الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في كتاب: الرياضيات -حرفة عقلية-: طريقة جديدة في الإدراك العقلي

كمال طيرشي

2023 / 3 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


صدر عن المركز العربي، كتاب هام يندرج في إطار فلسفة العلوم، يتناول موضوع الرياضيات باعتبارها صناعة عقلانية شديدة التجريد، تمنحنا قدرة على إدراك الأشياء بطريقة معقولة، ويٌقدم الكتاب شرحًا وافيًا متتبعًا الطريقة التي تحولت فيها هذه الصنعة إلى منهاج عقلي، يمتلك الأهلية للتأثير على كثير من مناحي حياتنا الاجتماعية والسياسية والفكرية، بما في ذلك الشؤون المتعلقة بسوق العمل والعلاقات بين الدول، وصناعة القرار السياسي وغيرها، كما يٌقدم الكتاب مطارحات علم الرياضيات في علم السلوك والنفس من خلال بعض النماذج التي كان لها حضورًا قويًا، وساهمت في تطوير الكثير من النظريات المتعلقة بعلم النفس السلوكي، كما هو الحال بالنسبة للمدرسة الجشطالتية، التي تنبني في جوهرها على حل المشكلات التي نتعرض ها من خلال الاستعانة بالإدراك الكلياني للأشياء وطريقتنا في استبصار الحقائق الماثلة أمامنا، وليس عن طريق استكشاف المناحي الجزئية فقط من الأشياء، وأن الطواهر تعرف على نحو شامل وكلي، كما أن حذق العلاقات القائمة بين العناصر المؤلفة للأشياء والمواقف، يتم بصورة كلية، مستعينة في ذلك بما جادت به الرياضيات من قوانين وآليات، ولعل من أهم القوانين التي استعانت بها النظرية الجشكالتية: قانون الصورة وقانون الإغلاق وقانون الاسقرار الحسن للأشياء، وقانون التقارب، مركزة على الناظم المعرفي المُتحكم في طريقة التعلم واسكتساب المهارات وأيضًا أهمية البيئة التي يعيش فيها الفرد، والكيفية التي تؤثر بها على طريقة إدراكه للأمور.
كما ينفتح الكتاب على أثر الفراشة تاريخيًا، مستعينًا في ذلك بنماذج مستقاة من الواقع العربي، باحثًا فيما إذا كان لهذه الحركية التي تقوم بها الفراشة أي تأثير في عملية الاستقرار التي تمتاز به المنظومة الكونية، من منطلق أن تأثير الفراشة يقر بأنه قد تكون عندنا قوى قابعة يتم اهمالها وضعيفة، إلا أنه وبرفة خفيفة لجناح هذا الكائن الصغير تترك ربما في الخليج العربي رياح شديد وفياضانات، وبطريقة غير متوقعة البتة. كما يستفسر صاحب الكتاب الباحث محمود باكير عن علاقة كل هذا بالنسق السوسيولوجي والسياسي وما يجري أيضًا في عالمنا العربي، وإن كان لنا القدرة والمٌكنة على التفسير وضرب الأمثلة والنمذجة من خلال تقديم نفسيرات رياضية خالصة لكل ما يجري في سلوكنا نحن النشر، وينافح الباحث على دور طبيعة الحجاج الرياضي في بلورة المنظمومة المنطقية في الخطابات التي نعتمدها، أو حتى في شتى ضروب الإبداع الفكري والأدبي والفلسفي، وأيضًا في خطاباتنا التي نجريها على نحو دائم في حياتنا اليومية، كما يتناول الباحث الفوائد المرتجاة من علم الرياضيات واستخدامها في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والتي من خلالنا نفهم سلوك زمرة من البشر، وتقديم تصورات استشرافية عما سيؤول إليه سلوكهم، والقدرة على توقعه قبل حصوله بمدة معينة، وليس هذا فحسب بل النظر أيضًا في الكيفية التي تؤثر بها الرياضيات في عملية الانماء الأخلاقي، وتقويمه.
ماذا تعني الرياضيات؟
لعل هذا السؤال يُطرح بكثرة من لدن الدارسين المختصين في العلوم العقلية عمومًا، وليس هذا فحسب يل يتساءلون عن البُغية المُرتجاة من وراء دراسة هذا العلم بالذات، وما الفائدة والقيمة التي يُمكن تحصيها من وراء دراسة هذا العلم التجريدي العقلاني البحت. ولكن ومع ذلك يبقى السؤال المركزي ههنا من وراء كل هذه الاستفسارات والانشغالات ما يتعلق بماهية الرياضيات تحديدًا؟، وتبقى الإجابة عن هذا السؤال تحديدًا ليست من السهولة بمكان، حيث لا يركز أغلب دارسيها على تناولها، بحكم التعقيد الذي يتلبس محاولة الإجابة عنها، وهو ليس بالأمر الميسور خصوصًا لدى المبتدئين، الذين ليس لهم قدم راسخة في هذا العلم بالذات، ولعل من الأمور التي تقرب للباحث عن إجابات في هذا المنحى، أن يخوض غمار هذا العلم ويتمرس فيه، وتمضي به السنون الطوال في التعلم والتحصيل، حينها يُمكن أن تنجلي أمام عينيه بعض الإجابات المقنعة والمقربة لمُراده. ويبقى الغريب في الأمر في ندرة هؤلاء الذين يمتهنون هذه الصنعة تحديدًا، حيث يستغرب الباحث من الذين يعمرون وسائل الاعلام ووسائط التواصل الاجتماعي من علماء اجتماع، ومفكرين وفنانين وسياسيين بدرجة كبيرة، إلا أنه من النادر أن نجد وسيلة إعلامية عربية كانت أو غربية تستدعي عالم رياضي لتفتح حوارًا معه بخصوص هذا العلم بالذات، والمفاهيم المقاربة له، أو حتى تفتح النقاش مع هذا العالم الرياضي ليقدم رؤية تبسيطية تقريبية للمشاهد أو المتهم تُميط اللثام عن حقيقة هذا العلم وتبسط من تعقيده. فلما تسأل أي شخص في الشارع أو في أي مكان عن أسماء لاعبي كرة قدم أو سياسة أو فنانين ونجوم سينما تجده يستحضر أسماءهم بسرعة، بخلاف لو تتحداه في أن يستحضر لك على الأقل اسم عالم أو اثنين من كبار علماء الرياضيات، ممن تركو بصمتهم وأثرهم الكبير في الحضارة البشرية، وللأسف هذا ما جعل هذا العلم بالذات يعيش في برجه العاجي، وهو في عزلة كاملة عن الناس العاديين، بحكم التماسف الكبير الابستمولوجي والفلسفي يزيد مع مرور الأزمنة، هذا بالإضافة إلى سوء الفهم التي تجبل الناس في علاقتهم بالرياضيات وماهيتها، ولعل السواد الأعظم فيهم يعمل من الرياضيات جوانب محددة متعلقة بالحساب أو الجبر ونزر يسير من هذه الإجراءات والخوارزميات، وتكون في الغالب لغايات متعلقة ببعض الحسابات البسيطة التي يقوم بها أثناء عمله اليومي فقط.

البنية" في الرياضيات
لعل الصيغة التي تم من خلالها حبك مفهوم البنية في علم الرياضيات، هي من تمخضات النزعة الصوررية التي وضع معالمها الأولى عالم الرياضيات هيلبرت في بداية القرن العشرين، واقتدر هذا العالم على تقديم أول بناء أسيوماتيكي للهندسة دون أن يتناقض ما توصل به مع التحليل، كما قدم نظرية البرهنة التي تقوم على المنطق الموسه حول نظرية المجموعات التقليدية، ساعيًا إلى انقاذ الحال التقليدي للرياضيات بالاستعناة بوسائط جديدة لها المُكنة العالية في أن تعطينا براهين مطلقة بالنسبة للحساب والتحليل. ولعل المدرسة التي جاءت بعده (المدرسة الصورية) قد نافحت عن الأنظمة الصورية الرمزية، والمفاهيم المجردة، معتبرة أساس علم الرياضيات لا يمكن حصره في المنطق فقط، بل يمكن أن يمتد ليمس مناحي الرموز والاشارات، وأن المرمى الجوهري الذي تسعى إليه الرياضيات هو دراسة بنية هذه الأشياء من خلال البحث عن نظام رمزي يعبر بدقة عن هذه الأشياء.

"أثر الفراشة" في الواقع العربي
لعل من الأفكار الأساسية الناطمة لسيرورة الأشياء في هذا العالم، هو في خضوعها لنظام قانوني راسخ وعام، تحكمها زهمة تغايرات قد تطرأ عليه بين الفينة والأخرى، وعبر تمرحلات جذرية قد يطول عدها، لهذا يكون للأنطمة الديناميكية علاقة وطيدة بما يجري من تغيرات في واقعنا الحياتي، سواء في منحاه الاجتماعي أو السياسي وغيرها، فمهما كان هذا التغير الحاصل بسيطًا ومحصورًا، إلا أنه يمثل لبنة أساسية لتغيرات جذرية عميقة قد تحصل فيه، وكلما طال الأمد بهذه التغيرات الحاصلة كلما استعت المساحة لتغيرات كثيرة، تبدأ في الغالب بسيطو لا تكاد تذكر، ثم تكبر شيئًا فشيئًا لتصير أشياء معقدة وكبيرة، ويصعب في الكثير من الأحيان السيطرة عليها برغم بداياتها المحتشمة نوعا ما. لهذا تبقى رفة جناج الفراشة ماهي إلا شيء بسيط يُنبئ بأمور عظيمة قد تحصل في قادم الأزمنة، وهذه الأمور قد تكون سيئة إن لم نتعامل معها بحذر وذكاء مدروس، إلا أن هذه العلاقات المعقدة التي تحصل ليس بالضرورة أن تكون عبارة عن علاقة تلازمية بين فعل ورد فعل آنية. كما يحصل في بعض الحالات التي نعايشها، لهذا يتعين على الباحث أن ينظر بمنظار الفاحص لكل ما يتعين عليه مراقبته بدقة، ويبدأ الأمر بأبسط الأمور المتعلقة بالعالم الأصغر حيث تبدأ الأشياء صغيرة قد لا تحدث شيء في الواقع، إلا أنها تسير ببطء في بعض الحالات ويبدأ يعظم أمرها مع تقدم الزمان إلى أن تصير شيئًا كبيرًا معقدًا يصعب في الكثير من الحالات معاينته أو حتى إيجاد حلول سريعة له.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بهجمات متبادلة.. تضرر مصفاة نفط روسية ومنشآت طاقة أوكرانية|


.. الأردن يجدد رفضه محاولات الزج به في الصراع بين إسرائيل وإيرا




.. كيف يعيش ربع سكان -الشرق الأوسط- تحت سيطرة المليشيات المسلحة


.. “قتل في بث مباشر-.. جريمة صادمة لطفل تُثير الجدل والخوف في م




.. تأجيل زيارة أردوغان إلى واشنطن.. ما الأسباب الفعلية لهذه الخ