الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من إشكاليات المعرفة في عالم يركض سريعا.

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 3 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


النقطة الأساسية في هذه المقالة تتركز حول صورة المعرفة وخصائصها السيسيولوجية في عالم كل شيء يمضي فيه سريعا دون أن نتمكن حتى من معرفة ما نعرف ونختبرها أو نخضعها لقوانين المعرفة وأطرها العامة، المعرفة كونها نشاط بشري قابل للنمو والتطور والتكامل من خلال التجربة والأمتحان والبسط تحتاج في العادة إلى زمن وإلى دورة حياة لتظهر حقيقتها أو جدواها وتمارس دورها في الحياة الإنسانية عموما، في عصر الكتابة لأول وأختراع الحرف كانت المعرفة هي معجزة الإنسان والمركب الذي حملته إلى المستقبل وإلى بناء الحضارة، حتى أنها أكتسبت القداسة والتعظيم من خلال هذا الدور المهم والحيوي، لذا قيل قديما "من علمني حرفا ملكني عبدا"، هذا التقدير والإجلال للمعرفة لم يكن جوافا ولم يكن مجاملة للمعرفين والمتعلمين والمفكرين الذي قادوا الإنسان لأقتحام مجاهل الوجود بسلاح العقل والعلم والمنطق، بل كان تقديرا لكل ما هو صانع حقيقي للوجود بشقيه الروحي والعملي المجسد.
أما في مراحل لاحقة حيث ثبتت دعائم المعرفة وتوطدت أركان العلم والتعليم وسجلت حضورا كبيرا في مديات متنوعة من واقع الإنسان، سميت عصورا وأزمان بهذه المعرفة، فمثلا مر على الإنسان عصر الكتابة الأول ثم عصر الحضارات الكبرى الرائدة التي أبتدعت الكثير من مظاهر التمدن الحالية، ثم عصر الأديان المنزلة وعصر الفلسفات وصراع العقول، ثم جاء عصر التأليف والترجمة كملمح أساسي من عصر سياسي أجتماعي فكري، وصولا إلى عصر النهضة والثورة الصناعية لنصل في النهاية إلى عصر العولمة وما بعد العولمة والنانوية الشمولية التي حجمت الكثير من مظاهر وأساسيات العصور السابقة، لتفرض على الإنسان نوعا من المظاهر التي ترتبط بها هي لا ترتبط بالإنسان حيث هو عامل مختار ومتحكم بالواقع.
مع ظهور الشبكة العنكبوتية وما تلاها من تطورات التواصل وفتح الحدود الأفتراضية بين المجامع البشري عبر فضاءات أفتراضية حقيقية، لن تعد المعرفة محصورة في نطاقها القديم، لقد صرح أحد كبار رجال المعرفة أن الحرية أخيرات أصابت أسوار المعرفة فتهدمت أركان الجهل العالمي، كان هذا الإعلان متسرعا وغير واقعي بالمرة، فالحرية المعرفية لم تجد طريقها للعقل بل ما تسلل للعقل هو لذة الصورة وإنفعالات الواقع بما يحمله من دغدغة لمشاعر مثارة أو مستثارة بالأصل، صحيح أن هذا الحرية مكنت أهل المعرفة من التغلب على إشكاليات أنحصار المعرفة وعدم إمكانية أنتقالها السريع من المصدر، لكن أيضا سمحت من جانب أخر إلى ما يعرف بالمعرفة السريعة الطازجة والمطبوخة مسبقا والمعدة لتوجيه العقل الإنساني نحو خيارات محددة، إذا كانت مثلا المعرفة الدينية تتميز بكونها معرفة محجمة للعقل بحجم ما تريد، فإن المعرفة العالمية الكونية اليوم تشاركها في الهدف والوسيلة لكن عبر فضاء مفتوح ومتسارع لا يمكن لأحد السيطرة عليه أو تقنينه لمصلحة البشر، وخاصة الشرائح الرخوة والتي في طور التكوين المعرفي الأساسي، وهنا يتجلى الخطر من هذه الحرية الواسعة التي لا يمكن حدها أو لا يمكن ربطها بقوانين وقواعد محددة.
القضية الأساسية هنا ليس في تحجيم الحرية المعرفية، ولا نريد تأطيرها بقوانين تعسفية لأيماننا أن ذلك ضرب من المحال المنطقي أن تمنع العصافير والطيور من أن تسبح في الأعالي بحجة الخوف عليها من التعب، القضية هي في نقد المنظومة المعرفية ذاتها والتي أصبح تخلفها واضحا وبينا عندما عجزت أن تكون الرائدة والقائدة والمستفيد من إطار الحرية الواسعة، هذا التخلف ليس في ذات المنظومة بل في قوانين العمل المفروضة عليها من قبل السلطة المجتمعية المهيمنة على مقدراتها، يبدا العلاج الحقيقي من خلال فك الأرتباط الرسمي بين المنظومة المعرفية ومأسستها السلطوية، وفك الأرتباط بين المعرفة والضرورة لتحريرها من هاجس الحاجة، بمعنى أن تحرير المعرفة ذاتها من قوانين الواقع هو الذي يجعلها قادرة على أن تصل بالمفيد للمستفيد الحقيقي منها وهو الإنسان الأشد حاجة للمعرفة، الإشكالية المعرفية اليوم ليس بالسرعة ولا بالجهل التعليمي في القراءة والكتابة، إنما الإشكالية الحقيقية بسرعة التأثير المطلوب والممنهج الذي يجعل من المتعلم مساويا للجاهل ومنافسا له في البحث عن المثير والسريع والسهل التناول.
الذي لا يؤمن بأن المعرفة هي الركن الأساسي في بناء الهوية الإنسانية الجامعة والكلية، لا يؤمن أيضا بأن الإنسان يمكن أن يتحول إلى كائن أخر عندما يحرم من المعين الأساسي الذي يعيد صياغة وجوده في كل مرة، لذلك تجري عمليات الزق والضخ المعرفي المنتخب والمراد وفق أستراتيجيات التلهي والتغييب لما يعرف بالفضاء المفتوح بلا حدود، لتكوين شخصية إنسانية هلامية بلا ملامح وبلا شيئية أعتبارية لها تنقاد بسهولة نحو أيديولوجية قديمة حديثة أستلابية ومشوشة وضحلة في عطاءها المعرفي، هذا الهدف يجعل من النخب الصناعة لهذه المعرفة المتحكم الأول والأخير في الفضاء المعرفي الكوني، مما يتيح لها أن تفرض قواعدها ومقولاتها الخاصة التي لا تخلو من هدف لا إنساني بل وحتى لا أخلاقي يتمثل بتجريد الإنسان من عقله الراشد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس الوزراء البريطاني الجديد كير ستارمر يلتقي الملك تشارلز


.. خريطة تفاعلية تشرح مراكز الثقل الانتخابي في إيران




.. الدعم السريع يسيطر على منطقة استراتيجية في ولاية سنار جنوب ش


.. عاجل | وزارة الداخلية الإيرانية: فوز مسعود بزشكيان بانتخابات




.. الجيش المكسيكي يوزع طعاماً للمتضررين من إعصار بيريل