهر الفرات جرفه وهو طافٍ على سلة من البردي ؛ وخادم ملك مدينة لكش كان قد انتشله من النهر . ثمّ برز دوره في الحياة من طفل مجهول الهوية إلى ملك بلاد الرافدين بأكملها (بإرادة الإلهة إنانا). وأن عبارات النقوش التي تركها بعد وفاته ؛ تتحدى الملوك الذين من بعده في القيام بإنجازات مثل ما قدمه هو لشعبه ؛ فيما لو كانوا يأملون بتسمية أنفسهم ملوكاً !. وقد كانت حياته جديرة في أن يدونّها كتّاب البلاد لقرون بعد وفاته.
حفيده الملك "نارام ـ سين" (عام 2261 ـ 2224 قبل الميلاد) ، قد تعلّم الدرس جيداً في أهمية الدعاية الشخصية ؛ حيث ذهب إلى أبعد من جدّه وجعل من نفسه إلهاً في عهده . وبذلك أصبح قدوة لأولئك الملوك الذين جاؤوا من بعده . وكان سرگون الكبير و نارام ـ سين من أقوى حكام الإمبراطورية الأكدية ، وبمجرد سقوطها ؛ أصبحت أسماؤهم أسطورية ومنجزاتهم تستحق الفخر .
كان حكام الأسرة الثالثة في أور هم الأكثر إتبّاعاً لملوك أكد الكبار في إدارة البلاد. وتُعرف هذه الفترة في تاريخ سومر باسم "فترة أور الثالثة" (عام 2047-1750 قبل الميلاد) ؛ وهو العصر الذي بلغت فيه مدينة أور ذروتها . حيث يعود تاريخ زقورة أور العظيمة (التي لا تزال أطلالها قائمة إلى يومنا هذا) ؛ إلى تلك الفترة كما هو الحال بالنسبة لمعظم آثار المدينة والألواح الطينية المكتشفة هناك .
كان أعظم ملوك الأسرة الثالثة هما "أورـ نمّو" (عام 2047 ـ 2030 قبل الميلاد) ، وابنه "شولگي" (عام 2029-1982 قبل الميلاد) اللذان أسسا مجتمعاً حضرياً مكرّساً للتقدم الثقافي والتميّزالعمراني وما يُسمّى بـ "النهضة السومرية".

النهضة السومرية
كان الملك أورـ نمّو أول من شرّع القوانين المكتوبة في التاريخ قبل حوالي ثلاثمائة عام من شريعة "حمورابي" ملك بابل . فقد حكم مملكته وفقاً للتسلسل الهرمي الأبوي الذي كان فيه الأب الموجّه لأبنائه كي ينالوا السعادة والرخاء .
في عهد أورـ نمّو تم بناء الزقورة العظيمة وانتعشت التجارة ، ثمّ ازدهرت الفنون ، وأُبتكرت التكنولوجيا التي اشتهر بها السومريون في أور خلال ذلك الوقت .

يرى البروفيسور" پول كريڤاشيك"؛ لكي ينجح مثل هذا النظام الأبوي في الحكم ؛ يجب على الناس أن يؤمنوا بأن ملكهم أعظم وأقوى مما هم عليه ؛ مثل نفس نظرة الأبناء إلى آبائهم . من هذا المنطلق ؛ قدّم أورـ نمّو نفسه لمواطنيه بما يتماشى مع سيرة الملوك العظام (سرگون و نارام ـ سين) من أجل تحفيزهم على مناصرته في مسعاه للتميّز. إلاّ أن ابنه شولگي ذهب إلى أبعد من ذلك في محاولة لتجاوز مخططات وإنجازات والده . ومن الأمثلة على ذلك ؛ رحلته المشهورة جرياً على الأقدام، لإبهار شعبه ولتمييز نفسه عن والده . فقد ركض شولگي مسافة 160 كيلومتر ما بين المعبد في نيبور والعاصمة أور، ومن ثمّ العودة مرة أخرى في يوم واحد ، وذلك من أجل حضوره احتفالَيْن في كلتا المدينتين . وقد اتبّع شولگي خطى والده ، فأخذ يغيّر بعض الأساليب المتبعة عندما يرى ذلك مناسباً . كما يعتبر شولگي من أعظم ملوك سلالة أور الثالثة للحضارة الناهضة التي وصلت إليها في عهده .
بين العديد من مشاريع الإعمار الخاصة به ؛ كان هناك سور يمتد 250 كيلومتراً على طول حدود منطقة سومر لإبعاد القبائل الهمجية المعروفة باسم "مارتو" (أيضاً باسم تيدنوم) التي ذكرها كتّاب التوراة على أنهم العماليق/ العموريين ( الآموريون). وقد حافظ ابنه وحفيده الأكبر على السور الذي بناه الملك شولگي، لكنه لم يستطع كبح جماح القبائل الغازية على الحدود .
كان السور يمتّد بعيداً بحيث لا يمكن حمايته بشكل تام ، ولأنه لم يكن محكماً في أيّ من طرفيه ، كان الغزاة يتجاوزون تلك العقبة البسيطة بالالتفاف من حوله ودخول المدن . في عام 1750 قبل الميلاد ، اخترق جيش مملكة عيلام المجاورة السور فنهب وأحرق العاصمة أور، وأخذ آخر ملك لها أسيراً إلى عيلام . استغل الأموريون الفرصة ، فانقضّوا على المدينة و أحكموا سيطرتهم عليها ، وبمرور الزمن اندمجوا مع السكان السومريين . وبهذه الطريقة انتهت الثقافة السومرية بسقوط أور.

