الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماركس...الإنسان لا يعيش بالخبز وحده

داود السلمان

2023 / 2 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لعل الفقر والعوز همها أصعب عملية إذلال يحظى بها البشر. فالإنسان إذا ما جاع وعرى لا تتأمن منه أن يتحوّل إلى حيوان كاسر، ينكر آدميته، ومستعد أن يفعل الأفاعيل في سبيل حصوله على ما يسد رمقه، وما يكسو بدنه.
وفي المقابل ثمة أُناس تمتلك من النقود خزائن القياصرة والاباطرة، ولا تدري كيف تنفقه، وتستخسر أن تنفق، ولو جزءً يسيرًا، منه على الفقراء والمعوزين؛ بل وصل بها الأمر إنهم يستغلون هؤلاء الفقراء، ويسرقون مجهودهم العضلي، والنفسي والبدني. والتاريخ مشحون بالقصص والحكايات حول الظلم والاستبداد وما وقع على البشر من عمليات سطو على قوت المعوزين، وفقدانهم مصادر العيش، وتعرّضهم إلى صنوف التنكيل والفقر المدقع. ففي القرن التاسع عشر تقع هناك عشرات المصانع والمعامل تابعة لأصحاب الأموال في انكلترا، تحديدًا، كان أصحابها يستغلون الفقراء ليعملوا في هذه المعامل بأجور زهيدة، تسد الرمع فحسب، من أجل اذلالهم وتركيعهم، واصرارهم على تواصل العمل بهذه المعامل والمصانع وبأجور زهيدة، بينما هم يتنعمون بتلك الأموال الطائلة، ويبذرونها في ملذاتهم، وأما الفقراء فيتضورون جوعًا، فلا يلتفتون اليهم. فالثورة الصناعية أثرت على الفقراء تأثيرًا منقطع النظير حيث عمَ الظلم أوروبا برمتها.
وكان كارل ماركس يؤمن بمبدأ المساواة، ويرغب بتوزيع الثروات بالتساوي على الناس، لا يفرق بين إنسانٍ وآخر، بل الكل يتساوى أمام القانون، خصوصًا وإن ماركس كان قد درس القانون وعرف أهميته، والكل يجب أن تأخذ ما يستحق فلا ينقص من حقه مثال ذرة. كل هذا وماركس يحلم بثورة عارمة تجتاح أوروبا بأكملها، لتغيير الوضع السياسي العام، وتلك الانظمة المجحفة، فالرجل هذا كان شعلة من نار تتوقد، كأنه وُلد ثوريًا، وأعلن ذلك من خلال مقالاته التي كان ينشرها، في المجلات والصحف، ويأخذ اجورها كمصدر عيش، وترأس صحيفة قامت السلطة بغلقها. وعلى إثرها أخذ ماركس يتنقل بين ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وانكلترا، تفاديا للمطاردة التي تلاحقه من قبل السلطات.
بينما السلطة كانت تراقبه عن كثب، وتترصد حركاته وسكناته، وتقرأ ما يصدر عنه من مقالات يستشفون منها نفس ثوري، وعداوة واحة للسلطة الحاكمة آنذاك. وحينما ضيقت السلطة بوجهه الخناق فرّ الى فرنسا، لعله هناك يجد الأمان والعيش الرغيد لكي يعدّ العدّة لثورته، المؤمل القيام بها، تلك الثورة التي اراد منها انقاذ فقراء العالم من يدّ اصحاب رؤوس الأموال من البرجوازيين، وما كان منه إلّا رفع شعار: "يا عمال العالم اتحدوا". لأنّ باتحادهم سيهزمون عدوهم اللدود الجاثم على صدورهم، السارق خيراتهم. وهذا الشعار لم يقله أحد من قبله ولا من بعده.
