الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الباريدوليا، أو الصور الجانبية

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2023 / 2 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


قد يعيش الإنسان احيانا بعض الظواهر الغريبة نظرا لتشوش الحواس أو نظرا للتعب والإرهاق النفسي والجسدي أو نظرا لتناول بعض المواد المعروفة بالمخدرات والذي يجعل الحواس تغير الإدراك بالواقع كما هو متعارف عليه. فقد يحدث في لحظات الأرق الناتج عن التعب الشديد والإرهاق النفسي والجسدي، أن يحاول الإنسان النوم بإغماض عينيه والإنتظار، غير أن النوم لا يأتي، بل يبدو بعيدا وكأن الوعي يرفض أن يستسلم ويتشبث بالواقع رغم الإرهاق المتزايد. وفي هذه اللحظات تستمر الحواس، وبالذات حاسة السمع في هذه الحالة، تستمر في تلقي وترجمة ما يحيط بنا من الظواهر، سواء المتعلقة بالصوت أو الصورة، كذلك بالروائح ودرجة الحرارة والرطوبة .. إلخ، وقد نسمع أصواتا تتحدث بصوت خافت، أحيانا قد تبدو بعيدة وغير واضحة، غير أن هذه التمتمة تبدو كأنها كلمات واضحة تتحدث عن أشياء نعرفها أو عشناها منذ فترة وقد تذكر تفاصيل معينة عن إهتماماتنا قبل الإستلقاء ومحاولة النوم. وعموما نسمع حديثا يعنينا بطريقة أو باخرى، بل قد يسمع الإنسان إسمه يُنطق بوضوح. غير أنه عندما ننتبه أو نحاول معرفة مصدر هذه الأصوات، نكتشف أنها أصوات أناس يتحدثون بلغة أخرى غير لغتنا ولا علاقة لهم بنا، وأحيانا نكتشف أنها ليست أصواتا بشرية على الإطلاق، وأن مصدرها أزيز بعيد لآلة ما، مروحة هوائية، صوت جهاز التكييف، غسالة الملابس أو جهاز الراديو الذي يبث برنامجا عن موضوع لا علاقة له بما "يخيل" إلينا أننا سمعناه.
هذه الظاهرة تنتمي إلى ما يمكن تسميته بالخيال الواعي أو الإدراكي، أو بالأوهام السمعية والبصرية، وهي ظاهرة تقع في منتصف الطريق بين الإدراك والخيال إن صح التعبير. فالإنسان عندما يفقد التركيز على الواقع لأي سبب من الأسباب، تصبح كل الظواهر المحيطة مغلفة بالضباب فتقل الرؤية وتتشوش المصادر ويعجز الوعي الإدراكي عن تحديد ماهية هذه الظواهر، فيتدخل الوعي الخيالي للتصحيح، فالأصوات، مهما كان مصدرها، تتجمع وتتكون في صورة سرد خيالي منطقي قابل للتسجيل في قائمة الظواهر المدركة والمعروفة، سواء سمعيا أو بصريا. وهذه الأصوات الحقيقية والواقعية التي نسمعها، نظرا لأنها مشوشة وبعيدة وغير مفهومة، فإنها تترجم إلى أصوات خيالية مفهومة، ووعينا مضطر لإدراجها في الخانات والأدراج المتواجدة في الذاكرة أو في تجاربنا السابقة. وبذلك تتضح الأصوات المبهمة وتأخد أشكالا وصورا مألوفة في لغتنا المتعارف عليها حتى ولو كانت هذه الأصوات في لغة أخرى أو صادرة عن مصدر غير بشري. وهذا التغير أو التأقلم للمدركات الواعية وإنقلابها إلى ظاهرة خيالية نلاحظها بوضوح أكثر في الأحلام، رغم أن الظاهرة في حد ذاتها أكثر تعقيدا من الهلوسة "الواعية". حيث الضجيج والأصوات الجانبية المحيطة بالنائم، تدخل في نسيج سرد خيالي متواصل يسمح للنائم بإستمراره في النوم دون إنقطاعه بالإستيقاظ. فالضجيج والحديث أو تغير درجة الحرارة أو الإحساس بالبرد أو العطش والجوع أو الرغبة في التبول مثلا، كل ذلك يدخل في نسيج حلم يشكل قصة خيالية تسمح للنائم بمواصلة النوم وعدم الإستيقاظ نتيجة هذه الظواهر المزعجة.
الذي يهمنا في هذا المقام ليس دراسة الأحلام ولا ميكانيزم الخيال أثناء النوم، وإنما أثناء اليقظة، وهي الظاهرة المعروفة بإسم الصور الجانبية، المتعلقة بالصور والمناظر والأحداث التي تظهر للإنسان بمجرد تأمل السحب أوالدخان، الجدران القديمة أو أسطح الصفيح الصدئة وبقع الزيت على البرك المائية على الإسفلت وغيرها من الأمثلة، حيث تظهر هذه الصور في حالة الإدراك العادية، حتى لا نقول الطبيعية، وذلك بدون أن تكون هذه الصور والمناظر والأصوات متواجدة فعليا فيما نتأمله.
وهذه الظاهرة تسمى بالباريدوليا - Pareidolia، وهي كلمة مشتقة من الكلمات اليونانية pará - παρά، بمعنى "بجانب ، جنب ، بدلاً من" والاسم eídōlon - εἴδωλον بمعنى "صورة، شكل". وهي ظاهرة نفسية يستجيب فيها العقل لمحفز عشوائي، عادة ما يكون صورة أو صوتا أو رائحة، بإدراك نمط مألوف بالرغم من أنه لا يوجد رابط أو علاقة حقيقية بين الحافز والصورة المدركة. مثل تخيل صور للحيوانات أو الأشخاص في تشكيلات وتكوينات السحب، رؤية وجه إنسان في سطح القمر أو المثال المعروف بأرنب القمر، أو سماع أصوات خفية في التسجيلات عند تشغيلها عكسياً. هو ميل الإدراك لفرض تفسير ذي مغزى والتعرف على منبه غامض، عادةً ما يكون مرئيًا، بحيث يرى المرء صورة أو صوتا أو نمطًا أو شيئًا ذو معنى حيث لا يوجد في الحقيقة أي شيء. وتعبر الباريدوليا عادة عن تغييرهلوسي، أو عن نوع من الهلوسة الجزئية، وتخيل الصور الثانوية. قد يمتد مفهوم الباريدوليا ليشمل الرسائل المخفية في الموسيقى المسجلة التي يتم تشغيلها في الاتجاه المعاكس أو بسرعات أعلى أو أقل من المعتاد، وسماع أصوات - غير واضحة بشكل أساسي - أو موسيقى في ضوضاء عشوائية، مثل تلك التي تنتجها مكيفات الهواء أو المراوح أو أصوات الآلات المنزلية المختلفة كالثلاجة أو آلة القهوة الكهربائية أو غسالة الملابس.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جامعة كولومبيا تلغي حفل التخرج الرئيسي جراء الاحتجاجات المؤي


.. بالمسيرات وصواريخ الكاتيوشا.. حزب الله يعلن تنفيذ هجمات على




.. أسقط جيش الاحتلال الإسرائيلي عدداً كبيراً من مسيّراته خلال ح


.. أردوغان: سعداء لأن حركة حماس وافقت على وقف إطلاق النار وعلى




.. مشاهد من زاوية أخرى تظهر اقتحام دبابات للجيش الإسرائيلي معبر