الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رؤيا معاصرة لرواية -الخلق- في -سفر التكوين - المقدمة -

نافع شابو

2023 / 2 / 27
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


رؤيا معاصرة لرواية "الخلق" في "سفر التكوين - المقدمة -


المقدّمة

يقول ألأب الراحل "بولس الفغالي" في كتابه " سفر التكوين ":
"سفر التكوين اسمه في العبرانيّة "براشيت" (رأس في العربيّة أي في البداية) وهي الكلمة الأولى من السفر الذي هو بداية الأسفار المقدّسة. يروي بداية أعمال الله في الكون وفي شعبه. اسمه في اليونانيّة "جناسيس" أي ولادة وأصل وتكوين. أمّا في السريانيّة فاسمه كما في العبرانيّة "بريشيت" أي في الابتداء والرأس والباكورة، أو كما في اليونانيّة "بريتو" أي الخلق والخليقة. وسمّاه التقليد اليهوديّ السفر الأوّل من أسفار موسى الخمسة فدلّ على ارتباطه بمجموعة "البنتاتوكس"(الأسفار الخمسة الأولى في العهد القديم) التي ألَّف وإياها كتاباً واحداً.
يُورد لنا ، سفر التكوين ، أصول الكون وبداية عمل الله في العالم . يعالج بداية البشرية في الكون الذي خلقهُ الله ..يُخبرنا انّ الله خلق الكون بكلمته ، والأنسان على صورته ومثاله .ألأنسان أُخِذَ من التراب ، ولكن فيه نسمة حياة من عند الله . إنطلق الكاتب الملهم من واقع المجتمع الذي يعيش فيه قبل المنفى (587 ق. م) وبعده ، فالقى عليه وحيّ الله ليؤكِّد على زواج بين امرأة واحدة ورجل واحد يصيران كلاهما جسدا واحدا .وبيّن أنّ الخطيئة ، مهما كان نوعها ، هي رفض لمشيئة الله ، ومحاولة الأنسان لكي يصير إلها فيحدّد ما هو الشرّ وما هو الخير : آدم وحواء حين سمعا للحيّة (تكوين 3 :5 )
نقرأ في رواية الخلق : نشيد الخلق بحسب التقليد الكهنوتيّ " تكوين 1 : 1- 2: 4 " و رواية الخلق بحسب التقليد اليهوهيّ (2: 4- 25)
أولا: - نشيد الخلق بحسب التقليد الكهنوتي "1 : 1-2 :4"
1 -هو نشيد يرفعه المؤمن العائش في جوّ الصلاة فيشكر الربّ الذي خلق كلّ ما خلق وسلّمه إلى الإنسان، ملك الخليقة وممثله على الأرض، وفيه يقدّم لله فعل العبادة والسجود لأنه وحده الإله الحيّ تجاه الآلهة المتعدّدة التي لا حياة فيها ولا كيان لها (1 كور 8: 4) والتي يعبدها سائر الشعوب.
2 - نشيد يُتلى في الهيكل، وفي إحدى ليتورجيّات أورشليم الاحتفالية. يبدأ المرتل فيذكر عظمة الله المتجلّية في أعماله، في النور والمياه، في الأرض والنبات، في الحيوان والإنسان فتردّد الجماعة في جوقة أولى: ورأى الله ذلك أنّه حسن، وفي جوقة ثانية: وكان مساء وكان صباح. وعندما تعلن الجماعة أن ما خلقه الله كان حسناً جداً تستمطر بركة الله على اليوم السابع، يوم الراحة، وتدعو
جميع الكائنات إلى تسبيح الله لأن اسمه عالٍ وجلاله فوق الأرض والسماء (مز 148: 12- 14).
3- ارتبط نشيد الخلق بالوثيقة الكهنوتية فترك جانبا الأهتمامات العلمية المعاصرة وعكس نظرات قديمة آتية من بلاد الرافدين ، بعد ان استبعد عناصر الشرك (تعدد الآلهة )
مقدّمة:
يوم خلق الله "تكوين 1 : 1-2"
يتحدّث الكاتب عن الخلق بوجه عامّ.
