الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفاهيم وفلسفات: الذات العربية المختارة

حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)

2023 / 3 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لا تنبت المفاهيم والفلسفات في الفراغ أو نتاجا لتصورات ذهنية بحتة داخل الغرف المغلقة أو بين جدران نظرية لم تخط قدما في لوحة الواقع وتعايش ظروفه، من هنا وفي سياق البحث عن مقاربات معرفية وفلسفات كلية للخروج بالجماعة العربية من مأزق التدافعات الحضارية في القرن الحادي والعشرين وراهنها، طرحت مفهوم "الذات العربية المختارة".

تصور كلي جامع وليس بنية أحادية
هي ذات لأنها كيان كلي وليست مجرد صفة قومية أو عرقية أو بنية أحادية استقطابية، أو يحكم الانتماء لها مجرد عنصر أو مكون واحد، من ثم فهي ذات في إشارة إلى اجتماع مجموعة خصال وسمات تشكل طبيعتها، وهي مختارة لأن الانتماء لها يقوده فعل عقلاني يقوم على الإرادة والاختيار من بين متنوع ومتجاور ومتراكم، من ضمن "مستودع هوية" زخم وعامر بطبقات تاريخية حملت الموجات الأولى من الحضارات البشرية للعالم.

مفهوم جديد لسياق جديد
ولأن للمفهوم سياق وبنية ثقافية منتجة وحاملة؛ فإن مقاربة المفهوم وطرحه تقوم على تجاوز الفرق والمذاهب التي تمترست حول نفسها، وفجرت التناقضات في الثقافة العربية منذ القرن الماضي وأواخره، فهو مفهوم جاء ليتجاوز معظم الاستقطابات التي خلفتها أيديولوجيات القرن العشرين وتياراته الفكرية، وجاء المفهوم ليتماس مع لحظة تاريخية جديدة في القرن الحادي والعشرين تسعى فيها الجماعة العربية للصعود الجماعي والنهضة، لكن الروافع والمنتجات الثقافية الموجودة لم تساعدها في هذا العبور للمستقبل، من ثم يأتي هذا المفهوم بصفته يحمل فلسفة خاصة به تقوم على استشراف الراهن والعبور للمستقبل.
فلقد جاء المفهوم وفلسفته بوصفه رافعة أو جسرا بين استقطابات القرن الماضي وإرثها الذي قام على صراع بين ما يسمى المتون العربية وهوامشها، ليتجاوز تشدد دعاة هذا الجانب والجانب الآخر، باحثا عن "كتلة جامعة" عربية جديدة تعيد تأسيس الثقافة العربية وتتحمل مسئوليتها في لحظة تاريخية شديدة القلق والتدافع إقليميا وعالميا.
المكون العربي وما بعد اللغة والعرق
فلقد كان من ضمن نقاط الجدل الرئيسية بين المتون والهوامش التي ظهرت في القرن العشرين، وضع "المكون العربي" وتعريفه ودوره ومكانته وعلاقته بمستودع الهوية لكافة بلدان المنطقة التي دخلها الإسلام من شبه الجزيرة العربية، وتبنت بدرجات متفاوتة اللغة العربية ارتباطا بالدين الإسلامي بوصفه نمطا سياسيا حضاريا أصبحت له السيادة والمتن في المنطقة، كعادة كل شعوب الدنيا عبر التاريخ في الازدواج اللغوي أو التبني بدرجة ما للنمط السياسي والحضاري والروحي السائد والذي يتمدد، ولو حتى في المعاملات التجارية أو الخارجية.
ونذكر هنا مثلا أن مصر القديمة قد تبنت في فترة ما في مكاتباتها التجارية الخارجية اللغة الآرامية (لغة أهل الشام قديما والقريبة من اللغات العربية القديمة) بالإضافة إلى لغتها الخاصة اليومية المستخدمة، أو أن بعض التوثيقات في مصر القديمة كانت تكتب بازدواج لغوي ليشمل اللغة المصرية ومعها لغة أخرى، وذلك "مثل حجر رشيد الذي عثر عليه في مصر في أوائل القرن التاسع عشر، وعليه كتابات بثلاث لغات [المصرية الهيروغليفية والديموطيقية بالإضافة لليونانية]"(1).
وكذلك علاقة "المكون العربي" والقبائل العربية التي حملت الرسالة الدينية وخرجت من شبه الجزيرة العربية واستقرت في بلدان المنطقة، بأهل تلك البلدان والجدل العرقي والقومي الذي فجره البعض، حيث يعتبر البعض ذلك المكون متنا في بعض البلدان يستحق الثورة ضده والتمرد عليه، ويعتبره البعض الآخر هامشا يستحق التمكين في بعض البلدان!

من العرقي واللغوي إلى الثقافي
لذا فإن طرحي لمفهوم "الذات العربية المختارة" يأتي حلا لإشكالية "المكون العربي" وجوهره وعلاقته بمستودع هوية بلدان المنطقة التي أصبح متعارفا عليها بـ"البلدان العربية"، فالمفهوم بتعريفه يربط حضور المكون العربي بفكرة الاختيار الثقافي الذي تراكم عبر الزمن، رغم ما قد يكون صاحبه من تدافعات خشنة أو ناعمة جرت في مثل هذه الحالات البشرية وأخبرنا عنها التاريخ، عندما يحدث التدافع بين الأنماط التي تتمدد في علاقتها بالأنماط التي تسبقها، وهو نمط حاضر في معظم الظرفيات التاريخية عند معظم الجماعات البشرية.
حيث يُطرح المفهوم في سياق استعادة المتون العربية وانتزاعها من جدل المتون والهوامش، وصراع الطبقات المتراكمة المفتعل داخل "مستودع هوية" بلدان المنطقة المتعايئة بطبيعتها، ليكون مفهوما مساعدا ورديفا لاستعادة المتن العربي الجديد في القرن الحادي والعشرين.
بمعنى أن تعريف مفهوم "الذات العربية المختارة" ينص على النظر للمكون العربي في "مستودع الهوية" وجوهره ببلدان المنطقة؛ بوصفه "اختيارا ثقافيا" طوعيا، وناعما يتجسد في شكل "مستودع للهوية" يتم تبنيه من قبل المنتمين لها والواقعين في محيطها الحيوي على السواء، بما يحمله هذه الاختيار الطوعي للمكون العربي وجوهره من إرث لغوي وأدبي وتاريخي يتجاور مع إرث شعوب هي أقدم حضارات العالم، ويتضافر معه في محبة ووئام.

جوهر المفهوم الخشن والناعم ودليله العقلي
أي أن "الذات العربية المختارة" تشمل كل بلدان المنطقة العربية التي تبنت عبر الزمن إرثا ثقافيا يتم التوحد معه بالاختيار الحر الطوعي الناعم (بعد تجاوز مرحلة التدافع الخشن كعادة كل الجماعات البشرية)، جوهره الخشن أو الملموس هو منجز الحضارة العربية الإسلامية، وجوهره الناعم أو غير الملموس هو الإرث اللغوي والأدبي والتاريخي للغة العربية، وعلامة وجوده ودليله العقلي هو انتفاض المنتمين لهذه الذات العربية ومستودع هويتها، عند تعرض مكونات هذا المستودع الجماعي الذي ينتمون له للخطر أو الاعتداء، يفرحون لفرح بعضهم ويحزنون لحزن بعضهم.

التجاور والشمول وسمات الذات العربية المختارة
وهذا التعريف يجعل الذات العربية بهذا المفهوم ليست مجرد بنية عرقية أو لغوية أو دينية أو تقاليدا حياتية استقطابية وأحادية، فهي ليست عرقية متطرفة طاردة (وإلا ما كان تبناها أصحاب الأصول العرقية التاريخية المغايرة بالمنطقة)، وليست مجرد بنية لغوية أو دينية أحادية طاردة أو استقطابية (فكثيرا ما نجد تجاورا لغويا وفي اللهجة عند المنتمين لتلك الذات العربية، وتجاورا على المستوى المذهبي في الدين الإسلامي، وعلى المستوى الطائفي في الدين المسيحي)، وليست أيضا تقاليدا حياتية مغلقة...
إنما تمازجت وتعايشت تقاليد المنطقة كلها وتداخلت في "مستودع هوية" متجاور ومتعايش احتوى كافة المتون الحضارية المتراكمة للمنطقة، وعبر عنها خير تعبير (حيث تمازجت وتفاعلت وتراسلت التقاليد والعادات بينها وبين التقاليد والعادات المتنوعة بالمنطقة، في تعبير عن طبيعة التقاليد الحية التي تتفاعل وتكتسب وتؤثر وتتأثر).

الذات العربية المختارة والجغرافيا الثقافية
خصوصا وأن بلدان المنطقة العربية قديما شهدت العديد من موجات الهجرة المتبادلة في شبه الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام وشمال أفريقيا وكذلك منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وهي المنطقة التي تعتبرها الدراسات الثقافية العربية المقارنة مجالا حيويا لها بمفهوم "الجغرافيا الثقافية"، وتسعى للعمل فيه وتحقيق الفعالية الثقافية بحثا عن المشترك الثقافي والبناء عليه، واستعادة متن جديد يكون رافعة في القرن الحادي والعشرين، إذ يؤكد مفهوم "الذات العربية" الذي أطرحه على انتقال المكون العربي في "مستودع الهوية" من العرقي إلى الثقافي بالأساس وتجاوره مع ما قبله، وإلى فكرة الاختيار والتبني الطوعي.. ويبقى الأمل.



هوامش:
1- يوسف بكار، في محراب الترجمة، دار الآن ناشرون وموزعون (الأردن)، 2015م، ط1، ص 8








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من هم المتظاهرون في الجامعات الأمريكية دعما للفلسطينيين وما


.. شاهد ما حدث مع عارضة أزياء مشهورة بعد إيقافها من ضابط دورية




.. اجتماع تشاوري في الرياض لبحث جهود وقف الحرب في غزة| #الظهيرة


.. كيف سترد حماس على مقترح الهدنة الذي قدمته إسرائيل؟| #الظهيرة




.. إسرائيل منفتحة على مناقشة هدنة مستدامة في غزة.. هل توافق على