الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جيوسياسة الانقسامات الدينية 1

مرزوق الحلالي
صحفي متقاعد وكاتب

(Marzouk Hallali)

2023 / 3 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تم الارتكاز في إعداد هذه الورقة على كتاب "باتريس جوردين" : "دليل الجغرافيا السياسية" (*)
(*) - Patrice GOURDIN : "Manuel de Géopolitique".
https://www.amazon.fr/Manuel-g%C3%A9opolitique-Patrice-GOURDIN/dp/B07X7YM3F5

من تعريفات الدين، أنه نظام يربط بين المعتقدات والممارسات الشعائرية داخل المجموعة أو المجتمع ، إنه يمس كلاً من أكثر المعتقدات الفردية حميمية ، وتنظيم المجتمعات ، وفي كثير من الأحيان ، السلطة السياسية و يؤثر على الحساسيات. لذلك، فالدين يلعب دورًا حاسمًا في ثقافة كل مجتمع بشري وغالبا ما يتم اعتباره مكون أساسي وجوهري لمعظم الحضارات. في كثير من الحالات، هو الأساس، كليًا أو جزئيًا، للآمال الفردية والجماعية والعلاقات الاجتماعية وشرعية السلطات. لذلك فإن الدين في قلب العديد من الأحداث و المواجهات. ويُظهر التاريخ أن الدين في حد ذاته لا يولد الصراع تلقائيًا، لكن ما هو موضع التساؤل ، قبل كل شيء ، هو تفسيره وتأويله أو استغلاله ، وهذا في الواقع عمل بشري محض. لهذا نعاين جملة من رجال الدين يدعون إلى العنف والقتال باسم الدين الذي يقال أنه "جاء لإسعاد الإنسان في دنياه وآخرته أولا وقبل كل شيء.

خلافا للعالم العربي والإسلامي ، من المفترض أن تكون العلاقة الوثيقة بين الدين والدولة قد اختفت في أوروبا بعد مواجهة طويلة وعلمنة مجتمعاتها بطيئة ، حيث قيل لم يعد للدين أي سلطة - رسميًا على الأقل - في أوروبا ( الغرب عموما) وتظهر الدولة الحياد المطلق في هذا الشأن. لقد سادت العلمانية ، وبرزت مجتمعات تعددية ، متسامحة ومتحررة من وصاية رجال الدين . ومع ذلك، على الرغم من تقليص تأثير الأديان، إلا أن تأثيرها على المجتمع لا يزال مستمرا (منع الحمل والإجهاض، الطلاق، "القتل الرحيم " والمثلية الجنسية ...). وينتج عن هذه المواقف التي اتخذتها السلطات الدينية ورجال الدين في الجدال حول ما يُتفق الآن على ما يسمى "بالقضايا المجتمعية"، وبالتالي الموضوعات السياسية البارزة. من ناحية أخرى ، بين الدولة والمسيحية ، لا تزال هناك علاقات وثيقة إلى حد ما بين الدولة والمسيحية ، تتراوح من الفصل بين الكنيسة والدولة - الذي تم إقراره في فرنسا منذ 1905 - إلى شبه اعتراف اليونان بالمسيحية الأرثوذكسية كدين للدولة ( يصف الدستور " الثالوث المقدس ، المتضمن وغير القابل للتجزئة" في مادته الثالثة ، بأنه "ديانة سائدة").

فلا تزال المسألة الدينية تلقي بثقلها وظلالها في الصراع والتنافس على السلطة في القارة العجوز ، ويمكن ملاحظة هذا الأمر بيسر خلال الانتخابات التشريعية في جملة من البلدان، وأيضا في الحملات الانتخابية (معاداة شديدة للقوانين التي تجيز زواج المثليين ، وتسريع الطلاق ، ومنح حقوق "المتحولين جنسياً" أو السماح بإجراء تحقيقات علمية حول الخلايا الجذعية ، تخفيض التعليم المسيحي إلى مرتبة مادة اختيارية لدخول الجامعة ...) .

العلمانية لا تجسر ولا تنفي الانقسامات بسهولة. وكدليل على ذلك، اندلعت "حرب الحافلات" في بريطانيا العظمى خلال صيف 2008، وأطلق المسيحيون حملة إعلانية على حافلات لندن، مما أثار حفيظة الملحدين. ورد هؤلاء بنفس الأسلوب والوسائل وعاين سكان العاصمة البريطانية – لندن - ملصقات جاء فيها: "ربما الله غير موجود- توقف عن تعذيب نفسك واستمتع بالحياة..." . و لم يمض وقت طويل على الهجوم المضاد ، على شكل لافتات تؤكد وجود الله أو تذكر ببعض العناصر الأساسية للإيمان المسيحي( 1).
---------------------------------------------
(1 ) -انطر:
Les bus athées partent à la conquête de l’Europe »- Le Monde, 15 janvier 2009-
Le slogan “Dieu n’existe pas“ banni des bus allemands »- Le Monde, 3 avril 2009-
-----------------------------------------------

وبقدر ما كان سلميًا، فإن هذا المثال يوضح جيدًا الحساسية المستمرة للآراء الأوروبية تجاه النزاعات الدينية. وهذا ما برز بجلاء أيضا في المواجهة بين اليمين واليسار في فرنسا عبر التقلبات والمنعطفات لما سماه البعض بـ "الحرب المدرسية"، والتي تواجه فيها مؤيدو التمويل الحكومي للمدرسة العامة ومدعمو الإعانات الحكومية للتعليم الخاص - المذهبي.

تسبب ارتباط تركيا بأوروبا – كما سعى إليه مصطفى كمال أتاتورك - جدلاً محتدمًا. بالإضافة إلى اعتماد، هذا الأخير، الأبجدية اللاتينية والحق في التصويت للمرأة (منذ 1933، أي قبل الفرنسيين بأحد عشر عامًا)، وضع تركيا على مسار العلمانية، وفرض فصلًا صارمًا بين الإسلام والدولة. وحتى اليوم ، فإن هذا الأمر يقسم الأتراك بعمق ويؤثر بشكل كبير على الحياة السياسية: يشكو المسلمون المتمرسون من استبعادهم من الحياة العامة ، بينما يرى مؤيدو العلمانية فيها ضمانة أساسية للحريات. ومن المفارقات ، أن الجيش التركي ، الذي تعتبر سمعته ضعيفة إلى حد ما في هذا المجال ، بصفته حارسًا للتراث "الكمالي – الأتاتوركي" ، يجد نفسه في معسكر المدافعين عن الحريات. وبالتالي، فإن موقعه كمفصل جغرافي يضع تركيا أيضًا في موقع سياسي محوري: يرى البعض أنها مختبر لما يمكن نعته بـ "الديمقراطية الإسلامية" - تجاوزا - مقابل ديمقراطية مسيحية. ويتمثل التحدي في الجمع بين القيم الديمقراطية وقيم الدين الإسلامي من أجل مواجهة الإسلام الراديكالي وهذا أمر ما يزال بعيد المنال اعتبارا للطبيعة السلطوية والاستبدادية للدين الإسلامي في جوهره.

على عكس العديد من الأفكار الرائجة وبعض الممارسات التي أسيء كثيرا تأويلها بخصوص الولايات المتحدة الأمريكية (الشعار الوطني ، أداء اليمين الرئاسية على الكتاب المقدس ، الخطب التي تتخللها مراجع دينية ، خطاب الرئيس الأمريكي بمناسبة عيد الشكر ...) ، فالولايات المتحدة تأخذ بنظام فصل صارم للغاية بين الدين والسياسة . من ناحية ، ينص التعديل الأول (1789) لدستور الولايات المتحدة على أنه "لا يجوز للكونغرس أن يصدر أي قانون يؤثر على إنشاء أو حظر الممارسة الحرة لأي دين". ومع ذلك ، فإنه يترك لكل ولاية حرية إدارة مسائل العقيدة ، مما أدى إلى تشابك قوي بين السياسة والدين في العديد من الولايات إلى حدود أربعينيات القرن الماضي.

ومنذ منتصف أربعينيات القرن الماضي ، أصبح المواطنون الأمريكيون قادرين على طلب الحماية الدستورية لمعتقداتهم وممارساتهم الدينية (أو عدم وجودها أي "لادينية") . لكن منذ الثمانينيات ، مع تعيين قضاة في المحكمة العليا لصالح تفسير أضيق للتعديل الأول - "لا يجوز للكونغرس أن يصدر أي قانون يؤثر على إنشاء أو حظر الممارسة الحرة لأي دين" - حيث حكموا لصالح المساعدة العامة المحتملة للمنظمات الدينية، مما قد يشيرإلى وجود علاقات وثيقة بين السياسة الأمريكية والدين (2 ) . وقد يعود هذا التناقض إلى طبيعة تاريخ الولايات المتحدة المطبوع بتناوب بين مراحل التدين القوي ولحظات تأكيد العلمانية. فمنذ تأسيس المستعمرات الأولى ، نلاحظ التعايش بين السكان في مواقف متنوعة للغاية، وربما أدى هذا إلى ولادة ما ينعته البعض بـ "الدين المدني" ( 3) و "ظاهرة الحد الأدنى من التدين التي ربطت الأمريكيين حول مفهوم الأمة المستوحاة من الإله ، ومركزية المثالية الليبرالية في الأداء السياسي للجمهورية والمشروع المعلن لنشرها في جميع أنحاء العالم".
-------------------------------
(2 ) - "فات سيباستيان" - Fath Sébastien - "الكنائس المسيحية والدولة: النموذج الأوروبي ، النموذج الأمريكي" مجلة: " Questions internationales " – عدد 29 سنة 2008 .
( 3) - يشير مفهوم "الدين المدني"، إلى تدين عام وموحد يهدف إلى الجمع بين أكبر عدد ممكن من المواطنين في "مجتمع متخيل". ويعود هذا المصطلح إلى "جان جاك روسو" الفرنسي (1712- 1778م ). في الولايات المتحدة ، يثير "الدين المدني" العديد من القضايا ، لا سيما التعبير عن منطقين متقابلين: إذا كان "الدين المدني" يحتوي على عناصر تدين ، فإنه يتبع أيضًا مبدأ العلمانية.
----------------------------------------

يتم تفسير العلامات "الدينية" المذكورة أعلاه من خلال هذا "الدين المدني": فهي ترمز إلى تراث تاريخي ، ولا تنطوي على أي قيد ولا تؤيد أي قناعة معينة. وهذا ذكّر به الرئيس "باراك أوباما" في خطاب تنصيبه في 20 يناير 2009: حين قال : "نحن بلد مسيحيين ومسلمين ويهود وهندوس - وكذلك غير مؤمنين (من لا دين لهم). لقد شكلتنا جميع اللغات والثقافات ، التي نشأت من جميع أنحاء العالم".

ومع ذلك، هناك يمين ويسار ديني في المشهد السياسي الأمريكي الحالي. الأول دعم بنشاط "رونالد ريغان" و"جورج بوش الابن" ، بينما استفاد "جيمي كارتر" و"باراك أوباما" من دعم الثاني. بالنظر إلى التاريخ الخاص للبلد، فإن الخطاب الديني يشارك بشكل كامل في الخطاب السياسي. لذا فإن دراسة قضايا القوة في الولايات المتحدة، كما هو الحال في أي مكان آخر، تفترض مسبقًا معرفة العلاقة المحددة بين السياسة والدين، الظاهرة منها والمستترة.

تتضمن بعض النزاعات مجتمعات مرتبطة بأديان مختلفة، لأنه يحدث أن وجود واحد (أو أكثر) من المعتقدات الأخرى يعتبر أو يقدم كمصدر للاضطراب و / أو سوء الحظ.

من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر الميلادي ، شن الغرب المسيحي سلسلة من الحروب الصليبية ضد العالم الإسلامي. يبدو بالنسبة لغالبية المشاركين، كانت الحملة الصليبية رحلة حج مقدرة للتكفير عن الذنب، والصعوبات التي تنطوي عليها، مثل الغاية النهائية، جعلت من الممكن الاقتراب من آلام المسيح. وقد وعد البابا "أوربان الثاني" ، في 1095 ، بـ "غفران صليبي" وضمان الخلاص الأبدي . كان البعد العسكري جزءًا من الحرب "المقدسة والعادلة" التي وجب شنها ضد جميع الوثنيين ، والتي لا تعني التحول القسري للسكان المسلمين في الشرق اللاتيني.

اندلعت الحملة الصليبية في القارة الأوروبية ، وانتهت في 1492 بالاستيلاء على غرناطة. و في نفس العام، لاستكمال "تطهير" المملكة، طرد الملوك الكاثوليك اليهود باعتبار الفكرة القائلة إن كل يهودي - حتى المتحوّل إلى المسيحية - يجري دم نجس في عروقه لأنه ساهم في صلب يسوع المسيح - ظلت تحظى بشعبية كبيرة. وكذلك الصورة النمطية التي تقر بتسلل اليهود إلى الحاشية الملكية، وإلى دوائر أفضل العائلات والنبلاء. كما تم تأويل اكتشاف أمريكا والثروات التي وفرتها على أنها مكافأة إلهية لهذه الأعمال.

في بعض الأحيان، تستغل السلطات القائمة التوترات الدينية لتعزيز أو استعادة شرعيتها، مثل الحكومة الجزائرية التي أصدرت في عام 2006 قانونًا ضد التبشير. يبدو أن الأمر تعلق ، قبل كل شيء ، بالتوضيح للسكان أن السلطات ، على عكس ما يؤكده الإسلاميون ، تدافع عن الدين الإسلامي . كما يمكن للخلفية القومية التي تدل على رفض ديانة المستعمر السابق أن تلعب دورها.
------------------------------------------------ يتبع -------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مفهوم ألدين المدني علمانيا
د. لبيب سلطان ( 2023 / 3 / 19 - 23:56 )
الاستاذ مرزوق
يبدو لي ان الخط الفاصل بين التحضر والتخلف في العالم اليوم ( خط الجيوبوليتيك) هو واقعا خط العلمانية وحتى تاريخيا فما قبلها كان سطوة الفكر
الديني والنظام الامبراطورية ومابعدها هي النظم الديمقراطية ونقطة الولادة كانت الثورة الفرنسية ..واذ يركز الباحث على علاقة الدين والعلمانية او صراعهما داخل المجتمعات العلمانية التي تسود اغلب بقاع العالم اليوم فهو صراع جزئي داخلي مثل الظواهر الاجتماعية الاخرى مثل بروز الفكر القومي اليميني الذي يختفي وراء الديني لان الانسانية تجاوزته بمراحل عدا منطقتنا العربية بالطبع ..وعموما حيث حلت العلمانية وجدت الحضارة والتقدم وحيثما بقي الدين مؤثرا وفاعلا وجدت التخلف وهو خط ججيوبوليتك حقيقي ويمكن رسمه واقعا..اود ان اضيف العلمانية لاتصارع المقولة الدينية لكونها دينية بل ضد فرضها على المجتمع ومنه فهي ضد انظمة الحكم العقائدية الايديولوجية الديكتاتورية ، اي ضد اي مقولة تفرض على الدولة والمحتمع والانسان..فدعوتها لتحرير العقل والانسان هي لتحريره من سيطرة اي مقولة عقائدية تفرض عليه دينية او وضعية
شكرا لكم لترجمة وتقديم هذه المقالة

اخر الافلام

.. خدمة جناز السيد المسيح من القدس الى لبنان


.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_




.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال


.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس




.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال