الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إننا نتحدث خطاب اليسار، فهل ممارساتنا يسارية ؟

حكيمة لعلا
دكتورة باحثة في علم الاجتماع جامعة الحسن الثاني الدار البضاء المغرب

(Hakima Laala)

2023 / 2 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في مقالنا السابق تحدثنا على انتشار الخطاب اليساري بين شرائح كبيرة بالمغرب كمعيار لحل الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية بالمغرب وكذلك عند جزء كبير من النخب لاتنتمي لليسار مما جعل هذا الخطاب مغلوط المفهوم، منتحل المحتوى، لايتواجد في الممارسات اليومية لحامليه من دوي الانتماءات الشعبية بسبب عدم تملكهم للكفاءات الفكرية أو المرجعية لفهمه عكس بعض النخب التي تريد أن تستحوذ على المعايير الديمقراطية والإنسانية لفكر اليسار مع إفراغه من محتواه المساواتي وإعطائه محتوى مخالف يجد تأصيله في النظام التقليدي الذي اخترق التاريخ وظل قائما بذاته لحد ألان أو إعطائه صبغة دينية لإضعاف محتواه الحداثي.
في هذا الصدد كان لابد من الرجوع لتاريخ نشأة الفكر اليساري بمجمل أطروحته للتقعيد لمفاهيم اليسار والتذكير بأنه خرج من رحم الثورة الفرنسية والفوضى العارمة والمواجهات الدموية التي عرفتها لخلق قطيعة مطلقة مع النظام السابق. كان كذلك ضروريا للتأكيد على أن الفكر اليساري كان نتيجة تكون طبقة سياسية قائمة بذاتها وهي البورجوازية التي حاربت النظام الملكي المستبد و الطبقة الارستقراطية المكونة من النبلاء المالكين للأراضي التي كانت تهيمن على المجتمع الفرنسي انطلاقا من خلق انتماء طبقي "مقدس" لايسمح لأحد من عامة الشعب اختراقه.
يجب القول أن مفهوم البورجوازية في حد ذاته قد ثم تحريفه من طرف الكثيرين واختزاله في مفهوم الطبقية الغنية لخلق الكثير من التعتيم على تاريخها كطبقة سياسية وفكرية مغيرة لمجرى التاريخ الفرنسي والإنساني بصفة عامة. إن الطبقة البورجوازية كما عرفناها في مقالنا السابق أعطت الكثير من المفكرين المنظرين لأطروحتها التي تعتمد أساسا على مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات رافعة شعار الدولة الاجتماعية و الحقوق الإنسانية والديمقراطية.
إن الفكر اليساري الذي أنتجته الطبقة البورجوازية المتزعمة للحركة اليسارية بفرنسا انتشر في القرن العشرين في كل أوربا وبعدها في الكثير من دول العالم على انه أساس بناء الديمقراطية ومحاربة كل أنواع التمييز والإقصاء للشعب. إن اليسار المغربي هو نتيجة هذا الانتشار ولكن هناك سبب تاريخي لعب دورا حاسما في نشأة اليسار بالمغرب في بداية القرن العشرين وهي علاقة القرب التي نتجت أولا عن تواجد وانتشار الفكر الفرنسي بالمغرب بسبب كون المغرب عاش مند سنة 1912 لحدود سنة 1956 تحت الحماية الفرنسية| وثانيا اعتماد التعليم الفرنسي في المغرب لنشر ثقافته ونموذجه المجتمعي والسياسي ، وكذلك حث فرنسا لمدارسها على استقبال أبناء الأعيان،و ثالثا هو بناء مدارس خاصة بأبناء الأهالي والأعيان في القرى لصنع نخبة مغربية ذات ثقافة فرنسية متمكنة من مرجعيتها السياسية والاديولوجية والإنسانية.
إننا عندما نتحدث عن خطاب اليسار فنحن نتحدث أولا وأخيرا عن التيار السياسي اليساري الذي تواجد تاريخيا قبل وبعد الاستقلال لحد الآن. إن التيار اليساري حامل للمفاهيم الأساسية للفكر اليساري الذي أنتجته فرنسا . إن تواجد اليسار كان جذ مكثف بالمناطق الحضرية المغربية وخصوصا المدن الكبرى وفي المدارس والجامعات . إن سنوات الستينات والسبعينات والثمانينات عرفت انتشار الفكر اليساري واحتجاجات كبيرة واصطدام كبير مع النظام ألمخزني، وهو النظام الذي كان متواجدا قبل الحماية واستمر بعدها. لقد عرف اليسار مواجهة شرسة من طرف النظام المغربي وعرفت صفوفه كثيرا من الضحايا، وقضى الكثير منهم سنوات في السجن. إن حقيقة انتشار ثقافة اليسار كانت تعلن عليها كذلك الحملات الانتخابية وانخراط شريحة كبيرة من المغاربة لتدعيمها والتعريف بمطالبها. عكس ذلك كانت المناطق القروية وهي الأغلبية تسيطر عليها أكثر القوى المحافظة أو ما يسمى باليمين، الذين ظلوا يعرفون أنفسهم "بالوطنيين" وهي إعلان ضمني وتأكيد على دورهم في تحرير البلاد كما كانوا يدافعون عن القومية العربية كأصل وانتماء سياسي الشيء الذي كان يخاطب ولازال يستهوي وجدان المغاربة أكثر من عقولهم. إن لقب "وطني" كان يعلن كذلك على انتماء سياسي مخالف للفكر اليساري الذي استعمل كوصف للتعريف بانتمائه كلمة "مناضل" ولم يستعمل تاريخه النضالي لتحرير البلاد للتأثير على المغاربة، حتى أن جل المغاربة ليس لهم علم بتاريخ اليسار قبل الاستقلال ودورهم الكبير في استقلال المغرب ولابده . إن اليسار اعتمد في تلك الفترة شعار التغيير من اجل المساواة والعدالة الاجتماعية التي لاتعترف بالمنطق التراتبتي أو الامتيازات التي بنيت على الانتماء والعرق. لقد شكل اليسار لمدة طويلة ولازال الكتلة الحداثية والعلمانية المعارضة للأحزاب المحافظة.
إلا أن في أوائل السبعينات سيظهر توجه سياسي جديد يعتمد الدين الإسلامي كمرجعية سياسية وسيحمل صفة "الملتزم" بتعاليم الله للدفاع عن حقوق الشعب ليتحول هذا التيار إلى حزب سياسي . سيتبنى هذا التيار الجديد الكثير من مفاهيم اليسار مثل الحداثة والديمقراطية والإنسانة ولكن بصبغة دينية. تمركز هذا الحزب في المناطق القروية وفي الإحياء الشعبية رافعا لشعارات كانت هي ورقة تعريف لليسار. إن الهدف السياسي الأول لهذا التيار الذي اعتمد مرجعية لاتختلف في عمقها مع التيار المحافظ هو ضرب اليسار المغربي لاستئصاله من المجتمع وتعويضه بطرح يتناسب أكثر مع المعتقد الاجتماعي الشائع. فكانت أول هجوم على الفكر اليساري هو تمويه البعد العلماني لليسار واتهامه بالإلحاد ثم تعريفه كفكر نخوي فرنسي يخدم الأفكار الغربية ويتنكر للهوية الإسلامية للمغرب. خلق كذلك هذا التيار السياسي مايسمى "بالسياسة الشعبوية باعتماد خطاب ديني ولغة "عامية " أي الدارجة المغربية أو لغة عربية مبسطة. إن هذا الخطاب الشعبوي خلق نوع من التماهي مع الطبقات الشعبية وأعطاهم إحساس الانتماء لنفس المرجعية والثقافة والمعاناة . بل خلق عند الكثير إحساس بان حاملي الفكر الديني السياسي هم حماة لهم ولمصالحهم. إن تماهي الطباقات الشعبية مع هؤلاء سمح لهم بالاستقواء الشيء الذي دفعهم يستغلون الدين الذي جعلوا منه مرجعية لتكفير أو الضرب في معارضيهم . سيعتمد هذا التنظيم الجديد كذلك سياسة القرب وفعل الخير وقضاء حاجات المحتاجين التي لاتتماشى مع مفهوم التغيير اليساري للمساواة بقد رما تسلك طريق التماهي مع الإحياء الشعبية ومساعدتهم في حاجاتهم اليومية مثل المساعدات الغذائية والقيام بواجبات الدفن والعزاء والمواساة الدينية وهو جزء من المفهوم التقليدي للسلطة والمسيطر في النظام القبلي و التي كان الغرض منها هو الاستقطاب. يمكن القول أن الفكر اليساري المغربي الذي يطالب بتغيير التنظيم الاجتماعي والسياسي انطلاقا من مبدأ المساواة والديمقراطية وجد نفسه أمام وضع اجتماعي لايسمح له باستقطاب شريحة كبيرة من المجتمع خصوصا الإحياء الشعبية الفقيرة وأهل البوادي الذين كانوا اقرب وأكثر استئناسا بالنموذج التقليدي المغربي للسلطة الفوقية التي تستمد قوتها من المقدس.

إن ما سبق ذكره لايعني فشل اليسار في إحداث التغيير بالمجتمع المغربي ولكن صعوبة تغيير العقل المغربي لكي يستوعب المعايير السياسية والاجتماعية والاقتصادية اليسارية هي التي جعلت هذا التغيير بطيئا. فحين نجد في المدن الكثير من الحاملين للفكر اليساري الغربي الدين يحاولون القطيعة مع الفكر التقليدي والذين جعلوا من الاديولوجية اليسارية سبب تكتلاتهم ولايمكن نفي تواجدهم الفعلي في التغيير أو نضالهم من اجل التغيير السياسي والاجتماعي إن كانوا ينتمون للنخب الاجتماعية والفكرية.
وربما لايبدوا مفعول هذا التكتل في الحياة اليومية ولكن يجب معرفة أن كل التغييرات السياسية والاجتماعية بالمغرب هو ناتج عن مطالب الكتلة اليسارية بما في ذلك جمعيات المجتمع المدني ذات انتماء يساري، ناخد على سبيل المثال وليس الحصر كل الحقوق السياسة والتغييرات التي عاشها المشهد السياسي هي مطالب يسارية ، المطالبة بتفعيل حقوق الإنسان والحرص على احترامها والتصدي لممارسة العنف من طرف رجال السلطة مثل ماوقع في فترة الكوفيد 19هي مواقف يسارية، تحقيق الكثير من المطالب تهم حقوق النساء هي يسارية، المطالبة حاليا باحترام الحريات الفردية هي يسارية ، المطالب بتحقيق العدالة الاجتماعية المساوية للجميع هي يسارية.
إن مفهوم التغيير الجدري لكثير من المنظومات التقليدية يجد مقاومة كبيرة لأنه لايهم الإفراد فقط فهو يصطدم بنسق اجتماعي وسياسي قبائلي كان مهيمنا قبل الحماية و عملت فرنسا خلال مأسستها لنظام السلطة بتقنينه وإعطاءه الشرعية المطلقة واهم مكونات هذا النسق هي :
القبيلة في المجتمع المغربي هي بنية قائمة بذاتها كانت شبه مستقلة عن الحكم المركزي في تدبير شؤونها ولا يربطها به إلا الولاء و البيعة للسلطان وتأدية الجبايات. فالقبيلة يحكمها القائد أو أمغار باللغة الامازيغية والتي تعني سيد القبيلة ، يدير القائد أو أمغار شؤونها مع ممثلين القبيلة وتسمى هاته الهيئة بالجماعة وهي تبث في كل مشاكل القبيلة وللقائد سلطة القرار والتنفيذ وفظ النزاعات. وللقبيلة أيضا محاربيها للدفاع عنها.
طبقة الأعيان ،كونت كذلك فرنسا طبقة الأعيان المحميين من طرفها، إن فرنسا كدولة حامية/مستعمرة للمغرب عملت قبل الدخول للمغرب على استقطاب العديد من القياد وأصحاب الجاه وعقد اتفاقيات معهم على عدم مقاومتها مقابل الاحتفاظ على مصالحهم وذلك لتسهيل مايسمى تاريخيا "عملية التهدئة" أي الاستيلاء على المغرب . إن الحماية الفرنسية عملت على تقعيد وتقنين الكثير من الأعراف "القوانين القبلية" لتعميمه لتوطيد حكم هؤلاء لتقوم في فترة لاحقة على استبدال الرافضين لها بقياد من أتباعها.
طبقة الصلحاء وفقهاء الدين ، إن فرنسا حافظت على قوة "طبقة الصلحاء" والفقهاء الدين، الذين كان لهم دور كبير في تدبير القبيلة عن طريق الزوايا" الزاوية بالمغرب هي شبيهة بمدرسة فقهية دو اتجاه معين ولها مريدها، كما كان لها دور في القرار و التهدئة السياسية والاجتماعية وإيواء المحتاجين وإطعامهم" . إن القبيلة كانت ترتكز في تدبير شؤونها على "العصبية القبلية" كما فسرها ونظر لها ابن خلدون او بتعبير سوسيولوجي دوركهايمي على "التضامن الالي "المبني على النسب والانتماء العرقي. إن هذا المجتمع القبلي تسوده التراتيبة فهناك الأعيان والشرفاء والصلحاء والعامة "اي عامة الشعب" هاته التراتبية تنتج عنها ترابية الطبقية اجتماعية في تقسيم الاعمال والمهام .
زيادة على ماذكر أن المجتمع المغربي اعتبر من طرف بعض السوسيولوجيين مجتمعا انقساميا يعتمد على فكرة الجد المشترك يعيد إنتاج نفسه ويقوم على مبدأ ا الرعب والخوف والتدين.
إن النظام النسق السياسي الموروث من فترة ما قبل الحماية هو النموذج الأكثر انتشارا بالمغرب. فهو اخترق كل الحقب و كل الميادين، فالمجتمع المغربي لم يستطع بلورة نموذج أخر مغاير ولم يستطع استدماج الفكر اليساري بسبب ضعف رأسماله الثقافي وانغلاق رؤيته السياسة والفكرية على النموذج المغاير لما هو متعارف عليه. فهو في كثير من المواقف يتكلم خطابا يساريا يغيب من بعد ذلك في ممارساته الفردية. إن هناك كثير من التهافت على إشباع حاجياته الأولية وضمان تسلق مجتمعي . بل إن الفرد المغربي في ممارساته اليومية يعيد إنتاج بشكل ميكانيكي/الى مفهوم وممارسة السلطة في القبيلة، فهو يتبنى سلوك المدافع والمحافظ على مصالحه أولا وقبل كل شيء، يقوم بتحالفات بشكل دائم ومستمر إن كانت هاته التحالفات مبنية على القرابة أو المصلحة، ولكن في اغلب الأحيان على المنفعة الخاصة والمشتركة مع الآخرين، ليس فقط للاحتماء من الآخرين بل للتسلط أيضا عليهم . إن مايلفت الانتباه في هذا الوضع هو أن الفرد المغربي هو شبه عاجز على التموقع كذات فاعلة مفكرة أو واعية بوجودها، قائمة بذاتها، فهو في بحث دائم عن الجماعة لخلق تحالفات لمواجهة كل الاحتمالات التي تقلقه وتشكل له خطرا إن كان واقعا أو وهما. انه في بناء دائم للقبيلة التي هو في حاجة للاحتماء بها وان كان يعيش في اكبر المدن ، فهو يعيد بناء القبيلة بشكل واقعي عن طريق جماعة ما أو بطريقة افتراضية وفي الحالتين سيعيد تقسيم الأدوار على شاكلة النظام القبلي باحثا عن الولاء لشخصية كاريزمية " القائد المنقد". إن ااستراتيجية المهيمنة في إعادة إنتاج القبيلة في إطار تحالفات جماعية تقوم هي أيضا على مبدأ الرعب والخوف التدين. ا ن هاته التحالفات داخل الجماعة قد تقوم في إطار تحقيق انتصار أو ربح واحتماء من كل عداوة . إن المنطق السائد في المجتمع المغربي هو الحفاظ على المكتسبات الشخصية التي تخلق وقعا متميزا في المجتمع والدفاع عنها باستمرار. إن هذا الفعل ينبني على الحيل واختراق القانون وصنع المكائد حتى في اصغر التجمعات. إن المجتمع المغربي لايتصور ممارسة السلطة بشكل توافقي أو أفقي بل إن السلطة تمارس كآلية للهجوم والدفاع والمحافظة على المكتسبات والاحتماء من الآخرين.

إن المغرب قبل الحماية لم يكن له نسق سياسي بالمفهوم الحديث، إن مفهوم الفعل السياسي أو الاديولوجبة السياسي هو نتيجة التواجد الفرنسي وهي لعبت دورا كبيرا في تحديد صفات النخبة السياسية. ولكن هاته النخبة لم تكن متجانسة أو إفراز لطفرة اجتماعية أو سياسية بل هي تنتمي لفئات وطبقات وأصول مختلفة التنشئة الاجتماعية والفكر. تجعلها في علاقة ولاء لمجموعة من المجموعات المكونة لمغرب ما قبل الحماية، فقد تكون تنتمي لفئة الأعيان القروية أو الحضرية أو لفئة الصلحاء او الشرفاء القروية أو القبلية أو للطبقة المسيطرة على رأس المال. ومن هنا فالفعل السياسي سيظل حبيس هذا الانتماء. فهي لاتفكر في تغيير الواقع بل تفكر في تثبيته ولا يمكنها الانخراط في الفكر أو الممارسة لفكر اليسار. فقد نجد مجموعة كبيرة تستهلك خطاب اليسار ونظن أن هناك تناغما في القول والمعني ولكن في حقيقة الأمر تختلف معاني الكلمات حسب مرجعية كل متحدث ومن فرد لأخر ومن هنا قد تتعرض قيم اليسار لشعبوية لن تكون أبدا في صالحه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دول عربية تدرس فكرة إنشاء قوة حفظ سلام في غزة والضفة الغربية


.. أسباب قبول حماس بالمقترح المصري القطري




.. جهود مصرية لإقناع إسرائيل بقبول صفقة حماس


.. لماذا تدهورت العلاقات التجارية بين الصين وأوروبا؟




.. إسماعيل هنية يجري اتصالات مع أمير قطر والرئيس التركي لاطلاعه