الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكَهْفُ الافتراضي: هل فكرنا يوماً في السوشيال ميديا أَمْ عَلى قُلوبٍ أقفالها؟

زكرياء مزواري

2023 / 2 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


استعارة الكهف:
لم تعد الدراسات الحديثة تنظر للاستعارة كمجرد أداة لزخرفة القول، بل صارت تتأملها كوسيلة لمعرفة كيفية اشتغال الذهن في نظرته للواقع وتمثله؛ فالذهن في تعامله مع الوقائع، يسعى إلى التقاط الثابت الكامن وراء المتغير، ويهدف إلى الإمساك بالجوهر الثاوي خلف العَرَض، وذلك بغرض وضع نماذج معرفية تيسّر عليه مسألة الفهم والتفسير.
لعلّ علاقة الفلسفة بالأسطورة –اللوغوس/ الميتوس- علاقة قديمة قدم تاريخ الفلسفة؛ وعلى مدار هذا التاريخ المديد، لجأ الفلاسفة مراراً إلى توظيف الأسطورة كلغة استعارية، لتمرير أفكارهم، ومقاربة موضوعاتهم. ويكفي أن نذكر الفيسلوف اليوناني أفلاطون حتّى نتذكر أسطورته الشهيرة "الكهف"، كما وردت في الباب السابع من كتاب "الجمهورية".
إن أسطورة "الكهف" عند أفلاطون كاستعارة معرفية، تحكي عن طائفة من الرجال "قبعوا في مسكن تحت الأرض على شكل كهف، تطل فتحته على النور، ويليها ممر يوصل إلى الكهف، هناك ظل هؤلاء الناس منذ نعومة أظافرهم، وقد قيدت أرجلهم وأعناقهم بأغلال، بحيث لا يستطيعون التحرك من أماكنهم، ولا رؤية أي شيء سوى ما يقع أمام أنظارهم، إذ تعوقهم الأغلال عن التلفت حولهم برؤوسهم. ومن ورائهم تضيء نار أشعلت عن بعد في موضع عال. وبين النار والسجناء طريق مرتفع. ولنتخيل على طول هذه الطريق جدارا صغيرا، مشابها لتلك الحواجز التي نجدها في مسرح العرائس المتحركة، والتي تخفي اللاعبين وهم يعرضون ألعابهم". ثمّ يضيف أفلاطون: "فلنتأمل الآن ما الذي سيحدث بالطبيعة إذا رفعنا عنهم قيودهم وشفيناهم من جهلهم، فلنفترض أننا أطلقنا سراح واحد من هؤلاء السجناء، وأرغمناه على أن ينهض فجأة، ويدير رأسه، ويسير رافعا عينيه نحو النور. عندئذ تكون كل حركة من هذه الحركات مؤلمة له، وسوف ينبهر إلى حد يعجز منه عن رؤية الأشياء التي كان يرى ظلالها من قبل. فما الذي تظنه سيقول، إذا أنبأه أحد بأن ما كان يراه من قبل وهم باطل، وأن رؤيته الآن أدق، لأنه أقرب إلى الحقيقة[...]".
إن استعارة الكهف هنا، كما ساقها أفلاطون، تحمل نظرية في المعرفة؛ فالنفس الإنسانية في سعيها إلى معرفة العالم، شبيهة بذلك السجين المكبّل بالأغلال، والذي لم يدرك الحقيقة إلاّ حين تخلص من القيود. فالكهف هو رمز للعالم المادي، عالم الظواهر والأشياء، العالم الذي ندركه بحواسنا، والظلال المنعكسة على جدرانه، هي تمثلاتنا لهذه الظواهر، وآراؤنا حولها، ولكن السجناء من فرط إغراقهم في هذا العالم المحسوس، اعتقدوا أن كل ما يرونه هو الحقيقة بعينها، وأن لا شيء وراء هذا العالم. بينما السّجين الذي أتيحت له فرصة التحرر، اكتشف أن ما كان عليه حاله في السابق، لم يكن إلاّ حالة وهمٍ وتخديرٍ وتزييفٍ، وما الأشكال والصور التي نقلتها له حاسة البصر، إلا انعكاس للصور العقلية الحقيقية الموجودة في عالم المثل، والتي لا تدرك إلا بالعقل. فالكهف رمز للجسد الذي يقبر النفس عن التحرر، ومتى انعتق المرء من قيوده وانفعالاته وميولاته، صفت نفسه، وأدركت الأشياء كما هي، فالحقيقة إذن بنت العالم المعقول وليس العالم المحسوس.
كهف السوشيال ميديا:
تعلمنّا أسطورة الكهف من الناحية العلمية والمنهجية، ضرورة مساءلة الأداة التي ننتج بها المعرفة، وندرك بها الأشياء التي تحيط بنا، ومتّى قلّبنا النّظر في الأداة، أعدنا التفكير في الكثير من المسلمات والبداهات.
إن استعارة الكهف تكتسب راهنيتها اليوم في عالم الرقمنة، العالم الذي بسط فيه الأنترنت غيوطه العنكبوتية على مجمل نشاطات الإنسان، وأعاد تشكيله بكيفية تتماشى واليد الخفية المحركة للأشياء. لقد بات إنسان التقانة المعاصر عالقاً في شباك العنكبوت الرمزية، لا يرى إلا الظلال المنعكسة على جدران شبكات التواصل الاجتماعي، ولا يأخذ من الآراء والمقاييس من الأحكام إلاّ تلك التي يسمعها أو يناقشها مع العالقين مثله في هذه الشبكة، بينما هو في غفلة عن محركي الدمى من رجال اقتصاد وسياسة واستخبارات، أصحاب الأيادي الخفية، ممن يتلاعبون بالعقول والنفوس، موهمين السجناء الافتراضين الجدد، بحقيقة ما يروه من رسوم وأشكال، بينما هي مجرد أوهام وضلال.