والرجل هو نفسه قد اصابته محنة العوز والحرمان بمقتل، وضيق العيش، حيث ماتوا ثلاثة من أولاده نتيجة المرض والجوع، وكان لا يمتلك الأموال التي يشتري بها الدواء ليعالج بها أبنائه، الذين كان مجموعهم ستة أفراد، وبموت الثلاثة بقي له منهم ثلاث. ومرّت على ماركس أيام وشهور لا يمتلك سنتاً واحدًا يصرفه على اسرته، فكان صديقه انجلس يبعث له ببعض الاموال فيشتري فيها بطاطس، لا غير، فهي الغداء الوحيد الذي كان يدخل امعائهم، لمدة طويلة.
كل هذه المحن التي تلقي بظلالها على رأس ماركس، لكنه كان صامدًا كالجل الأشم، لا تحرك الريح شراع سفينة صبره، العائمة وسط بحر العزيمة والاصرار على التحدّي، والاندفاع إلى الأمام، لتحقيق ثرته ضد الظلم والاستبداد. فكان يدخل المكتبات ويعكف على القراءة والتأمل والتحليل، وعلى النقد ومواصلة الكتابة بشكل منتظم، حتى وصف أحد الكتاب مقالات ماركس التي كتبها الى الصحف تبلغ عشرات المجدات.
يذكر رسل في كتابه "حكمة الغرب" الجزء الثاني إن ماركس: "ينحدِر من أسرةٍ يهودية تحوَّلت إلى البروتستانتية. وقد تأثَّر بقوة، خلال أيام دراسته الجامعية، بالهيجلية التي كانت هي الموجة السائدة عندئذٍ. ثم اشتغل بالصحافة، ولكن عملَه هذا توقَّف فجأة عندما حظرت السلطات البروسية «مجلة الراين» التي كان يعمل بها عام ١٨٤٣م. عندئذٍ سافر ماركس إلى فرنسا وتعرَّف إلى كبار الاشتراكيين الفرنسيين. وفي باريس قابل فريدرش إنجلز Friedrich Engels الذي كان أبوه يملك مصانع في ألمانيا ومانشستر. وكان إنجلز يُدير المصنع الأخير، مما أتاح له أن يطَّلِع ماركس على مشكلات العمل والصناعة في إنجلترا. وقد نشَر ماركس «البيان الشيوعي» عشية ثورة ١٨٤٨م، وشارك بنشاطٍ في الثورة، في فرنسا وألمانيا. وفي عام ١٨٤٩م أصدرت حكومة بروسيا حكمًا بنفيه، فالتجأ إلى لندن، حيث ظلَّ — باستثناء بضع رحلاتٍ قصيرة إلى موطنه — حتى نهاية حياته. وقد كان ماركس وأُسرته يعيشون أساسًا على المعونة التي يقدِّمها إليهم إنجلز. ولكن ماركس كان، على الرغم من فقره، يدرس ويكتُب بحماسة، مُمهِّدًا بذلك الطريق للثورة الاجتماعية التي شعَر بأنها وشيكة الوقوع".
على أن الجانب الذي استهوى ماركس اكثر من سواه، هو الجانب الاقتصادي، فكان ينظر لعلم الاقتصاد، لأنه كان يرى الجانب الاقتصادي هو الركيزة المهمة، والمهمة جدا هي الركيزة الاقتصادية، فلا يمكن أن يقيم أود الدولة الطموحة الشامخة إلّا الاقتصاد، وكلما كان الدولة اقتصادها واسع وكبير، وتستطيع أن تقيم به المشاريع المستقبلية، كلما كانت دولة ناجحة متقدمة وفي طريقها للمستقبل الزاهر، أكثر فأكثر، عكس الدولة التي اقتصادها متذبذب وفي طريقه الى الانهيار.
أهم كتاب تركه لما ماركس هو "رأس المال" وأن كان الكتاب عبارة عن تنظير في علم الاقتصاد، إلّا إنّه يعبّر في ماركس عن اتجاهاته الفلسفية.
وينقسم الكتاب إلى اربعة قضايا رئيسية، بحسب تقسيم يوسف كرم في كتابه "تاريخ الفلسفة الحديثة".
القضية الأولى: أن القيمة الحقة لكل سلعة تعادل كمية العمل المتحقق فيها، بحيث يعتبر العامل المصدر الوحيد لهذه القيمة ومن ثمة المالك الوحيد للسلعة، وتقدر هذه القيمة بالزمن المخصص للإنتاج، مع مراعاة المتوسط تفاديًا للاختلاف بين عامل وآخر، أي مع افتراض عامل متوسط المهارة وظروف عادية:
القضية الثانية: أن النظام الرأسمالي يحرم العامل جزءًا من قيمة عمله، وهذا الجزء هو الزيادة في قيمة السلعة وهو ربح صاحب المال، وهذا الربح يتكدس فيكون رأس المال، فرأس المال «سرقة متصلة وافتئات على العمل»، وهو أداة سيطرة صاحب العمل على العامل؛ فإن الأول لا يدفع إلى الثاني قيمة عمله وإنما يدفع إليه ما يسد رمقه بل أقل من ذلك إذا رضي العامل تبعًا لقانون العرض والطلب.
القضية الثالثة: أن من شأن الصناعة الآلية متى استخدمها الطمع المطلق من كل قيد أن تزيد التعارض عنفًا بين رأس المال والعمل، فإن كبار الماليين يتغلبون على الضعاف من منافسيهم ويؤلفون شركات قوية تستغل المال إلى أبعد حد وينتهي الماليون المتواضعون وأهل الطبقة الوسطى إلى الانضمام إلى صفوف المعوزين، فتقف الطبقتان وجهًا لوجه، ولكن المعوزين يحسون تضامنهم في جميع البلدان، فيدركون شيئًا فشيئًا مصلحتهم وحقهم وقوتهم، وكارل ماركس يسهب في وصف مراحل هذا التطور.
القضية الرابعة: أن الطبقة العاملة، وهي الحاصلة على الحق والعدد والقوة، ستفوز حتمًا على الماليين فتنتزع الملكيات بتعويض أصحابها وتجعل من الثروات والمرافق ملكية مشاعة بين الجميع، فيتناول كلٌّ قيمة عمله كاملة ويجد فيها ما يكفي لإرضاء جميع حاجاته ويزيد.
هذا، ويقرر ماركس إنّ رجال الدين استغلوا الدين لطموحاتهم الشخصية، لذلك خضعت الناس لهم، وادانت بما يقولون وبما يقررون، فصاروا بالتالي هم اسيادهم، والناس رعية يأتمرون بأوامرهم وينفذون كل ذلك طواعية وعن طيب خاطر، فلا يعترضون ولا يسألون ولا يناقشون، صم بكم، فأوامرهم أوامر إلهية، وما عليهم إلا الطاعة العمياء. وعليه كان ماركس يقول: "إن الدين أفيون الشعوب".
النتيجة، إن الشيوعيين تبنوا أفكار ماركس هذه، فأقاموا عليها أنظمة سياسية ما تزال بعض الدول تتبنى هذه الأفكار التي طرحها الرجل، وتعمل بها إلى يومنا هذا. وكانوا قد أطلقوا عليه "نبي الفقراء". وهذا يعني إن ماركس مازال حيًا ينبض بالوجود.
مصادر البحث:
1-برتراند رسل، حكمة الغرب، الجزء الثاني، منشورات الكويت، سلسلة عالم المعرفة.
2-الموسوعة الفلسفية، وضع مجموعة من علماء السوفيات، بيروت لبنان، سنة الطبع 1974، الطبعة الأولى.
3-يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، دار القلم بيروت، بدون ذكر سنة الطبع.
4-نايجل واربرتون، محتصر تاريخ الفلسفة، ترجمة محمد فضل، دار الكتب العلمية، سنة الطبع 2019 الطبعة الأولى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشاد: انتخابات رئاسية في البلاد بعد ثلاث سنوات من استيلاء ال


.. تسجيل صوتي مسرّب قد يورط ترامب في قضية -شراء الصمت- | #سوشال




.. غارة إسرائيلية على رفح جنوبي غزة


.. 4 شهداء بينهم طفلان في قصف إسرائيلي لمنز عائلة أبو لبدة في ح




.. عاجل| الجيش الإسرائيلي يدعو سكان رفح إلى الإخلاء الفوري إلى