الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معظم الناس يفضلون الموت على التفكير

داود السلمان

2023 / 3 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كان يمجّد العقل أيما تمجيد، فهو موغل بالعقلانية، عشق العلم منذ بداية دراسته، وأعتبر أنّ العلم هو من يوصلنا إلى حقائق قضايانا اليومية، نحن بني البشر، فالعلم من يكشف لنا أسرار الطبيعة، وذلك من خلال التجارب والمختبرات. لذلك أحبّ المنطق، وخصوصًا المنطق الرياضي، إذ طور المنطق الرياضي الحديث، واضاف إليه لمسات واضحة في هذا الاطار، واعَتقد أن الرياضيات لا يتسرب إليها الشك، مطلقًا، فواحد زائدًا اثنين تكون النتيجة أربعة، وهذه النتيجة ستكون هي، هي، في أي زمان ومكان.
أما موقفه من الدين فكان سلبيًا، إذ اعتبر الدّين سبب تعاسة الإنسان، فالدين لم يضف شيئاً للإنسان، بل التربية الصحيحة والاخلاق القويمة، هما اللذان يفعلان ذلك. لهذا فإنّ الدّين تسبب في كوارث كثيرة، كما يعتقد، واشعل الحروب، ومعظم رجال الدين استغلوا الدين وهجنوه، واستلبوا الناس عن طريق هذا الدين، المفصّل على مقاسهم. وقال أن الإله ليس بموجود، ويرى إنه لو كان موجودًا لحل معضلات الناس القائمة إلى يومنا هذا. وله كانت مواقف مناوئة لكل الحروب، ودائمًا ما كان يدعو للسلام ونبذ العنف، ونزع الاسلحة النووية، وحينما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1918، كان على رأس المعارضين لها، فكانت له مواقف سياسية صارمة، ومنددة بهذه الحرب، وهو القائل "الحرب لا تحدد من هو صاحب الحق، وإنما تحدّد من تبقى" وبسبب هذه المواقف أودع السجن لمدة ستة أشهر، وحتى بعد خروجه من السجن ظلت مواقفه ثابتة، إذ لم يتنازل عنها. فهو إنساني بمعنى الإنسانية، فكان يدافع، وبكل ما أوتي من قوة فكرية، يدافع عن الحرية الشخصية للفرد، حتى ألف كتيبًا صغير الحجم كبير المحتوى، أسماه "السلطة والفرد" دافع فيه دفاع المستميت عن الفرد وعن حقوقه، وادان جميع السلطات الاستبدادية، واعتبر أن الفرد، اين ما كان هذا الفرد، له حقوق في الحياة وفي العيش، وعلى الدولة أن توفر له جميع هذه الحقوق، وأن تسهر على راحته، وان تؤمّن مستقبله، وإلا فإنّ هذا السلطات هي غير جديرة بأن تحكم الفرد وأن تطلب منه الطاعة، واحترام القوانين التي توضعها، لأنّ هذه القوانين هي حماية لها (السلطات) وليست حماية للفرد، طالما لا تضمن حقوقه، وتؤمّن مستقبله، فالفرد أمانة في عنق الدولة.
ومن الجدير بالذكر أن ايمان راسل بالعلم، لا حدود له، لذلك فهو انتقد الميتافيزيقا وسخر منها، وكان يقول: "العلم لا يهدف إلى إنشاء حقائق ثابتة وعقائد أبدية... بل يهدف إلى الاقتراب من الحقيقة بالتقريب المتتالي دون الادعاء أن الدقة النهائية والكاملة قد تحققت في أي مرحلة".
وُلد برتراند آرثر ويليام راسل في ١٨ مايو ١٨٧٢ في أسرة شهيرة، هي الفرع الأصغر من نبلاء بيدفورد. وكان جده لأبيه هو اللورد جون راسل الشهير الذي استحدث قانون الإصلاح في عام ١٨٣٢، وكانت تلك هي الخطوة الأولى نحو إضفاء الطابع الديمقراطي على البرلمان. وشغل اللورد جون منصب رئيس الوزراء مرتين - من ١٨٤٦ إلى ١٨٥٢ ومن ١٨٦٥ إلى ١٨٦٦ - ومنحته الملكة فيكتوريا لقب إيرل. وكان جد راسل لأمه - اللورد ستانلي أوف ألديرلي - من الحلفاء السياسيين للورد جون.
