الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من اجل قراءة معرفية للتراث

مهدي النجار

2006 / 10 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


نجد قراءات عربية إسلامية راهنة للتراث، هي عبارة عن ركام هائل من الكلام،آلاف من أطنان الورق تدور وتتمحور حول المدونات التراثية،تشرح،تفسر ،تؤول،تمجد،تبجل،تعيد وتصقل،لا تتقدم خطوة واحدة خارج تلك المدونات،هي نفسها هذه القراءات تُشكل أحد أهم مصادر بؤس الوعي العربي الإسلامي،لأنها تقرا المدون التراثي وكأنه ابن اليوم،تقراه قراءات تلقينية واطلاقية ويقينية تُفقدها القدرة على معرفة الواقع واكتشاف إشكالياته وقوانينه والتأثير فيه،وتحصر العقل في ردهات مسدودة ومعتمة قد لا ترى النور على الإطلاق، وهي من ناحية أخرى لا تؤمن أن هناك علاقة بين المدون والزمن الذي تم إنتاجه فيه،حيث تبدو المدونات التراثية مفصولة عن التاريخ وليست ظواهر ثقافية تاريخية تتأثر بالأشياء وتؤثر بها،في حين نجد في الازمان السالفة قراءات عقلانية تثير الإعجاب والاحترام: ابن خلدون ،على سبيل المثال،نجد قراءاته لمفكري عصره وأسلافه ،قراءة إشكالية ونقدية،فقد قرا المشرع الإسلامي وقرا الطبري والمسعودى والبكري والطرطوشي وابن المقفع وابن رشيق ،وقرا أيضا ابن رشد والفارابي وار سطو…الخ،وبعد كل قراءة يلغي العوائق أمام خطابه ليتحرر من أي ثقة تامة بالمقروء،أو أي سلطة يفرضها النص:"فلا تثقن بما يلقى إليك من ذلك وتأمل الأخبار واعرضها على القوانين يقع لك تمحيصها بأحسن وجه" (المقدمة) ،ويقرا ابن رشد العقلاني والمجدد الكبير ،يقرا الآخرين باصغائية مدهشة وتحاور ذهني خلاق: "لابد أن يسمع الإنسان أقاويل المختلفين في كل شيء ،يفحص عنه،إن كان يجب أن يكون من أهل الحق" (تهافت التهافت) بجانب هذه العقلانيات،نجد النموذج الأسطوري،صَفاف الكلام،غير مكترث بأعمال الذهن،وغير عابئ بتفحص الوقائع أو استقرائها،يتلمس تصديق نصوصه من خلال تابوات: "عن أبى هريرة قال قلت يا رسول الله اني اسمع منك حديثاً كثيراً أنساه قال ابسط رداءك فبسطته قال فغرف بيديه ثم قال ضمه فضممته فما نسيت شيئا بعده "(صحيح البخاري/ج1).
لقد أنتجت القراءات التقليدية الراهنة خطاباً بائساً يبدو التراث من خلالها أحد عوائق نهوض الاجتماع وتطوره،في حين أن الإعاقة التي نتوهم أنها تأتى من التراث هي ليست من التراث نفسه،وانما هي من قراءات التراث أو العقل الذي يقرا التراث،وعلى حد تعبير مهدي عامل : "ليس التراث في وجوده الحاضر هذا ،سبب التخلف بل هو وليد هذا التخلف،أي اثر له" (مقدمات نظرية).
ماذا تريد القراءات التقليدية من التراث؟
سنحاول إظهار أجابتنا على ذلك من خلال تنميط هذه القراءات إلى ثلاثة أنماط:
النمط الأول: قراءة ترقيعية تتواصل مع التراث لاثبات إن التراث يحتوي على معطيات صالحة لكل زمان ولكل مكان، فهو كوني وهو لامتناهي، ولان الحقيقة كامنة فيه ،فعلى شعوب الأرض أن تتبنى مضامينه لأنها هي الصواب شاء العالم أم أبى، وتزعم هذه القراءات أن المعارف والأخلاقيات والعلوم التي تم إنتاجها ،والتي تُنتج الآن وفي المستقبل هي متضمنة في بطن نصوصنا،تستغرق هذه القراءات جل نشاطها وعمرها في ترقيع الثياب العتيقة المهترئة بالية العنعنة الواهنة:" قال فلان عن فلان عن فلان…" وتتغيب في غمرة نشوتها الروحانية عن أسئلة الفضاء المعاصر، وتعيش مُستريحة خارج الألفية الثالثة ،مؤسسه موقفها على بُعدين ،أحدهما التعاطف المتشدد بطقوسه العادية والتبجيلية للتراث،أما البعد الثاني فهو الموقف العدائي المسبق من حداثة الآخر(الغرب) ومن معطياته الثقافية.
النمط الثاني:قراءة توفيقية تتواصل مع التراث لاثبات إمكانية دمجه مع المعطيات المعرفية المعاصرة لانتاج (خلطة)معرفية جديدة عن طريق تطويع أحدهما للآخر،معارف التراث والمعارف الحديثة،إن هذه القراءة لم تتمكن ،كما أوردنا آنفا،من قراءة المدون التراثي باعتباره ظاهرة تاريخية له زمانه وظروفه وادواته المعرفية الخاصة به،أي انه منتج داخل شروط واقعية معينة ،وهو ثمرة من الاجتهاد البشري كغيره من الأنشطة الثقافية التي تخضع للبحث والفحص والنقد والمناقشة.
النمط الثالث: قراءة اقصائية،تتواصل مع التراث بغية تسفيهه واثبات عدم جدواه أو صلاحيته،وبالتالي نبذه كلياً من خلال تبني وجهات نظر الحداثة،هذه القراءة مأخوذة بجنون الحداثة تحاول أن تشطب على أعمال جبارة كتلك التي أنتجها الأسلاف.
تحاول القراءة المعرفية التي نشير إليها ونقترحها أن تتجاوز تلكم القراءات من خلال:
أولا:التعامل مع المدون التراثي،من خارجه وبالانفصال عنه،باعتباره ظاهرة تاريخية أنتجها البشر،تخضع لمعايير الصح والخطا،النقد والتجاوز،وبذا تلغي سلطة النص،فحيثما كانت سلطة كان هناك اعتقاد وقداسة وإسقاط وإخضاع.
ثانياً:تزعم هذه القراءة إنها تنتمي إلى النشاط العلمي فعليها أن لا تتوقف عن نقد ذاتها،فكما يشير باشلار: "أن التصور العلمي هو مجموع الانتقادات الموجهة إلى صورته الأولى" فمن طبيعة هذه القراءة المعرفية إذا ما أرادت الانتماء إلى الحقل العلمي أن لا تكف عن نقد نفسها ومراجعة مرتكزاتها (حتى الأساسية منها) وذلك نتيجة التقنية والتصحيح الذاتيين المستمرين اللذين يجريهما العلم على نفسه،حتى تصبح تصوراته اكثر اقتراباً من الواقع واكثر موضوعية.
ثالثاً: تتعامل القراءة المعرفية للتراث مع آليات وفتوحات العالم الثقافية الحديثة دون قيد أو شرط،دون خوف على تمزيق الهوية أو ضياع الأنا في متاهات الآخر،فهي مشروطة بأحكام ذاتها الخاصة ومتمتعة بقدرة عالية من حصانة الوعي تؤهلها لقراءة أي شيء ومن أية جهة بالية جدلية من آليات الفهم المتبادل أو آليات التشارك الثقافي،الأخذ ،والعطاء،والترك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تعرف على تفاصيل كمين جباليا الذي أعلنت القسام فيه عن قتل وأس


.. قراءة عسكرية.. منظمة إسرائيلية تكشف عن أن عدد جرحى الاحتلال




.. المتحدث العسكري باسم أنصار الله: العمليات حققت أهدافها وكانت


.. ماذا تعرف عن طائرة -هرميس 900- التي أعلن حزب الله إسقاطها




.. استهداف قوات الاحتلال بعبوة ناسفة محلية الصنع في مخيم بلاطة