اِنحدار أور وعمليات التنقيب
في العصر البابلي القديم (عام 2000 -1600 قبل الميلاد) ؛ استمرت أور كمدينة ذات أهمية كبيرة ؛ حيث تُعدّ مركزاً للعلم والثقافة آنذاك . وحسب تعليق البروفيسورة "گويندولين ليك "، فإن "ورثة أور ملوك آيسن ولارسا ؛ كانوا حريصين على إظهار احترامهم وتقديرهم لآلهة أور من خلال إصلاح المعابد المدمرّة" (ص 180) . والملوك الكيشيون الذين احتلوا المنطقة لاحقاً ؛ قد فعلوا نفس الشيء ، كما الحكام الآشوريون الذين جاؤوا من بعدهم .
استمرت المدينة مأهولة بساكنيها خلال الجزء الأول من الفترة الأخمينية (عام 550-330 قبل الميلاد)، ولكن بسبب تغيّر المناخ والإفراط في استخدام الأرض الذي أدّى إلى ارتفاع نسبة ملوحة تربتها الزراعية ؛ هاجر العديد من الناس إلى مناطق مختلفة من بلاد الرافدين ومن ضمنها أرض كنعان (حيث زُعم أن النبي إبراهيم كان من بينهم ، حسب الرواية التوراتية). حيث تضاءلت أهمية أور عندما انحسرت مياه البحر الكبير شيئاً فشيئاً باتجاه الجنوب من المدينة ، ثم هُجرت المدينة كمركز سياسي وثقافي حوالي عام 450 قبل الميلاد.

كانت مدينة أور مدفونة تحت الرمال عندما زارها المستشرق الفرنسي "پيترو ديلا ڤالي" عام 1625 ميلادي؛ الذي رأى نقوشاً غريبة على ألواح طينية (عُرفت لاحقاً على أنها نصوص مسمارية ) ، وصوراً على قطع أثرية (أختام أسطوانية) تستخدم لتحديد الممتلكات أو التوقيع على الرسائل . وما بين عامي 1853 و 1854 ميلادي ؛ قام المستشرق البريطاني "جون جورج تيلور" بأوّل أعمال التنقيب في الموقع لصالح المتحف البريطاني، الذي لاحظ العديد من مجمّعات القبور، وخلص إلى أن الموقع ربما كان مقبرة بابلية .