يحيل الكهف الافتراضي على الشكل الجديد الذي بات يحيى داخله الإنسان الأخير، ويقضي أغلب أوقاته فيه، لا موضوع يشغل باله إلاّ ما يطرحه المكبلون مثله بقيود العنكبوت، ولا همّ له إلاّ مشاركتهم برأي، أو الانصياع لحكم، أو خوض حرب ضروس، تجاه ظل من الظلال المنعكسة على جدران المنصات الرقمية.
يرمز الكهف إلى الجهل والسذاجة التي ينعم السجين الافتراضي فيها، فهو بمجرد تحميله لتطبيقات السوشيال ميديا، ينسى من فرط عبوديته الطوعية، قراءة التزام التطبيق، ويسارع عبر أزار الموافقة إلى تأكيد التحميل، ثم ينخرط في ملء الخانات المتعلقة ببياناته الشخصية، دون أن يعلم الجهة التي يقدم لها هذه الخدمات المجانية.
إن عبيد أفلاطون المزهوون بكهفهم الافتراضي، ينسون الرّاقص الذي يحركهم على رُكْحِ شبكات التواصل الاجتماعي عن بُعدٍ ومن وراء حجاب؛ فهؤلاء العبيد، بتعبير "دوغان مارك" و"لابي كريستوف"، في "كهف مظلم تحت رحمة حراس يمنعونهم من الخروج ومن تصور عالم آخر غير عالم الكهف، وبذلك حرموا من الشمس والحقيقة ودفء الحياة، لقد كانت ظلال أجسامهم وحدها تتحرك أمامهم وتوهمهم بأنها الحقيقة ولا شيء غيرها".
لقد صارت حالة الإنسان الرقمي، مثل حالة كلب بافلوف الشرطية، بحيث بات سلوكه قابلاً للتوقع والتنبؤ؛ فاللوغاريتمات الذكية الموجودة في تطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي، قادرة على قراءة ميولاته وأذواقه، فالمدة الزمنية التي يقضيها في مشاهدة مقطع فيديو مثلاً، مرصودة بالثواني والدقائق، وبالتالي يسجل هذا التطبيق في ذاكرته طبيعة هوى المبحر/السجين، وبعدها يعمل على انتقاء فيديوهات من شاكلة ما شاهده، ثم يبرمجه ويوجهه بطريقة تجعله أسيراً في عالم الشبكة/السجن.
إن شفافية الذات في الكهف الافتراضي أمست واضحة، وهويته ضحلة لا غور فيها، إذ لم يعد لإنسان شبكات التواصل الاجتماعي شيء جوّاني يفخر به، أو عالم حميمي يلوذ إليه، أو حدائق سرية يطلبها، متى تعب من صخب الفضاء العام. فهذا الإجهاز التام على هذه الثنائية، ثنائية العام والخاص، خلق جيلاً رقمياً عارياً؛ فالمنزل مثلاً الذي هو رمزٌ للسكينة والراحة والسترة (جاء في المثل الشعبي: «داري ستارة عاري «)، لم يعد اليوم كذلك، بعد اقتحام الآلات الذكية من لوحات وشاشات وكاميرات له، وصيرته منزلاً مصنوعاً من زجاجٍ.
إن هذا العري الطوعي للذات في الكهف الافتراضي، جعل منها ذاتاً سطحية وشفافة يستطيع من خلالها الأخ الأكبر (Big Brother) رؤية كل شيء، هذا الأخ السلطوي كما رسمه جورج أوريل في رائعته الروائية "1984"، لم يعد هو الطاغية السياسي المستبد بالسلطة ويراقب خصوصيات الناس، بل صار اليوم "البيغ داتا" (Big Data)، وهي عبارة عن شركات معلوماتية عملاقة تجمع البيانات وتعالجها انطلاقاً من الآثار الرقمية التي يتركها المبحرون الافتراضيون. هذه المعطيات بالنسبة لهذه المؤسسات، هي بمثابة منجم للذهب الأسود بالنسبة للدول القوية، لذلك يزداد يوماً بعد يوم طلب خدماتها من المصالح الاستخباراتية أو المؤسسات التجارية، ما دامت تعرف كل شيء عن الناس، سواء من حيث ميولاتهم وعاداتهم الاستهلاكية، أو من حيث آرائهم وقناعاتهم في السياسة والاجتماع.
وفي الختام، لا أجد توصيفاً يليق بإنسان شبكات التواصل الاجتماعي سوى ذاك التوصيف الذي يشبهه بالبصل، فهو عبارة عن طبقات من قشور موضوعة بعضها فوق بعض، وكل غلاف يقودك إلى غلاف آخر، إلى أن تنتهي البصلة وتختفي. وهكذا جرّدت هذه الشبكات الإنسان من كل صبغة للقداسة، وأفرغته تماماً من الداخل، وجعلته مجرد قشّة في مهبّ الرّياح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا تلوح بإرسال قوات إلى أوكرانيا دفاعا عن أمن أوروبا


.. مجلس الحرب الإسرائيلي يعقد اجتماعا بشأن عملية رفح وصفقة التب




.. بايدن منتقدا الاحتجاجات الجامعية: -تدمير الممتلكات ليس احتجا


.. عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تغلق شارعا رئيسيا قرب و




.. أبرز ما تناولة الإعلام الإسرائيلي بشأن تداعيات الحرب على قطا