البدء يعني بداية الزمان. قبل ذلك الوقت لم يكن شيء ما عدا الله. فالله هو قبل العالم ولا يخضع للعالم، اسم الله ترجمة للكلمة العبريّة "ألوهيم". (إيل في اللغات الساميّة) ويعني هذا الاسم ملء السلطان والقوة. ألوهيم اسم جمع ولكنّه يرتبط بفعل في صيغة المفرد، نفياً لأيّ تفكير في آلهة متعدّدة. فالله واحد هو عند بني إسرائيل.
هناك تقليدان عن الخلق: الخلق بواسطة الفعل الإلهيّ والخلق بكلمة الله. الكاتب الكهنوتي يشدّد على الخلق بالكلمة، وهذه علامة نضج لاهوتي. أمّا التفكير القديم فهو يورد الخلق بالفعل (آ 7 صنع الله الجلَد، آ 16) ليشدّد على العلاقة المباشرة بين الله والخليقة. وكلا التقليدّين ضروريّ للحصول على صورة كاملة عن عمل الخلق الإلهي.
ثانيا : رواية الخلق بحسب التقليد اليهوهيّ " تكوين 2 : 4-25"
1 - رواية يرويها الكاهن في إحدى أروقة الهيكل على المؤمنين بعد أن تناقلتها أجيال وأجيال، وها هو الكاتب الملهم ينقلها كما وصلت إليه بطريقتها القديمة التي تعود بنا إلى عالم الشرق، وبأسلوبها الخياليّ الذي يحمل أفكارنا وقلوبنا إلى فردوس يقع في مكانٍ ما من الأرض، وبصوَرِها الحلوة التي ترسم أمامنا لوحة عن أوّل عائلة على الأرض مكوّنة من آدم المأخوذ من الأرض، ومن حوّاء، أمّ الأحياء، المأخوذة من ضلع رجُلِها لأنّها قطعة من قلبه وفلذة من فؤاده.
2 - تبدأ هذه الرواية بمقدّمة (2: 4- 6) ترسم لنا حالة الكون. ويخلق الله الرجل ويجعله في الفردوس في جنّة عدن (آ 7- 17)، ويخلق المرأة التي هي مع الرجل أسمى مخلوقات الله والتي تتميّز عن مقتنيات الرجل لأنّها لحمه وعظمه (آ 18- 22)، وتنتهي الرواية بخاتمة (آ 25) تهيّئ القارئ لِمَا سيحدث في الفصل الثالث حين ينحطّ الرجل والمرأة بالخطيئة فيصيران عريانين ويعرفان الخجل الذي يعرفه أسرى الحرب المُقادين إلى المنفى بعيداً عن أرض الله وهيكله.(1)
يقول الأب لويس حزبون أستاذ الكتاب المقدس وتاريخ الخلاص في المعهد الأكليريكي
استنادا الى أنواع الأساليب الأدبية المستعملة في ذلك الحين(أي زمن كتابة سفر التكوين ) يجب التمييز بين المعاني المختلفة :
1- المعنى الحرفي 2 – المعنى الروحي 3 – المعنى الأخلاقي 4- المعنى التفسيري 5- والمعنى الألهي
وبخصوص التمييز بين التاريخ والحقيقة : ليس الكتاب المقدس كتاب تاريخ ،إنما الحوادث التاريخية هي اطار للحقيقة الدينية [ كقالب للتمثال] . بما ان الكتاب المقدس يعبّر عن الحقيقة في نصوص متفاوتة تاريخيا ، فدور العقل يقوم بالتمييز بين الفنون الكتابية المختلفة ، والمعاني المختلفة وبين العلم والحقيقة الدينية وبين التاريخ والحقيقة الدينية .
فكلام الله ذو قيمة إلهيّة وهو يتوجّه إلى كل البشر. فالله يدخل التاريخ البشري ويخاطب قلب الانسان ووعيه حيثما كان وفي أي عصر أو بيئة أو حضارة. ولكن بما ان الله كلّم البشر بلغتهم، فكان على الكاتب الذي خاطبه الوحي في قلبه ووعيه أن يدوّن كلام الله بلغته ومفاهيمه وتراثه والبيئة والثقافة المحيطة والمعروفة عنده وعند قرّائه.
