الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفعل الاخلاقي كقضية تركيبية قبلية عند كنط

القاسم محمد
طالب

(Al-kasim Mohammed)

2023 / 2 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يقال أن الفطنة تكمن في بعد التفكير, أو القدرة على اكتشاف الجانب اللامنظور للظواهر رغم اصطدامها المستمر بعناصر الحساسية عند الأنسان, أن الفطنة بحق هي اقتدار الأنسان على استخراج نتائج جديدة من بديهيات ضاربة في القدم, وهذا بحق ما فعله نبي الالمان عمانؤيل كنط.
لسنا هنا بصدد الحديث عن الشهير من ثلاثيته النقدية – أعني نقد العقل المحض – فقد طالت الشروحات واستفاضت عنه و لا يعيب علينا أن نصمت بصددها, فالصمت هو الاخر فعل فلسفي وعندما تصمت الفلسفة فأنها تعكس الواقع الخارجي للناظر, أما الصمت في نطاق القول الكانطي فهو جمال "والصمت في حرم الجمال جمال". أما الغرض من هذه الأسطر القليلة القادمة هو أن نتكلم بإيجاز عن بعض إسهامات كنط التي نالها النسيان وبقيت حبيسة للكتب والمجلدات, وأعني هنا العقل العملي كما أظهر مداه كنط بعملية النقد.
كانت المرة الأولى التي تعرض فيها كنط للمشكلة الأخلاقية هي في كتابه " تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق " الذي تجلت فيه قدرات كنط الفلسفية بطريقة أعطت للفعل الأخلاقي من الأصالة ما أفقدته اياه جميع الفلسفات السابقة, فراح يشن حملة على جميع فلاسفة الاخلاق السابقين الذين أسسوا الاخلاق على معطيات تجريبية بعدية ورفض أن يكون مصدر الاخلاق خارجا عن النفس البشرية, انما هي تكمن ضمن العقل العملي للإنسان. رفض كنط الانطلاق من أي معطى حسي, أذ تعتمد قيمة هذه المعطيات على السياق الذي تؤخذ فيه وحتى أنبل الفضائل كفضيلة ضبط النفس أذا ما وجدت عند احد المجرمين لتحول الى قاتل بارد المشاعر. وعليه فأن الفضيلة الوحيدة التي يمكن ان تعتبر خيرا بذاتها هي الإرادة الطيبة التي ينبثق عنها الفعل. فالمسلمات التي ننطلق منها لإداء فعل ما هي ما يحدد اخلاقية هذا الفعل, لا النتائج المترتبة عليه وفي هذا ضرب من التزمت الاخلاقي ورفض للتجريبية والبراغماتية في آن واحد. إذ تظل النية الطيبة في نظر كنط تشع كالجوهرة حتى لو لم يؤدي الفعل اي نتائج مرجوة. ولكي تصبح الارادة طيبة يجب أن تقترن "بالواجب" أي ان يصدر الفعل عن الزام عقلي تمارسه الارادة تجاه الذات. والواجب هنا خلو من أي عاطفة بشرية أو تلقائية مباشرة أو نزعة قانونية, إنما هو خير بذاته. فالإنسان الذي يمتنع عن قتل نفسه لإحساسه بالذنب أو الخوف لا يمكن أن يصدر فعله عن شعور بالواجب فلا يعتبر بذلك فعلا اخلاقيا, أما الذي يمتنع عن قتل لنفسه رغم منغصات العيش لإدراكه ان هذا الفعل خطأ بحد ذاته ولإحساسه بالواجب العقلي تجاه نفسه فهو قد أقدم على فعل اخلاقي.
أقول ينبغي اذا اردنا ان لا نجانب الاخلاق أن ننفي عن مسلمات افعالنا – أعني بالمسلمات المبادئ التي ننطلق منها – أي عاطفة أو نزعة تجريبية, فالذي يصدر الاحسان رغم خلو قلبه من اي عاطفة تجاه البشر ربما ينطوي فعله على نزعة اخلاقية اكثر ممن يفعل الانسان نتيجة ميل طبيعي لحب البشر. فالواجب -حسب كنط- هو ضرورة اداء الفعل احتراما للقانون.
