الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصّة كهفِ أفلاطونْ ..

زكريا كردي
باحث في الفلسفة

(Zakaria Kurdi)

2023 / 3 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


هي قصةً شهيرة معروفةً ، كتبَ فيها عشراتٌ بلْ مئاتُ المباحثِ والمقالاتِ ، وتدارسَ مغزاها ودلالتها الواسعةِ كثير منْ العلماءِ والمفكرينَ . وذلكَ لكونها واحدةٍ منْ أشهرِ الرموزِ الفلسفيةِ العميقة للفيلسوفِ اليونانيِ أفلاطونْ.
موضوع القصةُ باختصارِ شديدٍ :
هو أنَ مجموعةً منْ الأشخاصِ عاشوا طوالُ حياتهمْ في كهفٍ ، مقيدينَ بالسلاسلِ في مواجهةِ جدارٍ ، ومنْ خلفهمْ شعلةٌ كبيرةٌ منْ النارِ ، وبينَ النارِ والسجناءِ هناك أشخاص يحملونَ أشياءً مختلفة، تلقي بظلالها على الحائطِ . وبالتالي يمكنُ للسجناءِ فقطْ رؤيةَ الظلالِ، وسماعِ أصداءِ الأصواتِ ، التي يصدرها الحراسُ والأشخاصُ الذينَ يحملونَ الأشياءُ .
ثمَ في أحدِ الأيامِ ، يتحررَ أحدُ الأسرى منْ أغلالهِ في غفلةٍ منْ حراسهِ ، ويغادرَ مكانهُ في الكهفِ . و بينما يشقُ طريقهُ إلى الخارجِ ، أعمتهُ أشعةُ الشمسِ، فكافحَ كثيرا للتكيفِ معَ ضياء العالمِ الحقيقيِ، الجديدِ كلياً بالنسبةِ لهُ .
لكن في النهايةِ وبعدَ طولِ عناءٍ ، نجده قد تأقلمٌ معَ واقعهِ الجديدِ ، بالذاتِ حينُ رأى الشمسَ والنجومِ وكلِ شيءٍ آخرَ للمرةِ الأولى ، عندئذٍ أدركَ قدْ تحررَ ذهنيا وليسَ جسديا فقطْ ، وفهمَ أنَ ما كانَ يؤمنُ بأنهُ حقيقةٌ لاغبارْ عليها ، قطعيةً اليقينِ والثبوتِ والدلالةِ ، كانَ مجردَ صدى باطل أوْ ظلٍ للحقيقةِ . لكنْ للأسفِ ، الحريةُ (كعادتها ) لمْ تدمْ طويلاً ، لذلكَ الفاهمِ الفارِ منْ القطيعِ ، فقدْ تمَ القبضُ عليهِ ، وأجبرَ على العودةِ إلى الكهفِ . .
بالطبعِ في البدايةِ ، عيناهُ اللتانِ تعودتا على الضوءِ ، لنْ ترى شيئا لأولِ وهلةِ بسببِ الظلمةِ الشديدةِ . ثمَ يبدأُ بالتضايقِ جدا ، منْ محاولةِ التعودِ مرةً أخرى على ظلامِ الكهفِ ، فيحاولُ إخبارُ أهلهِ وزملائهِ السجناءِ بتجربتهِ . وبما رآهُ وعقلهُ ، لكنهمْ لمْ يكتفوا بإنكارِ ما يقولُ ، بلْ هاجموهُ وزجروهُ بشدةٍ ، موقنينَ تماما ، أنهُ إنسانٌ مجنونٌ ( لحسنِ الحظِ حينها ، لمْ تكنْ كلمةُ " كافرٍ " قدْ ابتدعتْ بعد ) . وبأنهمْ - وللهِ الحمدِ - مؤمنينَ متأكدين ومطمئنينَ تماما ، بأنَ التصوراتِ والخيالاتِ التي في أفهامهمْ ، والظلالُ االتي يرونها في أمامهمْ ، هيَ الحقيقةُ الوحيدةُ فقطْ .
