الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التوحيد في الديانة المندائية

سنان نافل والي

2023 / 2 / 25
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


في المندائية، ليس هناك من تعدد للآلهة ، حيث نرى أن النزعة التوحيدية والتي تتحدث عن وجود إله واحد ( هيي قدمايي - الحي الأزلي ) خالق الكون والحياة والإنسان (1) واضحة المعالم بشكل كبير جدا حيث نقرأ :
( هو الحي العظيم ، البصير القدير العليم ، العزيز الحكيم . هو الأزلي القديم )
( يا رب الأكوان جميعا ، مسبح أنت مبارك ممجد معظم موقر قيوم )
( لا شريك له في سلطانه ، ولا صاحب له في صولجانه)
( الأول منذ الأزل . خالق كل شيء . ذو القوة التي ليس لها مثيل. صانع كل شيء جميل . رب أكوان النور جميعا )
( هو الملك منذ الأزل . ثابت عرشه . عظيم ملكوته . لا أب له ولا ولد . ولا يشاركه أحد ) (2)
وهو إله أكثر تجريدا وتسام في تصرفاته وأفعاله من الآلهة البابلية على سبيل المثال والتي تشبه البشر في تصرفاتها حيث تخضع لحالاتها المزاجية من غضب أو حزن أو فرح ، فيكون تصرفها وقراراتها تبعا لتلك الحالات المتغيرة في الشعور والإحساس . أما الإله في المندائية فهو أكثر منطقية وحكمة وعدالة في تصرفاته وأفعاله إذ تصف النصوص الدينية، سواء في ( كنزا ربا ) أو بقية الكتب الدينية ، الخالق بشكل في غاية الجمال والشاعرية والرقي :
( هو الحي العظيم ، مسرة القلب وغفران الخطايا)
( ما كان لولا أنه كان ، ولا يكون لولا أنه كائن )
( هو النور الذي لا ظلمة فيه ، الحي الذي لا موت فيه ، والخير الذي لا شر فيه )
( هو العدل والأمان ، هو الرأفة والحنان ) (3)
وبدلا من العدد الهائل من الآلهة المتواجدين في الديانة البابلية ، نجد بالمقابل عددا كبيرا جدا من الملائكة في المندائية (4) ، بعضهم وهم قليلو العدد ، يتمتعون بمكانة متميزة ويتصدرون الترتيب الملائكي في الوجود مثل : " مندادهيي - عارف الحياة " و " يوشامن " و " أباثر - أبو الأثري " (5) وآخرين (6) .إن الصفة المشتركة الأساسية التي يمكن ملاحظتها هنا بين البابلية والمندائية هي في حالة " الإغتراب والإنفصال " المرافق لوجود " هيي قدمايي " أيضا ، ليس عن الإنسان والحياة فحسب ، بل حتى عن عوالم النور وكائناته أيضا :
( الغريب عن أكوان النور ، الغني عن أكوان النور )
( الذي لا يرى ولا يحد )
( لا يعرفون اسمك ولا يتبينون رسمك )
( خالد فوق الأكوان ) (7)
فهو الذي يسكن في أقاصي عوالم النور ، لا يدركه أحد من ألأثريين أو الملائكة ، وحتى عندما يوصف فإن السمة الغالبة على طريقة وصفه هي حالة النفي:
( لا حد لبهائه ، ولا مدى لضيائه )
( لا موت يدنو منه ولا بطلان )
( لا حد له ولا كيل )
(فعلاك ليس له قياس. عمقك لا يسبر، وقدرتك لا تحصر، وعظمتـــك لا تبصر) (8) (9)
ولكن مع حالة الانفصــال والبعـد والاغتراب عن العوالم والإنسان ، فإنه متصل به ومتواصل معه بنفس الوقت وذلك عن طريق التعاليم والوصايا من عالم النور التي لقنت لآدم ، الإنسان الأول عن طريق الملاك مندادهيي ، كما يوضح النص التالي من كنزا ربا وهو يتحدث عن خلق آدم :
" الى جانبها جلست . علمتها كل ما أوكلني به الحي
بصوت كالهديل
رتلت لها التراتيل
وأيقظت قلبها من سباته الطويل ( المقصود هنا " نشمثا " النفس التي أدخلت الى جسد آدم )
بحديث الملائكة تحدثت إليها، وعلمتها حكمتي، ألقيت حكمتي عليها قلت لها :
أيتها النفس تنهضين
والحي القدير تمجدين
وله تسجدين
سبحي لعليين ." ( 10 )
هذه التعاليم هي الطريق أو الجسر الذي يوصل الإنسان بخالقه، هي الشريعة التي على أساسها سيكون الإنسان، إنسانا أفضل إذا ما اجتهد وحاول تلمس معانيها في داخله ومحاولة إبرازها وتنقيتها من الشوائب التي علقت بها من عناصر عالم الظلام وشروره، عندها يمكن له أن يجد طريق خلاصه والالتحاق بأصله النوراني الذي منه بدأ كنفس آتية من عالم الأنوار. هنا أصبحت التعاليم المندائية ممثلة بما تنص عليه الكتب الدينية، هي طريق الخلاص وهي أيضا الطريقة التي يتواصل بها الخالق مع مخلوقه أو لنقل بمعنى أدق، المخلوق مع خالقه . عند هذه المرحلة، أصبح للإنسان هدفا أسمى ليحققه ، أصبح له أمل في وجود آخر بعد حياته الفانية على الأرض، الوصول الى "مشوني كشطا" (العالم المثالي أو الجنة في الديانة المندائية) وجود أنقى وأفضل وأكثر عدالة على عكس الإنسان البابلي الذي لم يكن يمتلك أملا في بعث أو حياة أخرى يسعى إليها عن طريق العمل الصالح المبني على تعاليم إلهية عادلة بحقه وبحق الآخرين. هذه الصفة المميزة للخالق في المندائية أي الانفصال بما يحقق ذلك من السمو والرفعة والعلى تجاه عوالمه ومخلوقاته، والتواصل والاتصال المباشر معهم في ذات الوقت بواسطة منهجه وتعاليمه الدينية والطقسية ، جعلت من الديانة المندائية حالة فريدة في فهمها للخلق وفي طريقة تعاطيها معه لا نجد مثيلا لها في أي ديانة أخرى .

المصادر والهوامش
(1) التوحيد هنا قائم على وجود إله واحد فقط ودون أي وجود لآلهة أخرى بعكس حالة التفريد الموجودة في البابلية حيث الإله " مردوخ هو الإله الرئيسي في بابل ولكن بنفس الوقت مع وجود آلهة أخرى أيضا في مدن ومناطق مختلفة. ويقول الباحث نائل حنون في دراسته المعنونة: "تطور الفكر الديني في حضارة بلاد الرافدين القديمة. ص370، أنه على الرغم من عدم نضج عقيدة التوحيد في الحضارة القديمة، كانت هناك ميول واضحة للخروج من حالة الشرك، فقد عرفت هذه الحضارة ما يسمى بمبدأ التفريد الذي يعظم بموجبه إله واحد لكن دون أن تنبذ عبادة الآلهة الأخرى.
(2) كنزا ربا : يمين ، الكتاب الأول ، التسبيح الأول . 14-16.
(3) كنزا ربا : يمين . الكتاب الأول ، التسبيح الأول 14-16 .
(4) تقسم الملائكة في المندائية الى قسمين، القسم الأول وهم ملائكة الخير إطلاقا ويسمون "الأثري" في صيغة الجمع و "أثرا" في صيغة المفرد ويعتبر "الأثرا" بمثابة "المخلص" أو المنقذ "أو المرسل" أما النوع الثاني فهم "ملكي" وتعني ملائكة: ومنهم ملائكة صالحون في عالم النور ومنهم ملائكة الجن "ملاخيا" دون ذلك في العالم السفلي. والمفرد من "ملكي" ملك (بكسر اللام) أو ملك (بفتح اللام). أنظر: كورت رودولف: النشوء والخلق في النصوص المندائية. ترجمة صبيح مدلول السهيري ص13 )
(5) مندادهيي : العليم ، أثري وملاك نوراني عظيم ويعني عارف الحياة وهو حامل رسالة الحي والوحي الإلهي والمخلص.
يوشامن : ملاك أثري ويمثل الحياة الثانية .
أباثر : ملاك الميزان ، وله صفات عديدة منها : العتيد ، السماوي ، المصون ، الخفي . وهو يمثل الحياة الثالثة . كنزا ربا: مصطلحات كنزا ربا اليمين . ص 309-316
(6) ترى دراور بأن كلمة "أثري" ومفردها "أثرا" تدل على الأرواح التي تهب الحياة وتديمها وهي ذات صلة بالكلمة السريانية "يثرى" أي يغتني ، وتقول: أنا أرجح اشتقاقها من معناها المجازي "يمتلئ الى أن يطفح" وأشك بأن يكون للفعل الصابئي (نثر) ومعناه يطفح ، أصلا ذا علاقة بكلمة "أثر". ويذكر البرفيسور روبرتسن سمث في كتابه "أديان الساميين" ، اسم إله في الجنوب العربي يسمى "أثتار" يتحكم في الري ويقول أن "عثارى" كانت تعني ما يروى من السماء ومن الينابيع (أراضي بعل) وهنا مصدر أصيل لهطول الأمطار من السماء على الأرض وهو يكتسب لدى الصابئين صفة الماء الحي الآتي من بيت الحياة وهكذا قد يكون معنى "أثري" ، بالأصل، أرواح الحياة التي تهب الخصب والغنى على شكل مطر وينابيع. وفي الأراضي القاحلة التي لا تنبت إلا حين تهطل امطار الربيع، فإن رسلا كهؤلاء هم حقا "واهبوا الحياة" وإن حقيقة تسمية زوجات "الملكي والأثري" سحبا وقطرات (انانيا ونطفتا) يلقي ضوءً على هذا الرأي . وأرى أن كلمة " أثري " كانت تطلق بالأصل على الأرواح النورانية ، وأنها أخذت معنى أوسع بالتدريج . أنظر : " الصابئة المندائيون في العراق وإيران " . دراور ص 158-159
(7) كنزا ربا: يمين. الكتاب الأول، التسبيح الأول 14-19
(8) ربما استعمال حالة النفي في وصف الخالق في الديانة المندائية يأتي في سياق عدم تحديده في شكل معين ومحدد ومحسوس لغرض عدم وضعه في إطار محدد يمكن أن يؤدى، إذا ما حصل ذلك ، الى إمكانية عده وبالتالي إمكانية تثنيته .
(9) كنزا ربا : يمين .الكتاب الأول ، التسبيح الأول 15-16.
(10) كنزا ربا . يمين . ص82 -83 *








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اليوم الثاني من قمة مجموعة السبع تركز على التوتر مع الصين


.. حرب شوارع وقصف إسرائيلي بالمروحيات والبوارج على رفح




.. ساري عرابي: نتنياهو يشعر أن تاريخه تلطخ بفشل السابع من أكتوب


.. ما مدى واقعية توصية جيش الاحتلال بإنهاء عملية رفح والتوجه لل




.. الجفاف في المغرب يتسبب بنقص بأعداد الأضاحي