أجرى السير "ليونارد وولي" التنقيب الحاسم لأطلال مدينة أور بين عامي 1922 و 1934 ميلادي ، بتمويل من المتحف البريطاني وجامعة پنسلفانيا . حيث كان وولي يأمل في العثور على شيء مثير للعجب في أور، مثلما حصل مع المستشرق "هوارد كارتر" عندما اكتشف قبر توت عنخ آمون في مصر عام 1922 ميلادي .
اكتشف وولي قبور ستة عشر ملكاً وملكة في أطلال أور ، بما في ذلك قبر الملكة "بوابي" (المعروفة أيضاً باسم شبعاد) وكنوزها . حيث كانت حفرة الموت الكبيرة كما أطلق عليها وولي؛ أكبر مقبرة قد تمّ الكشف عنها آنذاك . وفيها ؛"وجد وولي ستة حرّاس مسلحين و 68 امرأة من الوصيفات كنّ قد ربطن شرائط من الذهب والفضة بشعورهن ، باستثناء امرأة واحدة كانت لا تزال تمسك بيدها الشريط الفضي الملفوف الذي لم تكن قادرة على ربطه بعد جرعة السّم التي حملتها دون ألم إلى العالم الآخر مع سيّدها "(پيرتمان ،ص 36).

كما كشف وولي النقاب عن الأداء الملكي لأور عند الاحتفال بانتصار المدينة على أعدائها في الحرب ، والاحتفالات التي يستمتع بها الناس بفرح وبهجة. وفي محاولة لـ وولي بتفوقه على "كارتر" في اكتشاف قبر توت عنخ آمون ؛ ادّعى أنه وجد أدلة في أور عن حصول الطوفان التوراتي ، لكن الأبحاث التي أجراها مساعده "ماكس مالوان" ؛ أظهرت لاحقاً أن حجم الفيضان الذي حصل في المنطقة لا يُثبت أنه كان شاملاً في أنحاء الأرض ؛ بل كان ناجماً عن الفيضانات الموسمية المنتظمة لنهري دجلة والفرات .
وأكدت التنقيبات الأخرى في أور بعد وولي بصواب بحوث مالوان ؛ على الرغم من الاعتقاد السائد هوعكس ذلك . حيث لم يُعثرعلى أيّ دليل تاريخي ملموس يُثبت قصة الطوفان التوراتية في أور، ولا في أي مكان آخر من بلاد الرافدين .

كتب البروفيسور پيرتمان تعليقاً رائعاً في وصفه لمدينة أور:
"حتى لو جُرّدت أور المشهورة من صفاتها التوراتية ، فإنها لا تزال نموذجاً تأريخياً لامعاً عن العصر الذهبي لـ سومر . وعلى الرغم من أن قيثارتها لم تعد تعزف أنغاماً ، إلاّ أنه يمكننا سماع ألحانها العذبة بآذانٍ صاغية وقلوب مرهفة." (ص 36)

اليوم تُعتبر أطلال مدينة أور موقعاً أثرياً بالغ الأهمية يستمر في الكشف عن القطع الأثرية القيّمة كلما سنحت الفرصة في البحث والتنقيب . حيث ترتفع زقورة أور الكبيرة من السهول فوق أنقاض الطوب الطيني في المدينة التي كانت ذات يوم عظيمة . وكما تخيّلها البروفيسور پيرتمان ؛عند التنقل في أنحاء أور حيث عاصمة الثقافة والتجارة ؛ كانت تحميها الآلهة وهي مزهوّة وسط الحقول الزراعية الخصبة .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ستيڤن پيرتمان ـ دليل الحياة في بلاد الرافدين القديمة ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2005 .
صموئيل نوح كريمر ـ السومريون: تاريخهم وثقافتهم وشخصيتهم ـ مطبعة جامعة شيكاغو ـ 1971.
پول كريڤاشيك ـ بابل ـ ثوماس للكتاب ـ 2014 .
گويندولين ليك ـ بلاد الرافدين من الألف الى الياء ـ سكيركرو للطباعة ـ 2010 .
أماندا بوداني ـ الشرق الأدنى القديم: مقدمة قصيرة جداً ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2013 .
جوليان ريد ـ بلاد الرافدين (المتحف البريطاني) ـ مطبعة المتحف البريطاني ـ 2000 .
مارك ڤان دي ميروب ـ مدن بلاد الرافدين القديمة ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 1999 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو بين إرضاء حلفائه في الحكومة وقبول -صفقة الهدنة-؟| ال


.. فورين أفارز: لهذه الأسباب، على إسرائيل إعلان وقف إطلاق النار




.. حزب الله يرفض المبادرة الفرنسية و-فصل المسارات- بين غزة ولبن


.. السعودية.. المدينة المنورة تشهد أمطارا غير مسبوقة




.. وزير الخارجية الفرنسي في القاهرة، مقاربة مشتركة حول غزة