كما هوَ واضحٌ ، يستخدم أفلاطونْ هذا الرمزِ لإظهارِ قوةِ التعليمِ وأهميةِ التفكرِ والبحثِ عنْ المعرفةِ ، ومدى أهميةِ وضرورةِ تجاوزِ ما يتمُ تقديمهُ إلينا منْ معارفَ وأفكارٍ واعتقاداتٍ . حيثُ يمثلُ الكهفُ التصورُ المحدودُ للواقعِ الذي يمتلكهُ الكثيرُ منْ الناسِ ، بينما يمثلُ السجينُ المفرجُ عنهُ أولئكَ الذينَ تحرروا منْ هذا التصورِ المحدودِ ويطلبونَ المعرفةَ بعدهُ .
ما أودُّ قوله، هو أن هذهِ القصةِ الشائعةِ لأفلاطونْ، تمثلُ رمزاً قوياً ، مازال حاضراً في طرائقِ تفكيرنا حتى يومنا هذا .
فالنارُ تمثلُ المعرفةُ الزائفةُ والمعتقداتُ الموروثةُ التي يقدّمها لنا المجتمعُ . بينما الشمسُ ترمزُ إلى المعرفةِ الحقيقيةِ التي لا يمكننا اكتسابها إلا منْ خلالِ التعليمِ والتجربةِ والتكيفِ والتنويرِ العقليِ .
تخيلُ الآنِ أنكَ الشخصُ الذي أجبرَ على النظرِ إلى الحائطِ .
إذنْ ما تراهُ هوَ واقعكَ . أنتَ لا تعرفُ أيَ شيءِ أفضلَ . بل أنت لمْ ترَ أبدا أيَ شيءٍ آخرَ ، وكلَ ما تعرفهُ هوَ ما تراهُ وتسمعهُ، أوْ ما رأيتهُ أوْ سمعتهُ منْ قبلٌ ، رغم كلِ شيءٍ.. هذا ما يحدثُ للجميعِ ، حتى لمن يخال فهمه خارجِ الكهفِ .
لكن في المقابل ، دعونا نفكر معاً :
منْ منا متأكدٌ تماماً ، بنسبةِ 100. !! أنهُ خرجَ منْ الكهفِ ورأى النورُ الحقيقيُ ؟ بالتأكيدِ مثل هذا الادعاءَ بالمعرفةِ التامةِ، سيكونُ نوعُ الغطرسةِ.
ناهيك عن أن هذا القول بحد ذاته - في تقديري - ليس بعيد الشبه أبداً ، عن حال الاضطرارُ إلى النظرِ إلى جدارِ الأشباحِ، المليئ بالعقائدِ الثابتةوالمتخيلة ، التي اعتدنا فيها على تلكَ الطريقةِ الجذابةِ والمقنعةٌ .
الأن يبقى السؤالَ لكلِّ منّا :
تُرى في أيِة مرحلةٍ منْ قصةِ الكهفِ أنتَ الآنَ ؟ هلْ تعتقدُ أنكَ رأيتُ النورُ ؟ أوْ هلْ تشكُ في أنَ رحلةَ معارفكَ برمتها ، هيَ مجرد مسرحيةٌ هزلية ، تتداخلُ فيها حدودُ الضوءِ أوْ الظلِ التي تراها ؟ . ماذا تعرفُ أوْ تعتقدُ أنكَ تعرفُ ؟
ماذا لوْ كانتْ حياتكَ المعرفيةُ وهم ، وكل الوعيُ الذي تحملهُ ذاتكَ ، هوَ مجردُ وميضٍ خافتٍ مثلٍ الضوءِ الخادعِ في كهفِ أفلاطونْ . . ! !؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الألعاب الأولمبية باريس 2024: إشكالية مراقبة الجماهير عن طر


.. عواصف في فرنسا : ما هي ظاهرة -سوبرسيل- التي أغلقت مطارات و أ




.. غزة: هل بدأت احتجاجات الطلاب بالجامعات الأمريكية تخرج عن مسا


.. الفيضانات تدمر طرقا وجسورا وتقتل ما لا يقل عن 188 شخصا في كي




.. الجيش الإسرائيلي يواصل قصف قطاع غزة ويوقع المزيد من القتلى و