من هنا تنبع حاجتنا إلى التفسير الصحيح لمعرفة كلام الله، وذلك عبر تحليل الآداب والخلفيّات والبيئة والتراث السائدة آنذاك، وفهمها كما فهمها الناس الذين توجهت إليهم، فنرى كيف عاشوها وطبّقوها ودوّنوها تراثاً وتاريخاً خلاصيّاً لهم كجماعة. وبعد ذلك ننظر إلى كلام الله المتوجّه لنا من خلال هذا التراث الكتابي، ونعيشه ونطبّقه في حياتنا أفراداً وجماعة(2)
يقول الدكتور اشرف عزمي عن سفر التكوين :
سفر التكوين هو أساس الكتاب المقدس : إنّ عظمة وتفرُّد "سفر التكوين " تكمن في محتواه الذي يعد ألأساس الذي بنيت عليه كُلّ إعلانات الله التي جاءت بعد ذلك . فمن دونه يكون لدينا بناءٌ بلا أساس
"في البدء خلق الله السماوات والأرض ...وقال ليكن نورٌ" ليؤكّد كاتب سفر التكوين وجود اله خالق متكلم "يخلق بالكلمة" وهذا هو حجر الأساس للأعلان الإلهي في الكتاب المقدس كُلُّهُ.إنّهُ سفر البدايات ، إذ تجد معظم العقائد المسيحية بذورها وبدايتها في سفر التكوين . وكما انه لايمكن ان يوجد انجيل من دون صليب (صليب الفداء) ، كذلك لايوجد خلاص من دون احداث سفر التكوين . فهو السفر الذي يحدثنا عن طبيعة الله وصفاته كالخالق ، والمحب ، والمعتني ، والفادي...الخ .كما يحدّثنا عن ألأنسان ، فيؤكّد ان الأنسان هو مخلوق على صورة الله وشبهه ، وأنّه تاج الخليقة "(3)
أمّأ الأب رمزي جريج في برنامجه "مهم تكون مسيحي" يقول :
الروايات الثلاثة لسفر التكوين عن الخلق هي اخر النصوص التي كتبت في العهد القديم
أي هي الزبدة والخلاصة من بعد ان تبع الشعب الله وتعرف على الله واختبر الله بعد ان كان شعب بدائي قبلي وبعد ان استقر وتطور فالأيمان يطور العقل ويطور العلم والفكر بطريقة أعمق حيث وصل الأنسان الى طرح الأسئلة الوجودية . وسال بعد ان اختبر اذا كان هكذا الله كله محبة ورحمة فاذن من اين اتى الكون ومن اين اتيتُ ؟ وأين ساذهب ؟ ماذا بعد الموت ؟ هل انا صدفة ام مخطط وجودي ؟ ".(4)
- لقد اهتمّ الله اهتماماً خاصَّا بالإنسان. عندما خلق المخلوقات دعاها إلى الوجود بكلمة سريعة، ولكن عندما خلق الإنسان ركّز عليه كل علمه وقدرته وحبّه، فتوّج به أعماله في الكون المنظور. وهذا المخلوق الجديدّ طبعه بطابعه الشخصيّ وجعله على صورته ومثاله. وعندما يفكر الإنسان أن الله أحبّه حبّاً لا يسبر غوره، عليه أن يمتلئ قلبه إعجاباً. وعن هذه العاطفة عبّر المزمور الثامن بقوله:
"ما الإنسان حتى تذكره
وابن البشر حتى تهتّم به
نقّصته عن الإله قليلاً
وكلّلته بالمجد والكرامة."
يتطَرَّف البعض في التفكير قائلين : من خلق الله ؟
لكننا إذ نتأمّل نجد أنفسنا أمام طريق مسدود فلابد من وجود إله غير محدود أزلي أبدي كائن على الدوام لم يخلقه أحد .وهذا أمر صعب الفهم لأنّ العقول المحدودة لايمكنها إدراك غير المحدود . فمثلا ما هو اكبر رقم ؟ لايوجد هذا الرقم ، وليست ثمة نقطة عندها في محاولة البحث عنه . وهكذا يجب أن نَكفُّ عن التفكير في الله غير المحدود بعبارات محدودة قاصرة .(5)
اذا هذه الحرية غير المحدودة ،لله الخالق ، لايحده لا الزمن ولا المكان فان عقل الأنسان لا يفقد حقيقته بل هو مدعو لان يكتشف سرا لا يسبر غوره . سّرا لايدركه قليلا الا المؤمن . لايمكن ان يكون هذا الأله إلّا واحدا أحدا وإلّا لكان محدودا بوجود الآخرين . الا اذا كان اتحاده بهم عميقا وثيقا مما يؤدي الى الوحدة . انّ حريتنا تمثل قبسا شبيها بهذه الحرية اللامحدودة التي تجتذبنا وكأنها غاية وجودنا .
إنّ رغبة الأنسان في تجاوز حدوده وتجاوز الموت تناسب كثيرا طبيعته العميقة المتسمة بمشابهته لصورة الله ، تلك الصورة التي تندرج طيها الحاجة الى الغاية التي هي اصل هذه الصورة .إنّ حلم اللانهاية والأبدية الذي يدغدغ الأنسان يتراءى نوعا ما تخديريا . وان انتقال هذا الحلم الى واقع اللانهاية وألأبدية يشبه الوصول الى مستوى الخالق . ليس هذا الوصول ممكنا الا بواسطة تدخل الخالق الذي يدخل في حوار مع الأنسان المرتقي الى رتبة المحاور مع الله .
الوحي الألهي والأيمان يعطيان المعنى لكل شيء لأن هناك سبب لهذا الوجود والله الخالق هو السبب ، لأنَّ الله ازلي (ولايخضع للزمان والمكان وقوانيننا الطبيعية ) قادر على ان يخلق الكون ويطوره. امّا الوحي الألهي يوصلنا الى الله ولكن العقل محدود وحده الله لامحدود.
الأنسان هذا الكائن العجيب، الذي له عقل وروح وضمير ومشيئة ولا يمكن أن توجده طبيعة بلا عقل ولا مشيئة ولا حياة ولا ضمير!! كيف إذن أمكن وجود هذا الكائن، بكل ماله من تدبير ومشاعر؟! الكائن صاحب المبادئ، الذي يحب الحق والعدل، ويسعى إلى القداسة والكمال؟ لا بُدّ من وجود كائن آخر أسمى منه ليوجده..لابد من وجود كائن كلى الحكمة، كلى القدرة، بمشيئته تقدر أن توجده..وهذا ما نسميه الله...
سفر البدايات " في البدء خلق الله السماوات والأرض"تكوين 1 :1"
جاء في مقدمة الكتاب المقدس " التفسير التطبيقي " عن "سفر التكوين" :
بدأ...... استهلَّ .....شَرَعَ ....إفتَتَحَ ....هناك شيء منعش يدعو للتفائل في هذه الكلمات ، سواء تشير الى بزوغ فجر يوم جديد ، او مولد طفل ، او مقدمة لسيمفونية ، او الميل الأول من رحلة عائلية ترفيهية .مع الخلو من المشاكل ومع توقع النجاح ،فإنَّ البدايات تثير الأمل والرؤى للمستقبل . و"التكوين" يعني البدايات أو " الأصل" ، ويكشف لنا قصة بداية العالم ، بداية التاريخ البشري ، والأسرة ، والحضارة ، والخلاص . إنَّه قصة غرض الله وخطته لخليقته . إنّه يعلن شخص الله وطبيعته ( الخالق ، الحافظ ، الديّان ، الفادي ) ، وقيمة وكرامة البشر (المخلوقين على صورة الله ، والمخلّصين بالنعمة ، والذين يعمل بهم الله في العالم ). ثم مأسات الخطيئة وعواقبها (السقوط ، الأنفصال عن الله ، الدينونة) ، ثم الوعد بالخلاص وتاكيده (العهد ، الغفران ، المسيّا الموعود به ).
.فأقرأ سفر التكوين وتشجع ، فهناك رجاء ! لاتقلق مهما بدا موقف العالم مظلما ، فالله له خطته ، مهما كان إحساسك بضآلتك وعدم نفعك ، فإن الله يحبك ويريد ان يستخدمك في خطته .. ومهما كنت خاطئا ومنفصلا عن الله فإنّ خلاصه متاح لك . إقرأ سفر التكوين ... وليكن لك رجاء!.(5)
تعوَّد النقّاد أن يسموا الفصول الأولى من سفر التكوين "تاريخ البدايات" ولكن هذه التسمية لا تعني بالمراد، لأن ما نقرأه في هذه الفصول ليس تاريخاً بالمعنى الحديث لكلمة تاريخ. فما ترويه الكتب المقدّسة ليس مجموعة من التقارير يبعث بها المراسلون ولا محاضر لجلسات الملوك ووزرائهم، بل أخبار تناقلها الناس من أقدم العصور، وربط الكاتب الملهم بين عناصرها. لهذا فمن يبحث في هذه النصوص عن معلومات تتعلّق ببداية الكون وظهور الإنسان على الأرض لن يجد فيها الجواب الشافي، لأن الكتاب المقدّس لا يتوخى إعطاءنا دروساّ في علم التاريخ. كل ما سنكتشفه هو طريقة المؤمن في تفهم الأحداث على ضوء كلمة الله وحضوره وسط شعبه.
