الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من رفض المشكلة إلى الرفض المشكلة

جعفر المظفر

2023 / 3 / 3
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


حينما يجري الحديث عن جذر المشكلة التي تعاني منها مجتمعاتنا وبلداننا العربية يجري التأكيد على أن العلة الأساسية تكمن في الإسلام نفسه. وأجزم أن طرح هذا الموضوع لا يخلو من مغامرة وذلك لحساسيته المفرطة التي لا بد وأن تثير ردود أفعال سريعة وحتى انفعالية قد تؤثر على استمرار الحوار نفسه . في البداية أرى أن عملية الإقتراب نفسها لا تخلو من سلبيات, أهمها تلك التي تذهب إلى أقصى اليسار, اي رفض الإسلام برمته أو تلك التي تذهب إلى أقصى اليمين من خلال التطرف في الدفاع عن الإسلام وإعلانه تابو غير قابل, حتى ولو على صعيد التفصيلة الصغيرة, للنقاش أو الحوار.
وأجد أن ثمة خطأ في كلا الموقفين, فلقد كتبت في السبعينات من القرن الماضي مقالة نشرتها صحيفة الثورة العراقية بعنوان كروية السياسة .. الذهاب إلى أقصى اليسار كالذهاب إلى أقصى اليمين, قلت فيها أن المتطرفين, سواء من اليسار أو اليمين من بعض الذين يشتغلون في الفكر السياسي يحاولون أن يثبتوا كروية الأرض بدلاً من أن يحاولوا تقديم حلول ناجحة لمجتمع بخصوصيات ذات تأثير قطعاً على طبيعة المناهج التي تتعامل مع أزماته.
وفي هذه المرحلة العشرينية من القرن الجديد كتبت تعليقاً على فوز رواية (فرانكشتاين في بغداد) للقاص العراقي المبدع أحمد السعداوي لجائزة البوكر العربية العالمية وأيضاً على ترشيح العراقية المبدعة أنعام كجه جي للفوز بالجائزة عن روايتها (الحفيدة الأمريكية) : الذهاب إلى العالمية يبدأ من دروب البتاويين أو من درابين الحيدرخانة ولم استثنِ دروباً أو درابين عراقية أخرى.
في كلتا الحالتين شعرت أن قلماً ذا روح عراقية يتطلع من دربونة عراقية إلى كل درابين العالم العربي أو العالم العالمي ليقول لهم (أنا هنا) ليس من باب الفخر أو لغرض المباهاة أو لجاهلية التعصب وإنما لغرض أن يقول أن الكتابة التي لا تنطلق من الخصوصيات الوضعية, أي من الواقع لتصفه وتعالجه, ليس فيها ما يغري على القراءة إذا كان الهدف من القراءة العثور على حلول وليس فقط الحصول على المتعة المجردة.
وكذلك فعل الكبير نجيب محفوظ حينما ترك لقلمه أن يعيش ويتحرك ويتحدث إلى العالم جميعه من درابين حي الحسين أو من دروب خان الخليلي, وأتى فوزه بجائزة نوبل العالمية تقديراً لـ (كُلِّهُ الثقافي) وليس تقديراً فقط لروايته المعنونة (أولاد حارتنا).
لقد نجح العراقيان الرائعان السعدواي وكجة جي في الحصول على عالميتهما بعد أن عرفا كيف يلبسا قلمهما (سدارة عراقية). كما أفلح نجيب محفوظ في الحصول على عالميته بعد أن ألبس قلمه (جلباباً مصرياً).
وبالعودة إلى أصل الموضوع (من رفض المشكلة إلى الرفض المشكلة) أود أن اقول ان بعض الحلول التي تقدم لمعالجة مشاكلنا ذات الخصوصية العالية, وبخاصة فيما يتعلق بالإسلام والعلاقة بالدين بشكل عام, إنما تضيف على المشكلة الأساسية مشكلة أكبر, وهنا يتحول الحل من طريقة لـ (رفض المشكلة) إلى (الرفض المشكلة).
لست ميالاً في الحديث أكثر عن هذا المشهد ذا الطبيعة الفكرية والسياسية المتداخلة لأن الأمر يتطلب كتاباً ولا تستطيع مقالة لوحدها أن تعبر عنه, ولغرض المزيد من التوضيح سأختار مثلاً واحداً . أمامنا كاتبان يتعاملان مع الدين بموقفين متناقضين جدا. واحدٌ يذهب إلى أبعد نقطة في ولائه للدين والثاني يذهب إلى أبعد نقطة في رفضه للدين, وبين هذا وذاك أجد أن الأرض ليست كروية بلغة الجغرافية لوحدها وإنما هي كروية أيضاً بلغة السياسة. وبسهولة سوف نجد أن من يذهب في تعنته إلى أقصى اليمين سيلتقي في مساحة واحدة, وحتى في نقطة واحدة, مع من يذهب إلى أقصى اليسار, فالقبول المتعنت أوالدفاع المتزمت عن قضية ما هو مشكلة, يعادلها أو حتى قد يفوقها أذى الرفض المنفلت عن هدفه ليصير الرفض نفسه هو الهدف بحد ذاته ولا يبقى وسيلة للتغيير.
أين نجد ذلك. لنأخذ الموقف من الدين : حينما تكون كاتباً مطلق السراح, أي حينما لا تتصدى للتغيير السياسي ولا ترشح نفسك لكي يكون لك ولقلمك دوراً سياساً فعالاً, سيكون من حقك, وفي أحايين أخرى من واجبك, أن تعبر عن رأيك واعتقادك بكل صراحة حتى لو أخطأت الصراخ.
ولكن حينما تكون سياسياً عليك أن تصل إلى فكرتك بأقل خسارة ممكنة حتى لو أخطأت الصمت, لأن القضية ذات حساسية عالية. ولكونك لا تعالج قضية أمريكية أو فرنسية وإنما هي بغدادية وقاهرية وصنعائية فإن إختيارك لإسلوب المعاجة لا يسقط حقك الشخصي في الإلحاد أو الإيمان وإنما يجعلك تتحفظ في التعبير عنه لآن الإفصاح عن الرأي هنا قد يكون من حق المفكر المطلق السراح ولا يكون من حق السياسي المقيد بهدف.
من حالة المفكر المطلق السراح إلى حالة السياسي المقيد بهدف فإن التغيير التدريجي ربما يتحول من كونه رفضاً للمشكلة إلى أن يصير هو (الرفض المشكلة), أي أن رفض المشكلة قد يتحول هو ذاته إلى مشكلة ونصف.
في عالم الفكر سيخسر الإسلام السياسي ورجال الدين موقفهم من قضايا الحكم والدولة لأن الدين في عالم اليوم لا يقدم حلولاً مقبولة للمشاكل السياسية للدولة والمجتمع والإنسان. أنه يقدم حلاً روحياً ونفسياً للفرد, ولكن متى وكيف يربحون ؟ يحدث ذلك حينما يختار السياسي الإلحاد لرفض المشكلة السياسية فيحول رفض المشكلة إلى مشكلة ويضع في يد الإسلام السياسي والمؤسسة الدينية سلاحاً خطيراً فتاكاً ليسهل عليها محاربته.
وبعد أن يحول هذا السياسي الملحد (ولا اقول المفكر الملحد) قضيته وقضية شعبه من قضية ضد الحاكم الطاغية والإسلام السياسي وحتى المؤسسة الدينية إلى قضية ضد الله نفسه, فسيجد نفسه بعد ذلك معزولاً عن الشعب الذي يريد قيادته مدعياً بعدها أن الشعب المتخلف قد خذله !!!!
هناك من قال أن الإسلام المعاصر قد تشوه, ثم يعلن : لو أننا عدنا إلى إسلامنا الأصلي لما صارت هناك أخطاء ولما صار هناك تخلف ولكنا قادرين على صنع ما صنعه الأجداد !! أما أنا فسأقول لا يا صديقي, العلة هي في الإسلام الأصلي حينما نستدعيه بشحمه ولحمه وعظمه لكي يكون حلاً في زمن اختلف كثيراً عن الزمن الذي جاء فيه, ولهذا ليس من الحكمة أن يناقش السياسي قصة (الإسلام المتخلف) وإنما عليه أن يناقش قصة (التخلف) الذي يخلقه تطبيق الإسلام بدعوى أنه صالح حرفياً لكل العصور.
نعم نحن عَلمانيون, لكن علمانيتنا ذات طريق خاص, ويوم لا تعثر علمانيتنا على طريقها الخاص فهي ستفشل حقاً, وبدايةً من فشلها في إدارة عملية الرفض بعد أن تحوله من رفض المشكلة إلى الرفض المشكلة.
وإنني أتعجب من أولئك الذين يعلنون أن الإلحاد هو الحل في مجابهة من يدعي بأن الإسلام هو الحل, ثم يتصور نفسه قادراً على حمل رسالة التغيير في مجتمع مسلم من جبهة الرأس حتى أخمص القدم.
أن تكون مفكراً حراً ومطلق السراح فإن من حقك أن تكون أي شيء : مؤمناً أو كافراً اًو ربوبياً أو لا أدرياً, ولكن حينما تكون مفكراً سياسيا مقيداً بهدف مرحلي أو حتى تاريخي فإن عليك أن تحسن الصنعة وإلا لكتبت على نفسك الفشل من اللحظة الأولى ولدخلت وأنت ترتدي خوذة الشيطان في معركة مع رجال الدين والإسلام السياسي المدججين بسلاح إسمه الله !!
ليس مطلوباً منك وأنت تتصدى لقيادة عمل سياسي في مجتمع إسلامي حد التخمة أن تستعير من رجل الدين جبته وعمامته لكن مطلوباً منك على الأقل أن لا ترتدي جبة الشيطان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم


.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله




.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah