الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في أصل «الشَّوَايا» اصطلاحًا ولغة

خلف علي الخلف

2023 / 3 / 23
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


إن تتبع أصل نعت «شَوايا» الذي ما زال يطلق على العشائر الزراعية في «الجزيرة» و «حوض الفرات» وحدهم على الخصوص دون جوارهم، عبر المعاجم العربية والسريانية، يثبت أن ذكره الأول، مكتوبًا في المراجع العربية يعود إلى بدايات القرن التاسع الميلادي حيث لم تكن الجماعة التي يطلق عليها الآن نعت «الشَّوَايا» حاليًّا قد ظهرت على مسرح الأحداث بهذه التسمية.

فمن الثابت الذي لا يحتاج مصادر، أن هذا النعت أُطلِق وما يزال على العشائر الزراعية في «الجزيرة» و «حوض الفرات» دون أي جماعة أخرى، مرتبطًا بهم كجماعة ودالًّا أيضًا على مهنتهم وهي "الفلاحة". إذ أنه يطلق على العشائر الزراعية المستقرة وتمتهن الفلاحة دون غيرها من القبائل. ومن هنا حاول المفسرون إضفاء معنًى عليه، بأنه يُطلَق على قبائلَ كانت بدوية واستقرت، أو أنصاف بدوٍ أو البدو الغنَّامة، وهذه تأويلات يطلقها الباحثون في أصول هذه العشائر كمحاولة تفسيرية تعتمد على المراجع المتناثرة وغير الدقيقة، التي دُوِّنت دون معرفة المنطقة والسكان في الغالب. فمن الثابت تاريخيًّا أن هذا النعت أُطلِق على عشائر محددة، من الجماعات السكانية المجاورة لهم، ثم شاع استخدامه ليعم تقريبًا كل العشائر الزراعية. كما أنه من الثابت تاريخيًّا أن الجماعات التي يطلق عليها هذا النعت لم يستخدموه نعتًا أو تعريفًا لأنفسهم عبر التاريخ، بل لم يكونوا على علم به، وربما تفاجئوا بها، ربما كما تفاجأ الحرانيون عندما اكتشفوا أن اسمهم ’الصابئة‘ وسكتوا عن ذلك. وحتى وقتٍ قريب نقدره بثمانينيات القرن الماضي، كانت التسمية سريَّة أي أنها تستخدم من الجماعات البشرية المجاورة لنعتهم في غيابهم، بينما في حضورهم، أي حضور أي شخص من هذه العشائر، تستخدم تلك الجماعات نعت "عُربي" و’العرب‘ للجمع، الذي كانت العشائر الزراعية تقبله، لأن لفظ «شَاوي» كان يستخدم تحقيرًا وازدراءً، دلالة على أن المنعوت به يتصف بوضاعة الأصل والمهنة والتخلف والابتعاد عن المدنية. وفي لهجة بدو «الجزيرة» و «حوض الفرات» الذين لا يشكك باحث في انتسابهم إلى قبائل عربية عدنانية معروفة، وعاشوا كل حياتهم في جوارٍ مع هذه العشائر، ما زالوا يستخدمون نعت شُويَانْ كجمعٍ تقليلي تصغيري مثقل بتحقير إضافي، لنعت العشائر الزراعية، ولتمييز أصول قبائلهم العربية عنها. وهناك قصائد كثيرة بلهجة بدو «الجزيرة» و «حوض الفرات» تذم «الشَّوَايا»:

«ياراچبين الخيل قولو لجرناس من عشرة الشويان ما من صمايل. وجرناس اسم، وصمایل فائدة». وقال شاعر بدوي آخر: «لا صار ما ترفع الدبوس، ماينفع الطيب بالشاوي | اضرب الشاوي على الفاعوس، يركض مع الكاع متساوي». ما يعيد ارتباط النعت بجذره السرياني الذي يفيد الاعتدال والانبساط والوطاوة ويذكر كذلك بكلام الشافعي عن النبطي. كما أن بعض قبائل بدو الجزيرة العربية، الذين كان لهم امتداد في الجزيرة الفراتية دائمًا، ما زالوا يطلقون على الجماعات المستقرة وتمتهن الزراعة «شَاوي»، كما تستخدم لنعت "الراعي" أحيانًا، وقد يجمعونها "شَوَاوي" أو "شِوْيان"، لكنها في كل الأحوال تُضمِر نفس الحمولة التحقيرية، وإن كان هذا الاستخدام أقل شيوعًا منه في الجزيرة الفراتية للدلالة على جماعة محددة. نذكر هذا بالرغم من أن ذلك خارج منطقة البحث.

ما زال من الشائع لدى سكان سوريا الداخلية استخدام نعت «شَاوي» لوصف أفراد العشائر الزراعية الفراتية، لكن سكان سوريا الذين تسلل إليهم النعت بمعناه الاحتقاري الصلف والواضح من سكان الجزيرة السورية المجاورين للعشائر الزراعية، لم يكونوا مدركين لخصائص الجماعة التي أطلق عليها واكتفوا بمعناه التحقيري الشتائمي فقط، فصاروا يستخدمونه للشتيمة، وللحط من شأن جماعات أخرى مسالمة وبسيطة لوصمها بالتخلف والرثاثة، مثل ’النَّوَر‘ و’القرباط‘. وهو ما يعكس المخزون الاحتقاري الشديد، إذ أن كافة الجماعات السورية تنظر إلى هاتين الجماعتين على أنهم خارج السُّلم الاجتماعي. و’النَّور‘ جماعة من الرحل ينسبون أنفسهم إلى ’بني مرة‘ قوم ’جساس‘، ينزلون في أطراف الحواضر، ويكسبون عيشهم من حفلات الغناء، وتقديم خدمات البهجة، والتبصير، ويتحدثون لغة خاصة [إضافة إلى العربية] ويُنسبون في المرويات الشفهية إلى بقايا الغجر. أما ’القرباط‘ الذين يتحدثون [إضافة إلى العربية] لغة أخرى وينسبهم بعض الباحثين إلى جبال «كرابات» الأوروبية، فهم جماعة من الرُّحَّل تكسب عيشها من خلال تقديم خدمات مهنية، مثل: إصلاح الأسنان وتبييض القدور وصناعة الغرابيل. ولأن الجماعات البشرية المجاورة للعشائر الزراعية تعرف اختلاف هاتين الجماعتين عن «الشَّوَايا»، فقد كانت تطلق عليهم، ’القرباط‘، ’النور‘، ’القرچ‘، وتاليًا ’الغجر‘ مع تمييز بين ’القرباط‘ و’النور‘، ولم تكن تنعتهم بـ عن «الشَّوَايا» مطلقًا.

بذلت محاولات كثيرة لتلطيف الحمولة الاحتقارية لهذا النعت بنسبته مرة إلى "تربية الشاة"، ومرة إلى "الشواء" دلالة على كرمهم، ولم تخرج كل المحاولات التطبيعية عن نسبة التسمية لهذين الجذرين، لكن لم تبذل أي محاولة بحثية جديَّة لمعرفة أصل التسمية. مع مطلع القرن الجديد وبدء انتشار شبكات التواصل، شاعت التسمية وأنشئت صفحات وحسابات ومجموعات على شبكات التواصل للسخرية من هذه الجماعة البشرية واستخدمت صورهم وأزياؤهم التقليدية وعاداتهم ولهجتهم التي لا تتقاطع مع أيٍّ من اللهجات السورية، كدلالةٍ على التخلف. و كخيارٍ بدا وحيدًا أمام هذه الحملة التضليلية الاحتقارية، بدأ أعضاء من هذه الجماعة من الكتاب [من ضمنهم كاتبا هذا البحث] بالتطبيع مع المصطلح واستخدامه لنعت أنفسهم، في محاولة لنزع حمولته الاحتقارية وإرساء استخدامه المنزوع التحقير والازدراء، وبدأ الاحتجاج على استخداماته الاحتقارية، ولم يرد النعت قبل هذا التاريخ في أي كتابٍ معتبر سوى بين مزدوجتين «شَاوي» أو «شَوَايا» كتعريفٍ إضافي متحفظ عليه لنعت العشائر الزراعية في «الجزيرة» و «حوض الفرات»، لأنهم ما كانوا يقبلونه، وهذا ما يؤكده كل من ’وصفي زكريا‘ و’فون أوبنهايم ‘.

لكن الدراسات الرصينة التي تبحث في أصل المفردة، النعت الدال على جماعة بشرية، بقيت معدومة. كتبت مقالات عديدة من كتاب متفرقين عرضوا آراءهم حول أصل التسمية، وتم ترويج نظريات مختلفة لكنها في المجمل تحاول تلطيف الحمولة السلبية للنعت بإعادة جذرها إلى تربية "الشياه" و"الشواء" و"الكرم"، وأغلب هذه المقالات كتبت في القرن الحادي والعشرين الميلادي، والأعم بعد شيوع الإنترنت والنشر الإلكتروني. وتطرح هذه المقالات بالإضافة إلى رغبة تلطيف النعت، بعض التفسيرات التي لم نجد لها سندًا بحثيًّا ولا تأويلًا مقنعًا، كالقول إن الفرنسيين خلال استعمار سوريا أطلقوا هذا النعت على العشائر الزراعية في «الجزيرة» و «حوض الفرات»، بعد صداماتهم العنيفة معهم، ذكَّرهم هذا بمعاركهم الدامية مع "الشاويَّة" في الجزائر الذين يشتركون مع هذه العشائر في خاصيَّة الإكثار الكبير من أعداد الشاة التي يملكونها، فرسَّخوا تسمية «الشَّوَايا» لوصف هذه العشائر.
وهذا القول يفتقد السند التاريخي كما أنه يخالف كل التدوينات العربية التي تؤكد بما لا يقبل الشك أن نعت «الشَّوَايا» موجود لوصف جماعة بشرية في القواميس العربية منذ القرن التاسع الميلادي، أي قبل الاستعمار الفرنسي بألف عام على الأقل. كما أن هذه العشائر وعلى الرغم من تربية الشاة من بعض هذه العشائر، والمتاجرة بها، فإنها لم تكن مهنتها يومًا، فقد كانت هذه الجماعات على الدوام تمتهن الفلاحة، ولا تشكل تربية الماشية نشاطًا رئيسيًّا في حياتها، بل إن العشائر التي امتهن بعض أفرادها تربية الماشية كانوا على علاقة وطيدة مع القبائل العربية التي تمتهن نشاط تربية الماشية وانتقل إليهم هذا النشاط بحكم الجوار، وبعضهم امتهنها حديثًا للمتاجرة وبالشراكة مع تجار حلب ويعود ذلك إلى النصف الثاني من القرن العشرين، وقد كان النعت شائعًا وفقًا للتدوينات العربية عنهم.

يؤكد ’فون أوبنهايهم‘ أن الجماعات التي يطلق عليها زبيد «كانوا دائمًا مستقرين، وبقوا كذلك في قسمهم الأكبر» (سابق: 279). وحين يتحدث عن ’الجبور‘ التي هي إحدى العشائر الكبرى التي تنسب نفسها إلى ’زبيد‘ فإنه يؤكد نصًّا: «يقطن جبور دجلة على ضفتي النهر من مصب الزاب الكبير حتى مصب الزاب الصغير. وهم مستقرون وعازفون عن الحرب». وحتى بعد شيوع انتسابهم إلى ’زبيد‘، فما زالت العشائر الزراعية في «الجزيرة» و «حوض الفرات» تطلق على جيرانها العرب ’البدو’ تمييزًا لعشائرهم عن القبائل العربية المجاورة لهم، رغم انتسابهم إلى العرب، بل لا نكشف سرًّا إذا قلنا إن هذه العشائر الزراعية تشعر بتمايزها الحضاري عن البدو، ولا يستوي هذا دلاليًّا، في مسألة رفعة الأصل، إن كانت أصولهم تعود إلى البدو كما يتأول الباحثون وفقًا لآراء شخصية ينقصها السند التاريخي، فإذا كان الأصل واحدًا فلن يكون هناك معنى في التشاوف في النسب.
وهذا ما سنجد تأكيده لدى الليدي ’آن بلنت‘ التي زارت المنطقة في عام 1878م ودونت رحلتها، إذ أنها مرت بديار ’العفادلة‘ في طريقها من «حلب» إلى «دير الزور»، وذكرت أن فلاحي الفرات يحرثون الأرض بانتظام «ويصعب علينا اعتبار العفادلة من البدو لأنهم لا يغادرون ديارهم ويسكنون في مساكن ثابتة بين الأدغال، مجاورين النهر في غالب الأحيان»، وقد أكدت من خلال مشاهدتها العيانية في ذلك الحين أن العفادلة «لايملكون الغنم بل يربون البقر العادي وقطعان الجاموس ويعيشون على منتجاتها»، كما أنها أكدت افتراقهم عن حياة البدو، فهم لا يملكون خيامًا بدوية، بل إنها لم ترَ مثل بيوتهم في كل المنطقة، إذ أنهم يبنون الأكواخ من أغصان الطرفاء التي تنسج متشابكة وهي طرية وغضة، وتغطى الأكواخ بقطع من الخيام وقد «سُيِّج كل تجمع سكني بنوع من الجريد والوثل، وقد كانت بين هذه الأكواخ دروب تجعلها متاهة يصعب الدخول إليها أو الخروج منها، وتشكل هذه الأكواخ قرية غير منتظمة متصلة بشوارع وأمام كل منها حوالي نصف فدان من الأرض التي أزيلت عنها الأشجار» (1991: 90-91). وهو ما يطابق عمارة القباب الحرانية المعروفة بقباب خلايا النحل.

ويذكر ’وصفي زكريا‘ عند ذكره عشائر "قضاء الرقة": «ينزل في هذا القضاء الواسع عشائر عديدة بعضها متحضر كثيرًا أو قليلا». وحين يتحدث عن ’البوشعبان‘ يقول نصًّا: «ومهما يكن فإن الأبي شعبان جمع من العشائر والفرق المتحضرة الريفية المستقرة في وادي الفرات»، ويضيف: «وهم يلقبون بشوايا الفرات والبليخ، بينما هم لا يرضون بهذا اللقب». وحين يذكر ’العفادلة‘، التي يذكر ’المجادمة‘ ضمن عشائرها، يكتب عنها: «عشيرة كبيرة من الأبي شعبان، منصرفة إلى الزراعة، منازلها في الجزيرة على البليخ من الرقة في الجنوب إلى تل خنيز في الشمال»، أما حينما يذكر ’الولدة‘ التي هي جزء من ’البوشعبان‘، نجده يؤكد: «وبينما يطلق لقب شوايا على الأعراب المتحضرين الساكنين في القرى والضياع في قضاء منبج وغيره مما هو في سقي الفرات، نجد الولدة لا ترضى أن يطلق عليها هذا اللقب، الذي يشتم منه الضعة والمسكنة»، ويضيف أن «شيوخهم يدَّعون أنهم من البوشعبان التي تنتسب إلى زبيد» (1983: 526، 586، 588).

إذن، لقد أثبت باحثون ورحالة تركوا أثرًا مدونًا عن العشائر الزراعية في مناطق استقرارها الجديدة، بأن هذه العشائر ليست بدوية متحولة إلى الزراعية، كما يفسر بعض من يكتبون عن المنطقة وأهلها دون دراية بتاريخ هذه العشائر أو معرفة أنماط عيشها، بل هي عشائر تمتهن الفلاحة ولا تربي الأغنام كمهنة أساسية، وعلاقة قلة قليلة من أبناء هذه العشائر بتربية الاغنام مستحدثة، وتطلق هذه العشائر على الجماعة التي تربي الأغنام منهم "الكوچر" وهی کلمة تركية تعني "الرُّحَّل"، ويبدو أنه أطلق تمييزًا عن القبائل العربية المجاورة لهم الذين يطلق عليهم "البدو". كما أن إحالة نعت «الشَّوَايا» إلى "الشواء" كون هذه العشائر مشهورة بالكرم وشواء اللحم هو تفسير تلفيقي فهذه العشائر لا تشوي اللحم مطلقًا، بل تطبخه وتقدمه مع المرق والخبز كمناسف ثريد، حيث تفخر هذه العشائر بمقاس "الصينية" وحجمها وعدد الرجال الذين يحملونها وعدد الذبائح التي تتسع لها.

النقطة الثانية التي يثيرها كُتاب الآراء الذين يعتقدون أن التسمية محايدة وتتعلق بتربية الشاة، أن التسمية كانت متداولة في السجلات العثمانية لوصف جماعة بشرية. لكن بالعودة إلى السجلات العثمانية نجد أنها تشير إلى ’بني شاوي‘ في العراق وأطراف الجزيرة السفلى، إلا أن دلالته لا تنطبق على أيٍّ من العشائر قيد البحث، وقد أشارت هذه السجلات بوضوح إلى هذا الاسم في سياق فرمان السلطان العثماني ’عبد الحميد الأول‘ عام 1850 القاضي بتوطين العشائر القاطنة على الطريق الذي يصل «بغداد» بـ«الآستانة»، وعند العودة إلى تفصيلات الجماعات المنسوبة لـ’آل شاوي’ في السجلات العثمانية نجد أنها تعود نسبًا إلى ’شاوي نصيف الشاهر‘، الذي كان أحد شيوخ العبيد، وكان له دور في إخضاع المنطقة للسلطات العثمانية التي منحته لقب "بيگ"، وخلفه ابنه ’عبد الله الشاوي‘، الذي تعاظم نفوذه في المنطقة إلا أن والي بغداد ’عمر باشا‘ أعدمه في جنوب العراق عام 1769م. علمًا أن ’فون أوبنهايم‘ يجعل كنية ’الشاوي‘ ‘زاده‘ وهي كنية غير عربية كما هو واضح. على الرغم من أن العرب قديمًا كانت تطلق على أبنائها أسماءً غير مستحبة لتجنيبها الموت، خصوصًا عند العائلات التي يتوفى مواليدها صغارًا، وما زال في المنطقة أسماء، مثل: "حيوان"، و"جحش"، "جحيش"، بل هناك عشيرة معروفة، اسمها عشيرة ’الجحيش‘ وتنتسب إلى ’زبيد‘.

وفقًا لهذا السياق يمكن أن نضيف الفروقات بين نظام القبائل العربية البدوية، حيث تقوم الرئاسة في القبيلة على أساس القوة كقيمة مركزية لمنظومتها القيمية مقابل قيمة العمل لدى العشائر الزراعية. ولا تنتقل السلطة خارج إطار التسلسل الوراثي إلا بالهزيمة العسكرية، بينما يتيح نظام المشيخة في النظام الزراعي الحراني انتقال المشيخة بين العائلات والأفراد دون حروب وقتال وببساطة، حيث الأصلح من أبناء العائلة يحتل موقع الشيخ، وقد يبرز شخص آخر يسهر على خدمة أقاربه وجماعته من خارج العائلة التي تحوز اللقب فتؤول إليه مشيخة الجماعة. إذن فموقع الشيخ في التقاليد الزراعية الحرانية هو موقع يقوم على خدمة الجماعة، ذلك أن العشائر الحرانية كانت مسالمة ولم تتبنَ عقيدة الغزو والحرب والتوسع.

في الفقرة التالية سنتتبع نعت «شوايا» في القواميس العربية بالتسلسل التاريخي لورود النعت فيها وتطورات المعنى، وسنجد أنه مستخدمًا بالعربية منذ القرن التاسع الميلادي وهو ما ينفي كل التفسيرات السابقة التي تعيده إلى عصور حديثة، كما أن معانيه الدالة على جماعة تحقيرًا ما زالت مستخدمة بمعناها المعجمي الصحيح.

القواميس العربية وتفسير أصول «الشَّوَايا»

إذا كان الجذر العربي لنعت «شوايا» يقود إلى تربية الشاة والشواء والكرم كما هو شائع في التفسيرات ذات المسند المعجمي، فمن أين جاءت هذه الحمولة الاحتقارية للمفردة؟ فدلالة الشواء التي تقود إلى الكرم تحمل قيمًا إيجابية، وإذا كانت تربية الشاة تجلب كل هذا الاحتقار فلماذا لم تنعت بها الجماعات الأخرى التي اشتهرت بتربية الشياه إلى جانب الإبل كالقبائل العربية البدوية! إذن علينا العودة إلى معاجم العربية مرة أخرى، وسنتجاهل المعاني التي يقود إليها جذر المفردة شَوا، شَوى الشائعة والمعروفة، وكذلك الربط القادم عرضًا دون تفسير مع الشاة عند ’ابن منظور’: «والشَّاوي صاحبُ الشاءِ»، الذي يبدو أنه نقله عن إشارة جاءت في جمهرة اللغة الذي وضعه ’أبو بكر بن دريد‘ (ت. 933م)، وهذه الإشارة منقطعة وغير متواترة في القواميس أولًا، وثانيًا تعتبر بالنسبة إلى القواميس العربية [ورودٌ متأخر]، أما الأهم فهذا الربط لا يطلق على جماعة محددة بل على مهنة كما أنه لا يقدم تفسيرًا للحمولة الازدرائية للمفردة. إذ أن التراث الإسلامي العربي يفخر بشكلٍ مستمر بكون النبي ’محمد‘ كان راعيًا للأغنام، وبالتالي لا يستوي ربط المعنى السلبي التحقيري للمفردة بتربية ورعي الشاة.

في معجم الجيم، لـ’أبي عمرو إسحاق بن مِرار الشيباني‘ (728 -821م) والذي يعرف باسم آخر هو كتاب الحروف في اللغة أو كتاب الحروف، والذي يعتبر أقدم تصنيفات المعاجم العربية، يرد في مادة (شوا): «قال البحراني: إذا اصفر السعف لليبوس فهو الشاوي. قد أشوى السَّعف، وهذه سعفة شاويةٌ. وقال: الشَّوى: رذالة الإبل». وقد يبدو مفيدًا أن نذكر أن ‘الشيباني‘ من أصل أعجمي وأمه نبطية كما تذكر تراجم السير، جاور قبيلة ‘شيبان‘ وانتسب إليهم.

معجم كتاب الألفاظ لـ’ابن السكيت يعقوب بن إسحاق’ (802-858م) الذي يلي معجم الجيم تاريخًا لا نجد في باب الشواء ما استخدمه ’الشيباني‘ واقتصر الأمر على "الشواء" ومعانيه ومشتقاته، ولا يرد فيه معنى رذالة الإبل ، أو ميل السعف لليبوس . في المنجد الذي وضعه ‘علي بن الحسن الهنائي‘ المشهور بـ’كراع النمل ‘، المتوفى حوالي (920م)، يرد في مادة شوى ، «أشْوَى الرجُلُ: اقتنى رُذالَ المال. الشَّوَى: رُذال المال. الشُّوَاية والشَّوَاية والشِّوَاية والشَّوِيَّة من المال ج شَوَايَا: رديئهُ. أشْوى الرجُلُ: أبقى من عشائه بقيَّةً. الشُّوَاية والشَّوَاية والشِّوَاية والشَّوِيَّة ج شَوَايَا: بقيَّة قوم أو مالٍ هلك. الشَّوايا، واحدتها شَاوِيَة سهل منبسطة في سفح جبل (عاميَّة)».

في لسان العرب، لـ’ابن مَنْظُور، محمد بن مكرم بن علي، أبو الفضل، ابن منظور الأنصاري الإفريقي‘ (1232-1311م)، والذي كتب عنه ’خير الدين الزركلي‘ (1893-1976م) في الأعلام (ص: 108) بأن ’ابن منظور‘ جمع فيه «فئه أمهات كتب اللغة، فكاد يغني عنها جميعا». فقد أورد في مادة (شوا): «والشَّوى: الهَيِّنُ من الأَمر. قال يحيى بن سعيد: الشَّوى هو الشيءُ اليَسيرُ الهَيِّن. والشُّوايَةُ والشِّوايَة: البَقِية من المالِ أَو القوم الهَلْكى. والشَّوِيَّةُ: بقيَّةُ قومٍ هَلَكوا، والجمع شَوايا؛ وقال: فهمْ شَرُّ الشَّوايا من ثُمودٍ».

أما ’الفيروز آبادي، أبو طاهر مجيد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي‘ المتوفى (1415م) الذي جاء بعد ابن منظور، في معجمه القاموس المحيط الذي يعتبر مع لسان العرب من أشهر معاجم اللغة فقد أورد في مادة (شَوَى): «شُـوايَةُ وشَوايَةُ وشِوايَةُ: بَقيَّةُ قَوْمٍ أو مالٍ هَلَكَ، كالشَّوِيَّةِ، ج: شَوايا. شُـوايَةُ وشَوايَةُ وشِوايَةُ من الإِبِلِ والغَنَمِ: رَدِيُّها. أشْوَى: أبْقَى من عَشَائِهِ بَقِيَّةً، واقْتَنَى رُذالَ المالِ. أشْوَى السَّعَفُ: اصْفَرَّ لليُبوسِ. سَعَفَةٌ شاوِيَّةٌ: يابِسَةٌ».

آخر القواميس العربية الجامعة تاج العروس أو تاج العروس من جواهر القاموس الذي جمعه ’مرتضى الزبيدي‘ (1732-1790)، اللغوي والمصنف والكاتب والشاعر والمؤرخ، علامة الحديث واللغة العربية والأنساب فقد أورد في مادة (شوي): «ومن المجازِ: الشَّوَى، كالنَّوَى: الأَمْرُ الهَيِّنُ الحقيرُ. ومِن المجازِ: أَعطاهُ مِن الشَّوَى، وهو رُذالُ المالِ، الإِبِل والغَنَم وصِغارها. والشُّوايَةُ، مُثَلَّثَةً: بَقِيَّةُ قَوْمٍ أَو مالٍ هَلَكَ. وفي التَّهْذيب: الشُّوايَةُ البَقِيَّةُ مِن المالِ، أَو القَوْم الهَلْكَى. وهذه عن الجوهريِّ، الجمع: شَوَايَا، وهم بَقايا قَوْمٍ هَلَكوا، وأَنْشَدَ: فهمْ شَرُّ الشَّوايا من ثمُودٍ وعَوْفٌ شَرُّ مُنْتَعِلٍ وحافي». وهذا ترديد لإشارة متواترة عن انتساب «الشَّوَايا» لأمم بائدة.

«والشُّوايَةُ من الإِبِلِ والغَنَم: رَدِيئُها ورذالُها. ويقالُ: تَعَشَّى فلانٌ وأَشْوَى: أَي أَبْقَى من عَشائِه بَقِيَّةً، نقلَهُ الجوهريُّ. وفي الأساسِ: فأَبْقى شَوًى منه، وهو مجازٌ. وأَشْوَى: اقْتَنَى رُذالَ المالِ. وأَشْوَى السَّعَفُ: إذا اصْفَرَّ لليُبوسِ كأَنَّه أَصابَهُ شي‌ءٌ. وسَعَفَةٌ شاوِيَّةٌ، بتَشْديدِ الياءِ: أَي يابسَةٌ؛ فاعِلَةٌ بمعْنَى مَفْعولةٍ».

نتوقف هنا عند التسلسل التاريخي للقواميس وبدء توسع معاني المفردة لتصل معانيها المتداولة الحالية عند نعت العشائر الزراعية الجزراوية الفراتية بهذه الصفة.

وإذا ذهبنا إلى تاريخ ’ابن خلدون‘ (1332-1406م) نجده كتب في "المقدمة الثانية في كيفية وضع الأنساب في كتابنا لأهل الدول وغيرهم"، أن الشاوية: «لا يختصون بنسب واحد بعينه إلا بالعَرض ولذلك كان النسب في بعضهم مجهولًا عند الأكثر وفي بعضهم خفيًّا على الجمهور» (2001، 18)، ويضيف ’ابن خلدون‘ عنهم أنه: «ربما تكون هذه السمات والشعائر في أهل نسب آخر فيدعون باسم العرب إلا أنهم في الغالب يكونون أقرب إلى الأولين من غيرهم وهذا الانتقال لا يكون إلا في أزمنة متطاولة وأحقاب متداولة ولذلك يعرض في الأنساب ما يعرض من الجهل والخفاء» (2001، 18). وعلى الرغم من أن ابن خلدون يتحدث عن "الشاوية" في شمال إفريقيا إلا أن السياق نفسه سنجده ينطبق على الجماعة الزراعية التي يطلق عليها «الشَّوَايا» في «الجزيرة» و «حوض الفرات»، أي أننا نأخذ من ’ابن خلدون‘ مفهوم الانتساب وليس تحديده.

إذن، فالمعنى الذي تقدمه القواميس والمعاجم العربية التأسيسية بتسلسله التاريخي يعكس مسألتين: الأولى، أن المعنى التحقيري للمفردة والذي ما زال متداولًا حتى اليوم في نعت العشائر الزراعية في «الجزيرة» و «حوض الفرات»، دون سواها من الجماعات البشرية التي تتشارك معها أنماط العيش والمكان، هو معنى قديم يعود إلى بداية القرن التاسع للميلاد. الثانية، أن هناك تواترًا في القواميس بشكل صريح على أن «الشَّوَايا بقية قوم هلكوا». ولم ينفِ ذلك أيٌّ من المصنفين العرب المتعاقبين بل كان ذلك متداولًا في كل القواميس. من هنا نحن نريد أن نجادل بأن المفردة بحمولتها التحقيرية دخلت إلى العربية من السريانية بهذا المعنى ثم اندمجت مع تحقير إضافي في الثقافة العربية ناتج عن احتقار المهن، إضافة إلى الصراع الأزلي بين الفلاح والراعي منذ فجر التدوين السومري.

نعت «الشَّوَايا» واللغة السريانية

هناك إشارة إلى احتمال سريانية النعت، ذكرها الأب ’شربل جورج صاموئيل‘ (2004) في معرض نفيه لعروبة سريان الجزيرة حيث ذكر أن الجدل ما زال قائمًا حول معنى كلمة «الشَّوَايا»، «فمنهم من ينسبها إلى أصل آرامي، انطلاقًا من الفعل شْوا الذي يفيد الاعتدال والانبساط». لكن نفس الجذر القاموسي هذا تشتق منه اللغة السريانية معنى «الضعة وقلة الأهمية». فإذا عدنا إلى المعجم السرياني-العربي، الذي وضعه القسيس ’إيغوين مانَّا‘ Eugene Manna الذي عاش بين عامي 1867م و1928م، نجد أن مفردة «شَاوي» في هذا المعجم إضافة إلى الاعتدال والانبساط تفيد معنى "الرخص" أيضًا، «رخيص، كان رخيصًا». وهذا ما يرجح بوضوح الجذر السرياني للمفردة فـ المنجد ينص حرفيًّا: "واحدتها "شَاوِيَة": سهل منبسطة في سفح جبل (عاميَّة)". ونلاحظ أنه مكتوب بجانبها "عامية" وهذا تأكيد إضافي أن العامة استخدموها وهي قادمة من مصدر خارجي، ومن الواضح أنه من جوارهم السرياني. هناك إذن على الأقل اتصال بين جذر المفردة السرياني والعربي تورده القواميس. وبحسب التطور التدريجي للحمولة السلبية للمفردة باللغة العربية، ضمن سياق تصريف الفعل "شوى" بدت الدلالة السلبية التهوينية في المعنى العام للنعت تتحول إلى دلالة احتقارية عندما يطلق على جماعة هي "شوية" من «القوم الهلكى»، وهذا لا يتماشى مع المعاني الأخرى التي تحيل إلى "الشوي" و"الشياه" والتي تحيل بدورها إلى معنًى إيجابيٍّ يفيد الكرم. كما أن لفظ "شْويّة" بتسكين أوله هو مما لا تعهده العربية بوضعها المستقر الفصيح، لذلك نحن نفترض أنها دخلت إلى العربية بعد تحريك شينها بالفتح فأصبحت "شَويّة" وجمعها «شَوايا»، وألحقت بتصريفات الفعل "شَوى" | "شَوا" للتشابه الشكلي أولًا ولارتباط المعنى بأحد المعاني التي تقدمها القواميس العربية "السهل المنبسط"، فأضيف المعنى الذي يفيد "الضِّعة" و"الرخص" من السريانية، لكنه أضيف مصحوبًا بالدلالة على جماعة هم بقية قوم أقدمين. وإذا أخذنا الصراع اللاهوتي السرياني- الحرّاني بعين الاعتبار، فإننا نجد أن الحمولة السلبية للمفردة تطورت في المدونات العربية بعد الاطلاع على المدونات والروايات اللاهوتية المسيحية السريانية حول جيرانهم الحرانيين.

إذن، فنعت «شَاوي» الذي ولد مصحوبًا بحمولة سلبية في القواميس العربية في القرن الثامن الميلادي، واستخدم للدلالة على جماعات بشرية تحقيرًا وازدراءً، ما زال مستخدمًا بنفس المعنى ويطلق على عشائر زراعية تستوطن «الجزيرة» و «حوض الفرات» ويعود موطنها الأصلي إلى «حرَّان»، كما تفيد المرويات الشفهية المتواترة الموثقة لهذه للعشائر الزراعية. كما أن هذا النعت جاء من اللغة السريانية، أي أن استخدامه يعود إلى تاريخ يسبق وجوده في اللغة العربية، وبحسب التتبع الدلالي للقواميس العربية فإن تطور حمولة النعت السلبية التحقيرية المصحوبة بالدلالة على جماعة جاء مترافقًا مع الروايات المُختلقة عن الحرانيين من قِبَل الكتاب واللاهوتيين المسيحيين، وقد استمر هذا المعنى التحقيري بحَرْفيته حتى اليوم.

192-انظر: الأب شربل جورج صاموئيل (النهار، الثلاثاء 7 كانون الأول/ديسمبر 2004) الذي يؤكد أن هذا النعت يطلق على تلك العشائر.
193- انظر للمزيد: علي الجباوي (2006).
194- لهجة هذه العشائر الفراتية لم تكن مفهومة من بقية السوريين، ولا ترتبط بصلة قرابة مع أيٍّ من اللهجات السورية، وأكثر اللهجات قربًا لها هي لهجة جنوب العراق ولهجة أهل الأهواز، ولا تنبع المشكلة من قلب بعض الحروف العربية إلى أخرى [بعضها غير موجود فيها]، بل بغياب بعض الحروف العربية عن اللهجة الأصلية مثل القاف والضاد.
195- لا يُدِخل هذا البحث الجدل حول عروبة أو عدم عروبة مسيحيي الجزيرة، وهم من خلفيات إثنية مختلفة!

* هذا البحث هو الباب الثالث من كتاب "الحرَّانيون السُّومريون: في أصول ومعتقدات العشائر الزراعية في الجزيرة والفرات" لـ خلف علي الخلف و قصي مسلط الهويدي، (طبعة أولى 2021: جدار للثقافة والنشر- مالمو)، (طبعة ثانية 2022: دار ريادة- جدة).

* ملاحظة: المراجع المذكورة داخل النص لها ثبت مراجع في الكتاب منشورة بشكل منفصل في صفحة الكتاب على الفيسبوك لمن يريد التحقق من المراجع لصعوبة فرز المراجع الخاصة بهذا الجزء عن الخاصة ببقية اجزاء الكتاب لم ننشرها هنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا تعلق كل المبادلات التجارية مع إسرائيل وتل أبيب تتهم أر


.. ماكرون يجدد استعداد فرنسا لإرسال قوات برية إلى أوكرانيا




.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين: جامعة -سيانس بو- تغلق ليوم الجمعة


.. وول ستريت جورنال: مصير محادثات وقف الحرب في غزة بيدي السنوار




.. ما فرص التطبيع الإسرائيلي السعودي في ظل الحرب الدائرة في غزة