سفر التكوين هو مقدمة لكل العهد القديم يُخبرنا أنّ الله خلق الكون بكلمته ، والأنسان على صورته ومثاله . ألأنسان أُخذ من التراب ولكن فيه نسمة حياة من عند الله .إنطلق الكاتب من واقع المجتمع الذي يعيش فيه قبل المنفى (587م) وبعده فالقى عليه وحي الله .
عندما نقرأ سفر التكوين فنحن لسنا بصدد عالم تلقيناه من البشر الأولين ، وإنما بصدد فكر حكماء إسرائيل ، انطلاقا من خبراتهم الأنسانية ، والدينية ، وللتعبير عن قناعاتهم بشكل روايات رمزية ، استخدم هؤلاء الحكماء ، صورا اسطورية من الشرق القديم ، وحاولوا تكييفها مع ايمانهم بالأله الواحد. نصوص مليئة بالحكمة تتناول علاقة الأنسان الثلاثية مع الله ومع الطبيعة ومع شبيههُ "المرأة ". ولكي نقرأ هذه "الرواية" جيدا ، لايجوز ان نبحث فيها عن تقرير لحدث تاريخي ، وانما ان ندع الرموز تقودنا ، فنسلط عليها الأضواء ،إنطلاقا من خبرة إسرائيل .
ذاك هو سفر التكوين الذي انطلق من حياة المؤمنين في حقبة امتدت من القرن العاشر قبل الميلاد الى القرن الخامس ق.م عاد الكاتب الى تقاليد عن ألآباء حفظت في ذاكرة ألأبناء صور وتعابير زخرت بها حضارة الشرق ولاسيما في بلاد الرافدين . من خبر الخلق في "انوما اليش " (لما في العلاء) الى خبر الطوفان (كلكامش) (6)
التاريخ هو معرفة ماضي البشريّة وتطوّرها منذ البدايات إلى أيّامنا. يكتبه المؤرخ فيروي الأحداث السابقة ويذكر الوقائع كما وصلت إليه. وهمُّه في ذلك تفسير الحاضر على ضوء الماضي.
كتب شعب إسرائيل تاريخه أو بالأحرى تاريخ الله في الكون الذي خلقه، تاريخ الله مع الإنسان الذي أراد له السعادة، تاريخ الله مع شعب أقام معه عهداً وطلب إليه أن يسير في طرقه ويحفظ وصاياه ويعمل بها. ...ليست النصوص التي بين أيدينا كلاماً مكتوباً فحسب، بل هي حياتنا لأنّها تساعدنا على العيش برضى الله. وليست فقط حكمة بشريّة تشبع رغبتنا في الاطلاع والمعرفة، بل آيات دوّنت لنؤمن بالله، وإذا آمنّا نلنا باسمه الحياة الأبديّة... بهذه الروح المؤمنة سنقرأ سفر التكوين. نقرأ عن الإنسان الأوّل، الإنسان الأصل الذي نكتشفه في كل واحد منّا كموضوع بركة الله. هذا الإنسان يجذبه الشر فيقطع كلّ علاقة له بالله. ويبغض أخاه وقريبه و يملأ الكون جوراً وفسادا.(7)
مصادر سفر التكوين
روى الكاتب الملهم بداية الكون والبشريّة فاستقى معلوماته بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من عالم الشرق القديم، ولا سيما من مصر وبلاد الرافدّين ومنطقة الفينيقيّين والكنعانيّين. والاكتشافات الأثريّة التي تم العثور عليها منذ القرن الماضي تدلّ على القرابة بين صفحات سفر التكوين الأولى وأناشيد عالم الشرق. ويبدو الأمر طبيعيّاً عندما نعرف أن الأرض التي أقام فيها بنو إسرائيل انفتحت على التأثير الخارجي. وإن شعب الله اتّصل عبر تاريخه بشعوب الشرق. ولكنّ هذه الاكتشافات بيّنت لنا أيضاً أن الكاتب الملهم لم يتبع المصادر التي أخذ منها بطريقة حرفيّة، بل أعاد صياغة معلوماته بحسب تقاليد شعبه مشدّداً على إيمانه بالله الواحد. فيمكننا مثلاً أن نقابل بين خلق العالم على يد الإله مردوك (في ملحمة أنوما أليش) والخلق بيد "يهوه". وبين قصّة الطوفان كما نقرأها في ملحمة جلجامش والقصّة التي نقرأها في سفر التكوين.(8)
يبدو لنا الله في هذه الرواية أيضًا الإله الوحيد الذي خلق وحده كل شيء، الإنسان والجنة والحيوانات والمرأة. وتتميّز صورة الله في هذه الرواية بأنّها تنسب إلى الله أعمالًا إنسانية، فتصفه وهو يغرس الجنة ويجبل ترابًا ليصنع الإنسان، ثم يأخذ ضلعًا من أضلاعه ليصنع المرأة، ويسدّ مكانها بلحم. وفي الفصل الثالث نراه "يتمشّى في الجنة عند نسيم النهار" (3 : 8)، ويصنع لآدم وحواء بعد الخطيئة "أقمصة من جلد ليكسوهما" (3 : 21). تظهر هذه الرواية قرب الله من الإنسان وعطفه عليه، إلا أنّها لا تقلّص شيئًا من قدرته، فهو وحده الخالق، وهو وحده السيد الذي يعطي الإنسان وصاياه وفي يده الحياة والموت.
من كل ما سبق يمكننا استخلاص التعاليم التالية:
1) أنّ الله هو الإله الوحيد الكائن منذ الأزل، الذي لم يأخذ كيانه من أي كائن آخر.
2) أنّ الله هو الخالق الوحيد للكون كله وللإنسان. وعمل الخلق هو فيض من محبته، فالله حاضر مدى الدهر مع الإنسان بصلاحه ومحبته وقدرته.
3) أنّ عمل الخلق هو عمل حر، لم يكن فيه الله مرغمًا ولا مقيّدًا بأي عامل خارجي. والكون الذي ينتج من عمله لا يتعلّق إلا به.
4) أنّ عمل الخلق هذا تصفه تقاليد مختلفة من سفر التكوين في عبارات وتصاوير وتشابيه متأثرة بالمحيط الذي نشأت فيه تلك التقاليد وبالبيئة التي كتب فيها سفر التكوين. ولا سيما بالحضارتين البابلية والمصرية.(9)
5) الله في النص الكتابي واحد ، بدل آلهة متعددة متصارعة ، والقوى الطبيعية (الشمس والقمر والنجوم) مخلوقة وليس مؤلهة كما في الأساطير الشرقية الأخرى .
6) إنّ القالب الأسطوري الذي صيغت فيه قصة آدم وحواء ، ينبغي ان لايغيب عن بالنا ، إذا شئنا ان ندرك حقيقة الرسالة الموحاة التي تحويها هذه القصة . وان لا نخلط بين جوهر هذه الرسالة وبين القالب الذي سُكبت فيه .
7) الوحي الألهي ، بمفهومه المسيحي ، عملية يساهم فيها الله والأنسان معا . بمعنى ان الأنسان في هذا المنظور ، ليس مجرّد أداة نقل الكلمة الإلهية ، بل انّه يتلقى هذه الكلمة بكل كثافته ألأنسانية ، التي تُلطّفها وتُنيرها كلمة الله ، على قدر تناغمها مع تلك الكلمة ، دون ان تُلغيها ، او تقفر فوقها . بعبارة أخرى ، فإنّ الوحي الألهي ، بمفهومه المسيحي ، كملمة إلهيّة تتجسَّد في كلمات إنسانية . والكلمات الأنسانية هذه تحمل طابع العصر الذي عاش فيه والحضارة التي نشأ في ظلّها ، وتأثر بها اعمق تاثير.
