الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بناية القشلة وصور من ذكريات بغداد

حامد خيري الحيدر

2023 / 3 / 25
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تُمثل بناية السَراي القديم في بغداد التي تُعرف بـ"القشلة" أهم المعالم العمرانية المُتبقية من فترة الحكم العثماني في العراق، التي امتدت لما يقارب الأربعة قرون 1534_1917، كوّنها تعكس بشكلٍ جَلي من خلال ضخامة البناء والأسلوب الفني القشيب الذي نُفذ فيها والترَف الكبير الذي بُذل في تشييدها، سَوية مع الطرز المعمارية العثمانية التي سادت خلال تلك الفترة، مدى قوة الولاة العثمانيين الذين تولوا الحكم وجبروت سلطانهم وسَطوتهم على عُموم أرض الرافدين، كما أن هذه البناية العظيمة بموقعها المُميّز المُمتد بمُحاذاة نهر دجلة، قد اختزلت رَدحاً طويلاً من تاريخ مدينة بغداد، وهي تَشهد تتابع عصورها ونقائض الأحداث التي مَرّت بها مع تعاقب الحِقب، منذ العصر العباسي ثم مروراً بفترة الحكم العثماني وحتى وقتنا الحاضر، مما جَعَلها تترك في نفس العراقيين وأهل بغداد خاصة، أثراً عَميقاً وعَبقاً أثيراً يُسافر بهم الى تلك الأيام الماضية الخوالي، لتترك قاعاتها وأجنحتها وأروقتها العديدة صَدى لا يزال يَرّن في الآذان حتى بعد مرور كل تلك السنين.
من جانب آخر لا تزال المنطقة العتيقة التي تُحيط بها وتَحتضن جُدرانها العالية وَسط بغداد، بدَبيب حَركتها وضَجيج شوارعها وأزقتها الضيّقة واسواقها التاريخية، مثل مَحال الحِرف والمِهن الجلدية الذي يُسمى "سوق السراجين" الكائن مقابل "جامع الوزير"، و"سوق السَراي" بدكاكينه الصغيرة الذي كان يُسمى سوق "الجَقبقجية"، أي سوق صناعة أدوات التدخين، وشارع "المتنبي" الذي كان يُسمى أيام الدولة العباسية بـ"درب زاخي" ثم سُميَّ خلال الفترة العثمانية بـ"الأكمكخانة" ويعني منطقة المَخابز العسكرية، ترسم صورة مُصّغرة للمجتمع العراقي ببساطته وعفويته وتناقضاته وطيبة قلبه، مُبيّنة بجَلاء واقع الشعب وطبيعته الحقيقية، ولابد للسائر بين تلك الدُروب التراثية القديمة أن يستكشف في كل حين مع مَشاهدها الحياتية الدؤوبة شيئاً جديداً من أحوال الناس وغرائب أمورهم، حتى يغدو مُروره هناك يوماً بعد آخر من المُتع المعتادة التي لا يُمكن الاستغناء.
فمَحال بيع القرطاسية المُتخمة بلوازم الطلبة والتلاميذ، كانت على الدوام مكتظة بزبائنها خاصة مع بدء المدارس عامها الدراسي الجديد عند مطلع شهر تشرين الأول، وهم يساومون الباعة أسعار بضاعتهم مهما دَنت قيمتها، أما المكتبات الكبيرة و"بسطيات" بيع الكتب المُتناثرة في كل مكان، فتراها عامرة بمختلف عناوين الكتب تُغري المولعين والمُبتلين بالثقافة ليدفعوا عن طيب خاطر ما كانوا قد إدخروه لاقتنائها، والبعض منها كان يَبيع خلسة وبشكلٍ خفي لخاصة من زبائنٍ موثوق فيهم مطبوعات مَنسوخة عن كتب سياسية أو دينية، كانت الجهات الأمنية خلال الحِقبة السابقة قد منعتها من التداول، ومن بين اصحاب تلك المكتبات كان يُسمع عن بُعد صياح بائع الكتب الراحل نعيم الشَطري المعروف بـ"أبو ربيع"، وهو يقف أمام مكتبته المُسماة باسمه "مكتبة الشَطري" يُنادي بمُختلف عناوين الكتب، مُروّجاً بصوته الجَهوَري لمَزاد كتبه.. (كتاب.....، ثمنه.....، من يَزيد؟ من يَزيد؟ راح أصالح، راح أبيع).
أما المطاعم الشعبية الصغيرة بتنوع مأكولاتها والمَحشورة بين اكتظاظ كمّ المحال الهائل الذي يملأ المكان، فلا يكاد المَرء يجد لنفسه كرسياً شاغراً فيها من شدّة الزحام، وفي مُقدمتها مطعم "كباب الاخلاص" لصاحبه الراحل عباس الحاج داود، الذي أنتقل موقعه فيما بعد الى ساحة الرصافي، ومطعم "كبة أبو علي" الشهيرة التي تحّول أسمها لاحقاً الى "كبة السراي" الذي تصل رائحة كبته الشَهيّة المُغريّة حتى طرف السوق، مع العبارة المُميّزة التي أعتاد ترديدها صاحب المطعم الراحل "الحاج أبو علي" بلهجته البغدادية الجميلة وهو يُقدّم طبق الكبة الساخنة لزبائنه.. (أخذ عني أخذ.. ألف عافية)، ولا يُنافس هؤلاء في اجتذاب الزبائن الجَوعى سوى مطعم "كاهي علي" بكراسيه ومَناضده المَصنوعة من الخيزران ومُبردة هوائه العتيقة ذات الصوت المُدوّي.
وخلف تلك المَحال المتباينة التَخصص وشكل الرزق، أنزَوَت ورش صياغة الذهب بحرفييها المندائيين المَهَرة، وكذلك مطابع الكتب والإعلانات التي كان يُستدل على وجودها من صوت مكائنها الذي يَكاد لا يَنقطع، كما انتشرت بينها أيضاً عربات بيع الشاي والسكَائر وقطع الحلوى بعَفوية تجلب دوران الرأس وحيثما يتواجد زبائنهم، يوم هنا ويوم هناك بين هذا المطعم أو ذاك المَحَل، وبين هذه الحركة العشوائية الدائمة التي لا تهدأ، كان يقف بائع السَمك ذو العقل المُختل "عدنان" مع عربة أسماكه النهرية الشَهية مُقابل مقهى "الشابندر" بهيئته الغريبة، من لحية كثّة وملابس عسكرية موّشحة بميداليات نحاسية مُقلّدة، مُعتمراً قبعة مُميزة، متشبهاً بالزعيم الكوبي الراحل "فيدل كاسترو"، والذي أعتاد رواد المنطقة مُمازحته بين حين وآخر قتلاً للضجر وتناسياً للهموم داعين إياه بكلمة "عَوعَو"، ليَرُّد هو عليهم بالمُقابل بسَيل من أقذع الشتائم، بل وحتى بائعات الهوى وَجدّن في هذه البيئة الصاخبة مَثابة خاصة لهّن لاستحصال (رزقهن) في طرف شارع المتنبي عند التقائه بشارع الرشيد.
لتغدو هذه اللوحة الفوضوية السائبة الحدود والمتباينة الخطوط، بمثابة حالة خاصة خلقتها الحياة البغدادية على صفحة الدهر جيلاً بعد جيلا من المُستحيل أيجاد شبيها لها، ثم لتشُيّد القشلة وسطها فتصبح رفيقة سرياليتها وحارسة أيامها على مدى الزمن.
لقد كان لمَبنى القشلة أكثر من وظيفة، اختلفت بحسب التغيّرات الاجتماعية والسياسية التي شَهدها العراق، ففي البداية وإبان الحكم العثماني كان عبارة عن ثكنة وسراي كبير على ضفاف نهر دجلة في جانب الرصافة، خُصص ليكون مقراً للوالي وإدارته وثكنة عسكرية لجُنده، لذلك فأنه شُيّد على نحو شَبيه بالأبنية العثمانية التي كانت سائدة في تلك المرحلة، ليغدوا فيما بعد أعجوبة لأهالي بغداد من حيث العمارة والفخامة، وبعد الاحتلال الإنكَليزي للعراق عام 1917 أتخذ من المَبنى مَسكناً للضباط الإنكَليز وعائلاتهم، كما شهَد مبنى السراي القديم أيضاً العديد من الأحداث الهامة في تاريخ العراق الحديث، منها تتويج فيصل الأول ملكاً على العراق في 23/8/1921، ومن بعده أبنه الملك غازي في 8/9/1933.
وأسم "القشلة" مأخوذ من اللفظة التركية "قاشلاغ"، التي تَعني "أشتى" أو "المَشتى"، لتصبح هذه الكلمة فيما بعد اصطلاحاً يُطلق به على "ثكنة الجند"، أي المكان الذي يُعسكر فيه الجنود خلال فصل الشتاء وعدم خروجهم للحرب، كما وتُعتبر هذه البناية جزءاً من سلسلة مَباني تُكمل بعضها بعضاً، تُشّكل ما تم التعارف عليه بـ"سراي بغداد القديم" أو "ديوان الحكومة القديم"، يَشغل المساحة المُحاذية لضفة نهر دجلة اليُسرى من جانب الرصافة، والمُمتدة من مبنى وزارة الدفاع في منطقة باب المعظم شمالاً، والتي تخفي تحت أرضها مباني القصور العباسية القديمة، وحتى المدرسة المستنصرية عند رأس جسر الشهداء جنوباً، حيث كانت الارض التي تم بناء "القشلة" عليها تُمثل في السابق موقع "المدرسة الموفقية" خلال العصر العباسي، التي شَيّدها الوزير "موفق الخادم" في مطلع القرن الثالث عشر الميلادي وسَمَّاها على أسمه، كما لم يأتِ اختيار موقع بناية القشلة هذا من قِبل الولاة العثمانيين ليُشيدوا عليه صَرحهم الفخم، من فراغ أو سابق جَهل ودراية بل لسيطرته السَوقية الهامة، إضافة لحُسن المكان وجماله وبَهاء منظره، وما يمكن أن يوفره بإطلالته الخلابة على النهر من أجواء طيبة تقلل من مُعاناة قيظ بغداد اللاهب، مُذكرّاً الولاة وكبار مستشاريهم وموظفيهم بالبيئة الباردة التي قدموا منها.
وتشغل بنايتي القشلة والسَراي مساحة مستطيلة تمتد من الشمال الى الجنوب بطول مئتين وخمسين متراً وعرض ستين متراً، وقد تم بنائهما وفق أسلوب العمارة العراقية القديمة التي انتشرت منذ فترات مبكرة من التاريخ الى معظم مناطق الشرق القديم، المُتمثل بتَشييد المَرافق البنائية حول فناء مَكشوف أو باحة مفتوحة، والذي يَرجع الى "فترة حسونة" من العصر الحجري الحديث عند الالف السادس قبل الميلاد. وفق ذلك فقد شُيّد مَبني السراي والذي يعني بالتركية "القصر الكبير" بشكل مستطيل من ثلاثة أضلاع، يَمتد من الشمال الى الجنوب بطول مئة وثمانين متراً وعرض ستين متراً، تطل أضلاعه المُشيّدة من طابقين بأروقة تنفتح بشُرفات تعلوها عقود دائرية على فناء كبير تتوسطه ساعة بُرجية كبيرة، شُيّدت عند طرف الضلع الرابع الذي تُرك مَفتوحاً على حافة نهر دجلة المُدّعَمة بمُسناة مَبنية بالطابوق.
أما بناية القشلة فهي كذلك مستطيلة الشكل، بطول يُقارب السبعين متراً وعرض خمسين متراً، تمتد من الشمال حيث تلاصق الضلع الجنوبي لمبنى السراي لحكومي الى الجنوب حيث "جامع الوزير" الذي يتقدم جبهته سوق السراي، وقد شُيّدت أضلاعها الاربعة بطابقين ذات أروقة تطل هي كذلك على فناء واسع، والى جانب البناية توجد رَحبة واسعة تطل على نهر دجلة، وقد تم في فترة مُتأخرة من زمن الدولة العثمانية هَدم جزء من الأضلع المتلاصقة للسراي والقشلة ليُشيّد بينهما ما كان يُسمى بـ"دار الوالي" بطابقيه وفنائه الواسع، والذي بُنيَّ ليكون محل إقامة الوالي العثماني، وقد جَرى ترميم هذه الدار بشكل جميل وحسب طرازه الأصلي خلال الأعوام 1992_1994 من قبل الهيئة العامة للآثار والتراث العراقية.
ويكون الدخول الى بناية القشلة عن طريق مَدخلين، الرئيسي منهما يقع في الضلع الشرقي للبناية، أما الثاني فهو صغير ويقع في ضلعها الجنوبية، حيث يتوسط المدخل الأول واجهة المبنى المُطلة على شارع السراي ويتكون من ثلاثة أقسام، الاول عبارة عن بوابة كبيرة ذات عقد مُدبب يتبعها رواق يؤدي الى قاعة مربعة الشكل رَصينة البناء تُزيّن أركانها حُلية آجرية جميلة، وتعلوها قبة مزدوجة مُزيّنة بالرُموز والزخارف العثمانية، تؤدي بدورها الى رواق صغير آخر يوصل الى أروقة وغرف وقاعات القشلة، وتقابل هذه البوابة جامع السراي، وهو من المعالم التاريخية الهامة في رصافة بغداد، وكان قد اطلقت عليه عدة اسماء، كان أقدمها أسم "الجامع السليماني" نسبة الى السلطان "سليمان القانوني"، الذي وجده مَسجداً صغيراً عند احتلاله بغداد في سنة 1534 فعَمّره ووسّعه، وبعد مدة قام "حسن باشا" والي بغداد للفترة 1891_1896 بتَجديده وتوسيعه فسُميَّ "جامع جديد حسن باشا" للتفريق بينه وبين "جامع الوزير حسن باشا" والي بغداد للفترة 1704_1724، لذلك سُميّت هذه المَحَّلة باسم باني هذا الجامع "مَحَّلة جديد حسن باشا" بدلاً من أسمها القديم المعروفة بـ "مَحَّلة شاه قولي" نسبة الى الملك الصَفوي "نادر شاه"، أما المدخل الآخر الذي يتوسط الضلع الجنوبي فهو باب بمصراعين من الحديد، مُزدانين بمَسامير حديدية موزعة بانتظام زُخرفي مُنَسّق، وكان هذا النوع من الأبواب الضخمة قد شاع تَنصيبه عند مَداخل المباني المدنية والعسكرية التي بُنيّت في العراق خلال فترة الحكم العثماني كالقلاع والحُصون والخانات.
ولبناية السراي تاريخ طويل حيث كانت بداية تَشييدها تعود الى أواخر حكم الأسرة التُركمانية "القرة قويلو" أو "دولة الخروف الأسود" في العراق والمُمتدة للفترة 1411_1468، ثم توالى على سُكناها عدد من الولاة الذين أحدثوا بعض التجديدات والتَحويرات عليها، كما جعل منها "صَفي قلي خان" مقراً لحكمه عند استيلاء الصفوين زمن الشاه "عباس الكبير" على بغداد عام 1638، حيث شُيّد السراي الكبير الى جانب القشلة، كما تعرضت القشلة خلال تاريخها للتخريب عدة مرات بسبب الاضطرابات التي حدثت في مدينة بغداد، والتي كان آخرها في زمن الوالي "داود باشا" 1817_1831.
والبناء القائم في الوقت الحاضر والمُكوّن من بنايتي السراي والقشلة يُمثل العهد الأخير لهما، الذي يعود الى زمن الولاية الثانية للوالي "نامق باشا" 1862_1867 بعد أن كانت الولاية الأولى له بين العامين 1851_1852، حيث كان هذا الوالي قد شَيّد العديد من المباني في بغداد كان السراي والقشلة من بينها، حيث شَيّدهما بطابق واحد عُرف حينها باسم "بيادة قشلة سي" أي "ثكنة جنود المشاة"، لكن التعمير الكبير للبناية حدث خلال فترة حكم الوالي "مدحت باشا" 1869_1872، حيث أكمل بنائها وشَيّد طابقاً ثانياً لها، ومَن يُدقق في رؤيته للمَبنى من الداخل أو الخارج وتحديداً الأبراج التي تُدَّعم البناء، سواء كانت المُضلعة أو النصف دائرية التي ينتهي ارتفاعها مع سقف الطابق الأول بحُلية معمارية تشبه شرفات القلاع العثمانية، يتأكد أن الطابق الجديد ذو شكل مُختلف مُضاف وليس من أصل التصميم الأساس، ولأجل توفير الطابوق اللازم في بناء وتَعمير السَراي إضافة الى مبانٍ أخرى في بغداد، أمَر هذا الوالي بهَدم سور بغداد الشرقية عام 1870 واستخدام طابوقه القديم في حملته العمرانية التي عُرف بها وأشتهر، بعد ذلك طرأت على المَبنى تَغيُّرات طفيفة أجراها عدد من الولاة العثمانيين اللاحقين مع تتابع فترات حكمهم، وكان آخرها في زمن الوالي "ناظم باشا" عام 1910 خلال حكم السلطان "محمد رشاد".
ولعل من أجمل مَعالم السَراي القديم الظاهرة للعيان ساعته البُرجية العالية، التي غَدت أحدى الرُموز المُميزة لمدينة بغداد، وكان تَشييدها من ضمن التجديدات التي أنجزها الوالي مدحت باشا، فبعد إكمال التحديثات على المَبنى، ظهرت الحاجة إلى ابتكار وسيلة حديثة لتَنبيه العَسكر وإيقاظهم صباحاً بدلاً من استخدام الأسلوب القديم المتمثل بـ" البوق"، لذلك شُيّدت "ساعة القشلة" الشهيرة، والتي هي اليوم واحدة من أقدم الساعات البُرجية في العالم، وكان ملك بريطانيا "جورج الخامس" قد أهدى مدينةَ بغداد هذه الساعة الميكانيكية عام 1869 أي بعد عشر سنوات فقط من تاريخ تَنصيب ساعة "بيكَ بن" الشهيرة في العاصمة البريطانية لندن، وقد وثّق هذا الاهداء وتاريخه في لوحة تذكارية مَكتوبة داخلها.
وبالفعل فقد كانت ساعة القشلة أعجوبة ذلك الزمان، إذ لم يكن أهل بغداد قد شاهدوا ساعةً توضع فوق برج بهذا الارتفاع، بأوجهها الأربعة ومؤشرها الحَديدي الذي يوَضّح اتجاه الريح، وأسهمها الأربعة بحروفها اللاتينية الدالة على الاتجاهات الرئيسية، وقد جَرى تصميم هـذه الساعـة لتدق كل ساعة، حيث كـان صوت رَنينهـا تسمعه مدينة بغداد بجانبيها الكرخ والرصافـة خاصة أوقـات الليل والفجــر، فكان أهالها من العمال والكسّبة والموظفين يَستيقظون على دَقـاتها كي يذهبوا الـى أعمالهـم، كما كانت هذه الساعة تُضاء أثناء الليل كي تُرى من أماكن بعيدة، ليغدو شكلها شَبيه بفنارات المَرافئ البحرية الذي تَستدل بها السفن.
كان بُرج الساعة بارتفاعه البالغ ثلاثة وعشرين متراً ذو شكل مـربع، طول ضلعـه أربعة أمتار يضيق كلما ارتفع عن الأرض، ليُشابه في تصميمه هذا الى حـدٍ كبير شكل المآذن الإسلامية الأولى، بنيَّ بداخلـه سُـلم حلزونـي يتألف مـن ثلاث وسبعين درجة، يوصل الى غـرفـة مُربعة الشكل وضعـت فيهـا مكائن السـاعة ذات الأربعة أوجه، وكذلك جَـرَسها البالغ ارتفاعه متر واحد وقطره ثلاثة أمتار، وكان من مُميزات هذه الساعة أنها تعمل بنظام يختلف عن نظام الساعات القديمة الأخرى، حيث احتوت ماكنتها على ستة مُسنّنات فقط، أما باقي الساعات فتحتوي على خمسة وثلاثين مُسنّناً، وكانت تتـم عمليـة تنصيب "تكويك" الساعة ذات التصميم الميكانيكي بوساطة مفتاح يدوي كبير يَشبه مُدوّر مُحركات السيارات القديمة اليدوي "الهِندر" لتُعطيها قـوة تشغيل تستمر لمدة عشرة أيام، ولجـَـرَسها سبعة أيام.
وقد صُمم الوجهان الجنوبي والغربي للساعة ليَعتمدا التوقيت العربــي فجُعلت أرقـامهما بالعربيــة، أمـا الوجهان الشمالي والشرقـي فقد صُمما ليَعتمدا التوقيت الغربي لذلك جُعلت أرقـامهمـا باللاتينية القـديمة، وفـوق قُبــة البُرج ذات الشكل نصف كروي تقريباً، نُصّب سَهــم حَــديدي مُثبّت في الوسـط بمحورٍ دائري يتحرك بحريـة في كافة الاتجاهات، ليؤشـر على اتجاه حركة الريح، وأسفله أسهم ثابتة تـؤشـر علـى الجهـات الأربع، وقد نُصبت هـذه الأسهــم من قبل الجيش البريطاني عنــد دُخوله بغـــداد عـام 1917، حيث وضـع حينهــا شعار التـاج البريطاني.
ويمكن القول بعد ما تقدم أن أسلوب تَشييد بنايتي القشلة والسراي قد أعتمد بشكل أساس على أساليب العمارة العراقية التقليدية، المتمثلة بالفناء أو الساحة المكشوفة التي تحيط بها مرافق المَبنى، بالإضافة الى استخدام الطابوق كمادة بنائية للتشييد، وهي مادة عراقية الأصل والجُذور استخدمت لسُهولتها في البناء والزَخرفة، حيث استخدام في ذلك اسلوب المُقرنَصات والدَلايّات الآجرية، كما أعتمد شكل العقود المُدببة والأواوين المتناظرة بزخارفها المُميّزة، وهي طرز عراقية شائعة نراها واضحة في أبنية المدرسة المستنصرية والقصر العباسي "المدرسة الشرابية"، لكن في هاتين البنايتين أضيف أسلوب جديد وهو التطعيم بالنحاس الذي هو يُعّد تقليد بيزنطي واضح، إضافة الى استخدام عنصر القِباب المُزدوجة، كما هو شاخص عند المدخل الرئيسي لبناية القشلة، حيث شُيّدت بشكل قبة كبيرة تعلوها قبة أصغر تقوم على رَقبة أسطوانية، زوّدت بنوافذ لتكون بمثابة مَنوَراً لمُرور الضياء، وهذا أسلوب فريد تَميّزت به الكنائس الكبيرة في روما وبيزنطة، لذلك فأن عمارة القشلة والسراي كانت مَزيجاً أملته مُقتضيات البيئة الاجتماعية السائدة آنذاك، بين تأثيرات مَحلية عراقية تُمثل المَوروث الرافديني القديم، وتأثيرات عثمانية ذات أصل بيزنطي روماني، مما أكسبها جمالية فريدة جَعل منها طرازاً معمارياً مُميّزاً ساد وأنتشر بعد ذلك في معظم بنايات بغداد، سواء كانت بيوتاً أو مساجدَ أو أضرحةً أو أبنيةً رسمية، ليغدو أسلوباً بنائياً جديداً يُمثل العمارة العثمانية في العراق.

المصادر:
_ خالد خليل حمودي ... المعالم العمرانية في بغداد القديمة ... بغداد 2016
_ ريجارد كوك ... بغداد مدينة السلام/ الجزء الثاني ... ترجمة/ فؤاد جميل ، مصطفى جواد ... بغداد 1967
_ زهير العطية ... فن العمارة ... حضارة العراق/ الجزء الثالث عشر ... بغداد 1985
_ صلاح عبد الرزاق ... تراث بغداد العمراني ... بغداد 2022
_ طارق جواد الجنابي ... العمارة العراقية ... حضارة العراق/ الجزء العاشر ... بغداد 1985
_ عبد الكريم العلاف ... بغداد القديمة ... بغداد 1960
_ عبد الله عبد الحافظ ... دراسات في العمارة العثمانية/ الجزء الأول ... الكويت 2019
_ علي الوردي ... لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث/ الأجزاء.. الأول، الثاني، الثالث ... لندن 1992
_ محمد حمزة أسماعيل الحداد ... العمارة الإسلامية في أوربا العثمانية/ المجلد الأول ... الكويت 2002
_ محمد مكية ... بغداد ... بغداد 2005
_ مصطفى جواد ، أحمد سوسة ، محمد مكية ، ناجي معروف ... بغداد ... بغداد 1969








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العراق: السجن 15 عاما للمثليين والمتحولين جنسيا بموجب قانون


.. هدنة غزة تسابق اجتياح رفح.. هل تنهي مفاوضات تل أبيب ما عجزت




.. رئيس إقليم كردستان يصل بغداد لبحث ملفات عدة شائكة مع الحكومة


.. ما أبرز المشكلات التي يعاني منها المواطنون في شمال قطاع غزة؟




.. كيف تحولت الضربات في البحر الأحمر لأزمة وضغط على التجارة بال