الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


روافد السلوك السوفيتي

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2023 / 3 / 9
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها


لقد تشكلت الشخصية السياسية لنظام الحكم السوفيتي كما نعرفه اليوم من رافدين رئيسيين هما الأيديولوجيا الشخصية والظروف الموضوعية: الأيديولوجيا التي ورثها القادة السوفييت الحاليون من الحركة التي تمخضت عنها ولادتهم السياسية، والظروف المحيطة بالحكم كما يمارسونه الآن منذ نحو ثلاثة عقود في روسيا. ربما ليس هناك من مهام التحليل النفسي ما يفوق في صعوبته محاولة تتبع أثر التفاعل بين هذين الرافدين والدور النسبي الذي قد لعبه كل منهما في بلورة سلوك منظومة الحكم السوفيتية. رغم ذلك لا مناص من المحاولة إذا ما أردنا أن نفهم هذا السلوك ونتعاطى معه بطريقة مجدية.

ليس بالأمر السهل تلخيص حزمة المفاهيم الأيديولوجية التي قد حملها معهم القادة السوفييت إلى سدة الحكم، لاسيما وأن الأيديولوجيا الماركسية، في نسختها الشيوعية الروسية، كانت على الدوام في طور التشكل الحثيث وتضع قواعدها فوق فرضياتها غاية في التشعب والتعقيد. مع ذلك يمكن تلخيص السمات البارزة للفكر الشيوعي كما هو قائم في 1916 كالآتي: (أ) أن العامل المحوري في حياة الإنسان، العامل الذي يقرر طبيعة الحياة العامة و"لُحْمَّة المجتمع،" هو النظام الذي يتم من خلاله إنتاج وتبادل السلع المادية؛ (ب) أن نظام الإنتاج الرأسمالي شَرٌّ مُسْتَطِيرٌ يؤدي حتماً إلى استغلال الطبقة العاملة من قبل الطبقة المالكة لرأس المال وعاجز عن تطوير ما لدى المجتمع من موارد اقتصادية بالشكل الملائم أو توزيع ما تنتجه الأيدي العاملة من سلع مادية بطريقة عادلة؛ (ج) أن الرأسمالية تحوي بداخلها بذور فنائها ذاتها وتؤدي في نهاية المطاف وبشكل لا مفر منه، بالنظر إلى عجز الطبقة المالكة لرأس المال عن التكيف مع التغير الاقتصادي، إلى عملية انتقال ثورية للسلطة إلى الطبقة العاملة؛ و(د) أن الإمبريالية، المرحلة الأخيرة في تطور الرأسمالية، تُفضي مباشرة إلى الحرب والثورة.

يمكن إيجاز المتبقي بكلمات لينين نفسه: "تُبنى الرأسمالية فوق مبدأ أساسي غير مرن هو التفاوت في التطور الاقتصادي والسياسي. ويترتب على ذلك أن انتصار الاشتراكية قد يتحقق مبدئياً في بضع بلدان رأسمالية أو حتى في بلد رأسمالي واحد. ومن هناك تنهض البروليتاريا المنتصرة وتثور- عقب انتهائها من مصادرة ممتلكات الرأسماليين وتنظيم الإنتاج الاشتراكي داخل البلاد- ضد بقايا العالم الرأسمالي، وفي أثناء ذلك تجتذب لصفها الطبقات المضطهدة في البلدان الأخرى." في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى غياب أي افتراض بإمكانية أن تنهار الرأسمالية من دون ثورة بروليتارية. بل هناك دائماً حاجة ملموسة لدَفْعَّة أخيرة توفرها حركة بروليتارية ثورية من أجل تنكيس هذا الهيكل الآيل للسقوط لكنه لن يسقط من تلقاء نفسه، بل بعد دَفْعَّة كانت محتومة وآتية آتية عاجلاً أو آجلاً.

كان هذا النمط من التفكير طوال 50 عاماً قبل اندلاع الثورة قد فعل سحره بقوة عظيمة على أعضاء الحركة الثورية الروسية. وقد وجد هؤلاء الثوريون، المحبطون والناقمون واليائسون بشدة من إيجاد متنفساً لهم للتعبير عن أنفسهم- أو بالأحرى لا يطيقون صبراً للبحث عنه- عبر أنفاق النظام السياسي القيصري المقيدة، وفي الوقت ذاته لا يحظون بتأييد شعبي يُذكر لاختيارهم الثورة الدموية وسيلتهم لترقية المجتمع، وجدوا في النظرية الماركسية الغطاء الفكري المُحكم والمُفصل بالضبط على مقاس رغباتهم المكبوتة؛ لقد وفرت ما يشبه التبرير العلمي لنفاذ صبرهم، لإنكارهم المطلق لأي قيمة في النظام القيصري، للهفتهم على السلطة ورغبتهم في الانتقام واستعدادهم لفعل أي شيء مهما كان يوصلهم إلي سدة الحكم. لذلك لم يكن مستغرباً أن يصل بهم الأمر إلى حد الإيمان الضمني المطلق بصواب وطُهْر التعاليم الماركسية-اللينينية، المطابقة تماماً لاستعداداتهم ودوافعهم وميولهم النفسية. في هذا الصدد، نحن لسنا بوارد التشكيك في صدق نواياهم. لأن هذه الظاهرة قديمة قدم الطبيعة البشرية ذاتها، ولم يسبق لأحد أن وصفها ببراعة أكثر من إدوارد جيبون، الذي كتب في ’أفول وسقوط الإمبراطورية الرومانية‘: "من الحَماس إلى الدَجل الخطوة خطرة وزلقة؛ يضرب لنا شيطان سقراط مثالاً لا يُنسى للكيفية التي قد يخدع بها الرجل الحكيم نفسه، الكيفية التي قد يخدع بها الرجل الطيب الآخرين، الكيفية التي قد يخلد بها الضمير الحيّ في حالة مختلطة ووسيطة بين خداع الذات والتزييف العمدي." لقد أتى أعضاء الحزب البلشفي إلى السلطة وفي جعبتهم هذه الحزمة بالذات من القناعات.

الآن تجدر الإشارة إلى أن اهتمام هؤلاء الرجال، مثلما يصدق على ماركس نفسه، كان طوال كل سنوات الإعداد للثورة غير منصب على المسار المستقبلي الذي ستسلكه الاشتراكية بقدر ما كان منصباً على ضرورة الإطاحة بكل سلطة تعارضهم الذي، من وجهة نظرهم، كان ينبغي أن يسبق قدوم الاشتراكية ويمهد لها. بالتالي، كانت رؤيتهم حول البرنامج الإيجابي المزمع وضعه موضع التنفيذ بمجرد الوصول إلى الحكم ضبابية وحالمة وغير قابلة للتطبيق العملي في أحسن الأحوال. إذ أبعد من تأميم الصناعة ومصادرة الموجودات الرأسمالية الخاصة الكبيرة لم يوجد برنامج مُتفق عليه. وبقيت معاملة الفلاحين، الذين وفقاً للمعادلة الماركسية لم يكونوا جزء من البروليتاريا، تشكل دائماً ثغرة غامضة في نمط التفكير الشيوعي؛ وظلت موضع شد وجذب ومراوحة طوال السنوات العشر الأولى من العهدة الشيوعية.

كانت الظروف المحيطة بفترة ما بعد الثورة فوراً- معاناة روسيا من الحرب الأهلية والتدخلات الأجنبية، مقترنة مع الحقيقة الساطعة أن الشيوعيين لم يمثلوا سوى أقلية ضئيلة من الشعب الروسي- تجعل من تأسيس الحكم الديكتاتوري ضرورة حتمية. غير أن التجريب مع "شيوعية الحرب" والمحاولة المباغتة للقضاء على الإنتاج الخاص والتجارة الحرة قد خَلَّف عواقب اقتصادية وخيمة وفاقم من مشاعر السُخط ضد النظام الثوري الجديد. وبينما أسهم الإرخاء المؤقت لجهود تشييع روسيا، كما تمثل في السياسة الاقتصادية الجديدة، في التلطيف من وطأة هذه الشِّدة الاقتصادية وبالتالي حقق الغرض منه، إلا أنه كشف بجلاء أيضاً أن "القطاع الرأسمالي في المجتمع" كان لا يزال مستعد للتربح من أي إرخاء للضغط الحكومي ومُستعد في الوقت نفسه، إذا ما سُمِح له بالاستمرار في الوجود، لكي يشكل عنصر معارضة دائم وقوي للنظام السوفيتي ومزاحم جاد له على النفوذ في البلاد. وكان نفس هذا الوضع ينطبق أيضاً إلى حد ما فيما يتعلق بالفلاح الفرد الذي، بطريقته الصغيرة الخاصة، كان منتجاً خاصاً كذلك.

لو كان لينين لا يزال على قيد الحياة آنذاك لربما برهن عن حِنكة كافية للتوفيق بين هذه القوى المتعارضة بما يحقق مصلحة المجتمع الروسي ككل في نهاية المطاف، رغم التحفظ على هذا الاحتمال. لكن وبصرف النظر، لم يكن ستالين وصَحْبه الذين تصدروا مشهد الصراع على من يخلف لينين في منصب القيادة من نوعية الرجال الذين يتسامحون إزاء القوى السياسية المزاحمة لهم على السلطة بعدما نفذ صبرهم انتظاراً لهذه اللحظة. كان إحساسهم بعدم الأمان عظيماً؛ وكانت ماركتهم الخاصة من العصبية، التي لم تهذبها أي من تقاليد التفاوض والتسوية الأنجلو-ساكسونية، شديدة الشراسة والغيرة لدرجة يستحيل معها تصور القبول بأي درجة من المشاركة الدائمة في السلطة. لقد ورثوا من نشأتهم في العالم الروسي-الأسيوي توجساً وشكاً عظيمين في إمكانيات التعايش المشترك الدائم والسلمي بين القوى المتنافسة. كان إيمانهم مطلق بـ"صواب" عقيدتهم، وأصروا على أن تُسلم لهم كل قوة منافسة أو سيسحقونها. وأبعد من الحزب الشيوعي، لم يلمسوا حاجة لتفصيل المجتمع الروسي على مقاسهم. بل كان يتعين استئصال كافة أشكال النشاط أو الائتلاف البشري التعاوني غير الخاضع لتوجيه الحزب. وما عاد مسموحاً لأي قوة أخرى في المجتمع الروسي أن تتشكل أو تتحرك بفاعلية أو كفاية ذاتية. وحده الحزب فقط هو المسموح له بامتلاك بُنية تنظيمية، وكل ما عداه كتلة هلامية بلا هوية وبلا جسم فاعل ومميز.

ويسري نفس هذا المبدأ حتى داخل الحزب، حيث يجوز للكتلة المؤلفة من أعضاء الحزب المضي عبر مراتب الانتخاب والمداولة والقرار والتنفيذ؛ لكنهم أُجبروا أثناء التحرك عبر هذه المراتب على التجرد من إراداتهم الشخصية بالكامل وارتداء جلباب قيادة الحزب الضيق والخضوع التام لمنطوق "الأوامر".

،،،يُتبع،،،،،
_______________________
* نٌشرت هذه المقالة في عام 1947
ترجمة: عبد المجيد الشهاوي
رابط المقال الأصلي:
https://www.foreignaffairs.com/articles/russian-federation/1947-07-01/sources-soviet-conduct








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحوثيون يعلنون بدء تنفيذ -المرحلة الرابعة- من التصعيد ضد إس


.. مصادرنا: استهداف مسيرة إسرائيلية لسيارة في بنت جبيل جنوبي لب




.. تصاعد حدة الاشتباكات على طول خط الجبهة بين القوات الأوكرانية


.. مصادر عربية متفائلة بمحادثات القاهرة.. وتل أبيب تقول إنها لم




.. بروفايل | وفاة الداعية والمفكر والسياسي السوري عصام العطار