أذن ينبغي ان ننزع عن الافعال اي عاطفة أو تجربة وأن نفعل الفعل للفعل ذاته لا للنتائج المترتبة عليه, أما انتظار الخير أو الجزاء الحسن فهذا يضفي على افعالنا صفة الشرطية وينزع عنها الاخلاقية.
فسمات الواجب هو أن يكون صوريا محضا أي قانونا عاما او قاعدة شاملة منزوعة المادة تصلح لجميع البشر ولا صلة لها بتغيرات التجربة, وأن يكون منزها من كل غرض كبلوغ غاية ما او تحقيق السعادة بل يطلب لذاته وأن يكون قانونا مطلقا غير مشروط, أي لا سبيل لتأسيسه على شيء أخر بل هو قضية تركيبية قبلية صرفة للعقل المحض وأي بعد حسي نظفيه على الواجب الاخلاقي أنما يأخذ من هذا الواجب بنفس القدر الذي اعتقدنا انها يعطيه.
للإيضاح اكثر يمضي كنط ليميز بين نوعين من الافعال : الافعال الشرطية والافعال الغير شرطية أو المطلقة. اما الافعال الشرطية فهي من شاكلة : لا تسرق لكي لا يقبض عليك, لا تكذب والا ستعاقب أو اذا اردت أن تحيا سعيدا فكن صالحا. كلها لا تمثل غايات بحد ذاتها أنما هي افعال مشروطة بنتائج تجريبية متغيرة أما الافعال المطلقة من شاكلة : لا تكذب, لا تسرق أو كن صالحا هي افعال غير مشروطة وتوجب الفعل لكونه صالحا بذاته بغض النظر عن النتائج المترتبة عليه. والافعال الشرطية تقتضي التجربة وتستند على معطياتها المتغيرة فبالتالي هي لا تصلح ان تكون قوانين للأخلاق وهي ايضا قضايا تحليلية فمن اراد الغاية أخذ معها الوسيلة. اما القضايا غير المشروطة فهي قضايا تركيبية قبلية, أذ تقتضي اداء الفعل ايمانا بالواجب الاخلاقي وهي شأنها شأن بقية القضايا التركيبية القبلية من معطيات العقل المحض متعالية عن كل تجربة ممكنة. وهذه وحدها تأخذ صفة الاوامر الاخلاقية لأنها صالحة صلاحية موضوعية اما ما عداها فيمكن اعتباره مجرد قواعد للفطنة أو مبادئ لتحصيل السعادة ويعرف كنط هذه الاوامر فيقول : " انها صيغ تعبر عن علاقة قوانين الارادة على وجه العموم بالنقص الذاتي المميز لإرادة هذا الموجود أو ذاك ".
لا تصلح الافعال الشرطية الا لتحصيل اللذة والسعادة أو المنفعة فهذان مفهومان تجريبيان, إذ لا يمكن ان تقوم السعادة على مبادئ قبلية فهي احساس ذاتي معتمد على ملكة الحساسية لدى الانسان من جهة, ومن جهة أخرى فأن العقل قاصر عن تحقيق السعادة والغرائز أقدر عليها. فكل محاولة لتعميم قانون للسعادة تتعارض في نهاية الامر مع الاختلافات الذاتية للبشر.
ويضع كنط بعد أن ارسى دعامة القانون الاخلاقي ثلاث صيغ اساسية له يمكن ان تستنبط احداها من الاخرى كما أن الثالثة هي نتيجة طبيعية لأول قاعدتين :
القاعدة الاولى : افعل اي شيء بحيث تصلح مسلمات فعلك ان تصبح قانونا عالميا.
أي ينبغي علينا ان ننطلق من مسلمات لا تتناقض مع نفسها او مع طبيعة العالم الخارجي لتحديد اخلاقية الفعل, فأنا انطلق من مسلمات رفض السرقة كي لا اسرق ويعرف كنط الفعل الغير اخلاقي بأنه الفعل الذي نرتضيه لأنفسنا -كاستثناء للقاعدة- لكن لا نرتضيه في الوقت نفسه للآخرين. فأنا حينما اكذب لا اقبل ان يكون الكذب بمثابة قانون عالمي اذ يستحيل بعدها اي تواصل بين البشر, لكني أمنح نفسي حق الاستثناء في هذه الحالة كي أكذب وهنا تتجلى عظمة القانون كونه يبقى واضحا حتى حين كسره.

القاعدة الثانية: عامل الانسانية في نفسك وفي الاخرين كغاية قائمة بحد ذاتها لا كوسيلة .
فالأخلاق الكانطية ليست اخلاق صورية محضة بل تحتوي على مادة ومادتها هي الذات العاقلة لا الاشياء التجريبية . فلا يحق لي ان اكذب على احد لان الكذب يعامل الذات المقابلة على انها وسيلة لتحقيق غاياتي في حين ان جميع الذوات البشرية ينبغي ان تعتبر غايات بحد ذاتها.

القاعدة الثالثة : أعمل بحيث تكون ارادتك هي الارادة المشرعة الكلية
وهذا القانون تجلي للقانونين السابقين, إذ ان كل ذات عاقلة هي غاية بحد ذاتها فلا ينبغي ان تأخذ أوامرها من خارج بل ينبغي ان تستنبط افعالها من ارادتها الذاتية. فالذات المشرعة للقانون هي ايضا خاضعة له. ويرفض كنط جميع الفلسفات التي تجعل من الانسان خاضعا لإرادات خارجية انما هو يخضع لمسلماته الذاتية التي يسطرها لنفسه, وهنا يفترض كنط – مصادرة- حرية الارادة ومعه مبدأ استقلالية الذات كذات مشرعة لكي يكتمل بناءه الفلسفي, أذ بدونها يبقى الانسان خاضعا لقانون الضرورة الطبيعية ويستحيل عليه تشريع اي شيء.
كما يرتقي كنط بالجانب العقلي من الانسان الى مملكة الغايات التي تتكون من الارادات المشرعة وتحكمها الارادة الالهية باعتبارها تمثل الخير الاقصى. أما الجانب التجريبي فهو خاضع لقوانين الضرورة الطبيعية ويمكن التنبؤ بأحداثه وفق تداعي الاشياء وتواليها زمنيا.

هكذا نرى أن كنط اظهر الاخلاق بصورة جوهرة ثمينة كامنة فينا وبصورة مختلفة تمام الاختلاف عن شتى المحاولات التي جعلت منها بمثابة أوامر مفروضة من سلطات خارجية, فالإنسان نفسه مشرع القانون الاخلاقي وخاضع له. ولا شك انها تعرضت للنقد الشديد خاصة فيما يتعلق بالجانب الصوري من النظرية, أذ اعتبرت بمثابة تعاليم جوفاء بعيدة عن الواقع الانساني خصوصا وأن كنط يرفض الربط بين الاخلاق وفكرتي المثوبة والعقاب, ويرفض ايضا الاعتماد على المنطلقات الحسية في تعيين المبادئ الاخلاقية. كما انه انطلق من ثنائية العالم الظاهر والعالم في ذاته ليبرر وجود حرية الارادة ومملكة الغايات بعد ان نجح في تفسير حدود العلم الممكن انطلاقا من نفس الثنائية وفي هذا يقول شوبنهاور " ان كنط بمثابة الطبيب الذي يستعمل نفس العلاج لعلاج امراض متعددة بعد ان اصاب في علاج احد الامراض ".
كما بينت نظريات مدرسة التحليل النفسي أن الجانب الاخلاقي من الانسان المتمثل - بالانا الاعلى - انما هو مكتسب من جملة التعليمات التي يتلقاها الطفل من أبويه اولا ومن ثم من المدرسة والمجتمع ثانيا لتكبر معه كمسلمات اخلاقية غير قابلة للنقاش, اي انها معرفة بعدية مكتسبة بالحس وليست قبلية سابقة على التجربة كما افترض كنط. وعلى نفس هذه النتائج سارت بقية النظريات الحديثة في تفسير الاخلاق, لكن كل هذا لا ينفي عظمة ونزاهة التفكير الكانطي أذ لا يزال نقد العقل بشقيه النظري والعملي مرجعا اساسيا لفهم جميع النظريات اللاحقة, وكما عبر ول ديورانت أن فلسفة كنط كانت بمثابة النهر الذي أرتوت منه جميع الفلسفات التي تلتها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إسقاط مسيرة إسرائيلية بعد استهدافها في أجواء جنوبي لبنا


.. كيف ستتعامل أمريكا مع إسرائيل حال رفضها مقترح وقف إطلاق النا




.. الشرطة تجر داعمات فلسطين من شعرهن وملابسهن باحتجاجات في ا?مر


.. مظاهرة في العاصمة الفرنسية باريس تطالب بوقف فوري لإطلاق النا




.. مظاهرات في أكثر من 20 مدينة بريطانية تطالب بوقف الحرب الإسرا