كان والدا راسل زوجين غير عاديين ومثيرين للجدل؛ إذ كانا ملتزمين بالقضايا التقدمية مثل تنظيم الأسرة وحق التصويت للنساء. واختار أبوه - الفيسكونت أمبيرلي - جون ستيوارت مِل ليكون أباه بالمعمودية بالمعنى غير الديني. وتُوفِّي مِل قُبيل عيد ميلاد راسل الأول؛ لذا كان تأثيره عليه غير مباشر، مع أنه كان كبيرًا.
وذكر إيه سي جرايلينج، عن حياة رسل وفلسفته، ترجمة إيمان جمال الدين الفرماوي، ذكر إن أعظم إسهامات رسل والأسس الحقيقية التي قامت عليها سمعته تكمن في النطاقات الفنية المتخصصة لمجالَي المنطق والفلسفة؛ فقد كان تأثيره شديدًا على مضمون الفلسفة وأسلوبها في البلدان الناطقة بالإنجليزية في القرن العشرين، حتى إنه أصبح يمثل اللحن الأساسي للفلسفة في تلك الفترة. صار الفلاسفة يستخدمون الأساليب والأفكار الناشئة من عمله دون أن يشعروا بالحاجة إلى ذكر اسمه - بل وأحيانًا دون إدراك وجود تلك الحاجة - مما يوضح مدى تأثيره. وبهذه الطريقة قدَّم راسل إسهامًا أهم بكثير في الفلسفة مقارنةً بتلميذه لودفيج فيتجنشتاين. لقد تعلمت الفلسفة دروسًا قيِّمة من فيتجنشتاين، ولكنها اكتسبت إطار عمل كاملًا من راسل، يشكل ما صار يُطلَق عليه حاليًّا «الفلسفة التحليلية».
رسل كان قد كتب سيرة حياته بنفسه، وإنّه على ما يبدو كان شكاكًا منذ نعومة أضفاره، إذ يقول في سيرته هذه:
"ظللت ثلاثة أعوام أُفكر في الدين، معتزمًا ألا أدعَ أفكاري تتأثر بأهوائي، فانتهيت بفكري أولًا إلى عدم الإيمان بحرية الإرادة، ثم انتهيت إلى نبذ فكرة الخلود، لكنني ظللت على عقيدتي في وجود الله، حتى أتممت عامي الثامن عشر، وعندئذٍ قرأتُ في الترجمة الذاتية التي كتبها مِلْ عن حياته، هذه العبارة: «لقد علمني أبي أن سؤالي: «من خلقني؟» ليس بذي جواب؛ لأنه يُثير على الفور سؤالًا آخر: «ومن خَلقَ الله؟» وفي اللحظة التي قرأت فيها تلك العبارة، استقر مني الرأي على أن برهان «العلة الأولى» على وجود الله برهان باطل".
ويضيف رسل: "كانت لي بين عامَي ١٨٩٤م، ١٨٩٨م عقيدةٌ في إمكان البرهنة بالفلسفة الميتافيزيقية على أشياءَ كثيرة تُقال عن الكون، وهي أشياءُ أوهمَني شعوري الديني عندئذٍ بأنها موضوعاتٌ هامة، وانتهى بي قراري إلى أن أتجه بحياتي إلى الفلسفة، وقدمت رسالة أحصل بها على درجة «الزمالة»، جعلتُ موضوعها أسس الهندسة، فصادفَت الرضا عند «وورد» و«وايتهد»، ولو لم يُثنيا عليها لكنت غيرت اتجاهي إلى دراسة الاقتصاد التي بدأتها في برلين، فإني لأذكر ذات صباح إذ كنت سائرًا في متنزَّه «تير جارتن» في برلين كيف وضعت لنفسي خطة مقتضاها أن أكتب سلسلة من الكتب في فلسفة العلوم، صاعدًا بها صعودًا متدرجًا نحو ما هو أكثر تعينًا، فأبدأ بتجريد الرياضة، ثم أنتقل خطوة خطوة إلى غاية التعين في علم الحياة (البيولوجيا)، وكذلك رجوت عندئذٍ أن أكتب سلسلة أخرى من الكتب أُعالج بها المشكلات الاجتماعية والسياسية، بادئًا هذه المرة بالعلوم المتعينة منتهيًا بما هو مجرد، ثم أُقيم آخر الأمر بِناءً على غرار ما قد صنع هيجل، فأكتب موسوعة أجمع فيها بين النظر والتطبيق، تلك خُطة أوحى بها إليَّ هيجل، فلما انحرفت بفلسفتي بعدئذٍ عن الاتجاه الهيجلي، بقي لي شيء من تلك الخطة الأولى، ألا ما كان أهمَّها لحظةً، تلك التي صممت لنفسي فيها ذلك البرنامج! وما أزال حتى الآن أُحسُّ بذاكرتي ضغطةَ قدمَيَّ على الثلج الذائب، وأشَمُّ الأرض اللينة الرطبة التي كانت بشيرًا بزوال الشتاء".
وبعد أن نضج عقله وتوسعت مدارك ذهنه، وتغذى بمعارف فكرية كثيرة، وألف العديد من الكتب الفلسفية والفكرية، اعتنق مذهب اللاأدرية، كحل وسط. فراسل مفكر وفيلسوف ورياضي ومنطقي، وسياسي بارع، ويمتاز بحس إنساني كبير. ومن أهم كتبه كتاب "تاريخ الفلسفة الغربية" وهذا الكتاب يقع في ثلاثة أجزاء، استعرض فيها المؤلف أهم المدارس الفلسفية ومفكريها، وسلط الضوء على صراع الأفكار، واختلاف المدارس هذه عما تجد كل مدرسة، من وجهات نظر مختلفة هي اقرب للواقع، بحسب رؤياها، وفي هذا الكتاب تجد ايضًا لراسل وجهة نظر، ربما تكون مختلفة عن مدرسة، ومؤيدة لأخرى. والكتاب الثاني، والذي يعد ذا أهمية معتبرة، كتاب "حكمة الغرب" ويقع في جزأين، وقد يعتبر اكمالاً لكتابه الأول، لكنّه يختلف بعض الشيء عن طرحه للكتاب الأول، وكتاب "مشكلات فلسفية" وغير ذلك من كتبه الأخرى الكثيرة.
ولعل الميزة التي تميز رسل عمن سواه، من الفلسفة والمفكرين، إنّه كان ابن أسرة ثرية معروفة في الأوساط الارستقراطية، وكذلك الاوساط السياسية والعامة، فهو شخصية فذة ومؤثرة، يحسب لها الكثير الف حساب. فهو من أشهر فلاسفة القرن العشرين على الأطلاق، وبلغ من العمر 98 عامًا وإلى حين وفاته وهو يحاضر ويكتب ويعطي المشورة والرأي السديد، كأن الأعوام التي قضاها في الكتابة والتأليف والقاء المحاضرات والدروس لم تكفه، حيث كان يستثمر كل أوقاته في البحث والتأمل ومراقبة آخر مستجدات السياسة والعلم. يفعل هذا تطبيقا لمقولته: "قد يضع العلم حدودًا للمعرفة، لكنّه لا يجب أن يضع حدودا للخيال".
مصادر البحث:
1-وول ديورانت، قصة الفلسفة، منشورات المكتبة الفلسفية، بترجمة فتح الله محمد، الطبعة الأولى- بغداد 2017.
2-جون لويس، مدخل الى الفلسفة، منشورات دار الحقيقة، بيروت، سنة الطبع 1973 بترجمة أنور عبد الملك.
3-الموسوعة الفلسفية، وضع مجموعة من علماء السوفيات، بيروت لبنان، سنة الطبع 1974، الطبعة الأولى.
4-نايجل واربرتون، محتصر تاريخ الفلسفة، ترجمة محمد فضل، دار الكتب العلمية، سنة الطبع 2019 الطبعة الأولى.
5-راسل، مشكلات فلسفية، منشورات مؤسسة الانتشار، ترجمة خالد الغنامي، سنة الطبع 2017، بيروت لبنان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر مصرية: وفد حركة حماس سيعود للقاهرة الثلاثاء لاستكمال ا


.. جامعة إدنبرة في اسكتلندا تنضم إلى قائمة الجامعات البريطانية




.. نتنياهو: لا يمكن لأي ضغط دولي أن يمنع إسرائيل من الدفاع عن ن


.. مسيرة في إسطنبول للمطالبة بإيقاف الحرب الإسرائيلية على غزة و




.. أخبار الساعة | حماس تؤكد عدم التنازل عن انسحاب إسرائيل الكام