من هنا ،أنّ قصة الخليقة في سفر التكوين صيغت ، كما ذكرنا، بالقالب ألأسطوري الذي كان سائدا في ذلك العصر ، ووفقا للتصورات الشائعة حينذاك عن اصل الكون وتركيبه . فقد كانوا يتصورون ، مثلا ، الأرض مسطحة قائمة على أعمدة تغوص قواعدها في المياه السفلى ، وفوقها يمتد جَلد يفصلها عن المياه العليا وتنفتح فيه أحيانا كوى ينسكب منها المطر على الأرض . وان السماء فوقه قبّة ...الخ.
فالقالب يحمل طابع عصر بائد ولسنا ملزمين بحرفيته البتة . ما يهمنا بالمقابل إنّما هو الحقائق ألأيمانية التي سكبها الروح الألهي (الوحي الإلهي) فيه والتي تتجاوز حدود الزمان والمكان وتتوجه الينا اليوم ناقلة الينا رسالة علينا ان نلتقطها ونترجمها في ظروفنا الراهنة . من هنا ذلك الخلط المؤسف ، ذات النتائج المأساوية بالنسبة للأيمان ، الذي حصل تاريخيا بين الحقائق الإلهية ، من جهة ، وبين نظريات فلكية او بيولوجية عفا عليها الزمن ، ولكن حرفية الكتاب المقدس كانت تؤيّدها . وقد تمّ توضيحه بفضل تقدّم العلم من جهة ، وتقدُّم التفسير الكتابي من جهة أخرى بفعل توفّر فهم أكبر للأساليب ألأدبية المستعملة في النصوص الكتابية .. مما سبق يتضح انه لاينبغي بحال من ألأحوال ان نتخذ من قصة آدم (من أدمة اي تراب او ارض) وحواء (من حيّة أي معطية الحياة) ، كما وردت في الكتاب المقدس ، مجالا نفتش فيه عن معلومات علمية حول أصل الأنسان .
فالكتاب المقدس ليس كتاب علم ، بل كتاب عهد ، وليس الغرض منه كشف الحقائق العلمية لقارئه ، ذلك لان الله وهب الأنسان عقلا يصلح لاكتشاف تلك الحقائق ، وليس الله بالتالي أن يأتيه بها جاهزة ، وإلّا عطَّل ذلك العقل الذي وهبه أيّاه والغى تلك المبادرة التي ميّزه بها دون سائر الخلائق . همُّ الكتاب المقدّس ألأوحد هو ان يكتشف للأنسان ما يود الله ان يقوله له عن علاقة الحب التي يجمعه به وعن مقاصده الخلاصية حياله (خطة الله لخلاص البشر).
من هنا لا مجال لاقامة أي تضاد بين الرواية الكتابية من جهة وبين معطيات العلم من جهة أخرى . وما الخلاف الحاد الذي احتدم في الماضي بين الكنيسة المسيحية وبين العلم (حول مركز الأرض في الكون مثلا وحول نشوء الحياة واصل الأنسان) والذي لاتزال رواسبه تشوّه ، الى ألآن ، نظرة الكثيرين ، من المؤمنين والملحدين ، الى طبيعة الأيمان ، ما ذلك الخلاف المأساوي سوى صدام مفتعل لامبرّر له نتج لدى الطرفين من عدم التمييز الكافي بين" القالب الكتابي ومضمونه " .
فالرواية الكتابية تنقل الحقائق ألأيمانية في قالب تصوّرات العصر ، وهي تصورات سبقت نشوء العلم الحديث ومفاهيمه .
لقد شكّلت تلك التصورات اللغة التي كان بوسع اهل ذلك العصر ان يفهموها وان يلتقطوا عبرها الرسالة الإلهية الموجّهة اليهم . ولكن هذه اللغة ليست ملزمة لنا بحرفيّتها ، الملزم لنا هو مضمونها الأيماني ، الذي لنا أن نلتقطه بعناية وحرص شديدين ونترجمه الى لغة اقرب الى ذهنيّتنا ومفاهيمنا . وكما ان التضاد بين العلم والأيمان لامبرر له ، إذا وضعنا الأمور في نصابها الحقيقي بتمييزنا بين القالب والمضمون ، كذلك ، ومن المنطلق نفسه ، ينبغي استبعاد النظرة "التوفيقية " التي تحاول جاهدة أن تثبت انسجاما مزعوما بين الرواية الكتابية ومعطيات العلم (كإدِّعائها مثلا أنّ سبعة أيّأم الخليقة إنّما هي إشارة الى ألأدوار الجيولوجية المتعاقبة ..الخ .(10)
إن أحـد مشاهـير اللاهـوتيين الكاثوليك المعـاصـرين, ألا وهو الأب شونانبرج الهولندى, يوضح مضمون عـقيدة الخـلق, إذ يقـول فى كتابه" عـالم الله فى صـيرورة":
{ الله لم يخـلق وحسب, بل إنه مستمر بلا إنقطاع فى الخـلق. إذا كان قد ارتاح فى اليوم السابع, فراحته أيضـًا هى, حسب كلمـة يسوع, عـمـل مستمر: [ أَبِى يَعْـمَل حَتّى اَلآَنْ ] [ يوحنا 5: 17 ]. إن الفصل الأول من سفر التكوين يعـطينا رواية أخـاذة عـن عـمل الله " فى البدء". ولكن نصوصـًا أخـرى تظهـر لنا الله عـامـلاً دون إنقـطاع. هـذا هـو شأن المزمور 104 :"ما اعظم أعمالك يا رب ، بالحكمة صنعتها جميعا..تّرسل روحُكّ فتُخلَقُ وتُجدّدُ وجه الأرض "
والفصول 38 إلى 40 من سفر أيوب. طالما العـالم يدوم, فهو محمـول بكلمة قـدرته. كل كائن وكل عـمـل فى الكون, طالما هما موجـودان, مسببان منه. ليس الله مهندسًا متقاعـدًا, إنه ذاك الذى منه وفيه نحـيا ونتحـرّك ونوجـد ( أعمال الرسل 17: 28 )
أنَّ إيماننا بالخـلق ليس رهـنًا بالقـالب الحضـارى الذى سكب فيه الإعـلان الإلهـى عـن الخـلق فى سفـر التكـوين...
وأنـه يمكـننا أن نعـبّر عـنه بالقـوالب الفكـرية التى يتمـيّز بها عـصرنا ومن جملتهـا نظـرية التطـوّر...
هـذا ما سنحـاول أن نبيّـنه, مذكّـرين أولاً باختصـار بمراحـل التطـوّر كما يصفهـا العـلم الحـديث , ثم متعـرضين لما يقـتضـيه واقـع التطـوّر من تعـليل أخـير عـلى ضـوء العـقـل والعلم والإيمان *
(راجع المقالتين السابقتين للكاتب حول العقل والعلم والأيمان لتكتمل الصورة كما في الموقعين ادناه )
رؤيا - لاهوتية علمية عقلية - معاصرة لرواية "الخَلق" في سفر التكوين – الجزء الأول
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=782993
رؤيا - لاهوتية علمية عقلية - معاصرة لرواية "الخَلق" في سفر التكوين – الجزء الثاني
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=784029
تابعونا
(1)
المراجع
https://boulosfeghali.org/2017/frontend/web/index.php?r=site/text&TextID=2652&SectionID=29&CatID=212
تفسير الكتاب المقدس – الأب بولس فغالي
https://logosofgalilee.com
(2)
الأب لويس حزبون أستاذ الكتاب المقدس وتاريخ الخلاص في المعهد الأكليريكي :
https://abouna.org/content/
(3)
كتاب في البدء تاليف الدكتور اشرف عزمي
(4)
برنامج "مهم تكون مسيحي" الكون مخلوق ام مجهول الأب رمزي جريج
(5)
التفسير التطبيقي للكتاب المقدس
(6)
https://boulosfeghali.org/2017/frontend/web/index.php?r=site/text&TextID=2652&SectionID=29&CatID=212
(7)
الكتاب المقدس التفسير التطبيقي
(8)
المصدر (6) اعلاه
(9)
المركز الدائم للتنشئة المسيحية
http://www.zadwbarakat.com/
(10)
كتاب الأب كوستي بندلي بعنوان " كيف نفهم اليوم قصة آدم وحواء"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاهن الأبرشية الكاثوليكية الوحيد في قطاع غزة يدعو إلى وقف إط


.. الجماعة الإسلامية في لبنان: استشهاد اثنين من قادة الجناح الع




.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية


.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-




.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها