الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكر إنما أنت مذكر...

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 3 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في لاحقة هذه الجزء من الآية حكم جامع شامل يبين مهمة الرسول وواجبه مع الناس، وطريقة تجسيد وترجمة عملية التذكير، بالعودة للآية كاملة ولنقرأها سويا (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)، والمسيطر باللغة التي نزل بها وهي العربية المعنى يتجلى في (هو المتسلط، المتجبر الذي يجبر الناس على الانقياد لما يأمرهم به)، بمعنى أن مهمة النبي والتي حددها نص سابق بكونها الإنذار فقط (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) وقوله (إنما تنذر من أتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب)، هنا علينا أن نفهم مهمة الرسول وهو المعني الأول في التبليغ والإنذار والهدي، وملخصها حكم الله "هو أنك لم تبعث مسيطرًا عليهم، مسلطًا موكلًا بأعمالهم، فإذا قمت بما عليك، فلا عليك بعد ذلك لوم"، كقوله تعالى (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)، ما صار وأنتشر هو أن بعض الفقهاء وتجاوزا على حكم الله والنص القرآني وتبغيضا بالدين بنية سوء أو جهل، جعلوا من أنفسهم اعلى درجة من الرسول وحملوا النص فوق ما لا يحتمل، وفرضوا على الناس سيطرتهم بحجة الذكر وممارسة الهداية، متناسين أن لو شاء الله هدى الناس جميعا بلا كتاب ولا نبي ولا رسول ولا دين.
هذه الصورة المثالية التي أرادها الله للمبلغ بالدرجة الأولى والهادي بالدرجة اللاحقة تجسد مبدأ ديني يعتبر من الأصول الكلية لقضية الإيمان بالدين وموقف الله منا، وهي حرية الخيار والأختيار مع تحمل النتائج على المستوى الشخصي، فمثلا قاعدة " لا تزر وازرة وزر أخرى" تجعل المسئولة الكلية والجزئية بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والغير وبين الإنسان وربه، مسئولية فردية شخصية محدودة بإطار الخيار ذاته، فالذين يحاولون تجاوز القاعدة الكلية " فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر " بحجج النسخ وبحجج التعديل اللاحق لها، لم يدركوا أو لم يؤمنوا بحقيقة أن الله عندما يصدر حكمه أو يفرض إرادته من خلال النص لم يترك للإنسان حرية أن بحذف أو يعدل أو حتى يفترض أن الله فعل ذلك، لأنه بصريح العبارة ومن مقدمة النص ذاته ورد القطع والجزم به ((وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ))، فإذا كان هذا المبدأ والقاعدة الكلية هي الحق من ربكم فهل عند الله الحق متبدل ومتغير والحكم في القرأن ((والحق أحق أن يتبع)).
هنا على العقل الديني وأقصد به الذي يبحث عن شكليات وأساسيات الإيمان الحقيقية والتي تتناغم مع طبيعة الدين الإرشادية الرافعة للسلوك البشري والصانعة فهما حقيقيا لدور الدين، أن يعيد قراءة النصوص وخاصة تلك المتعلقة بالتوصيفات التي تحدد الهوية الإيمانية للإنسان، فالله الذي جعل الدين والإيمان به تكليفا لا فرضا وهذا لا خلاف به في جميع المذاهب والأفكار الإسلامية، لا يمكن أن نحول التكليف الذي هو إشعار بأهمية التقيد بما يكلف به المؤمن بعد إيمانه بما كلف فيه، ولو كان الدين فرضا لم يكن هناك تكليف ولا أي درجة من درجات الحرية في الإيمان به، النص الخاص بالتكليف هو الذي يشرح لنا معناه ((لا يكلف الله نفسا إلا وسعها))، هذا الفهم المتعلق بالوسع والأتساع والقدرة على التحمل والأحتمال والقبول، يعطي لمسألة التكليف مساحة واسعة من الأحتلاف بدرجات التقيد والألتزام، وبذات الوقت ينفي عن الدين صفة الإلزام القهري، والدليل قوله (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وأيضا ورد في نص حاكم (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).
التحقق إذا من خلال النصوص القاطعة التي لا مساغ معها للاجتهاد كما قرر فقهاء العقيدة ذاتهم، يمنع على أي شخص إكراه أو إجبار أي إنسان على التعاطي الأعتباطي في قضايا الإيمان وفق إرادة المسيطر أو المصيطر، أولا هذا يخالف الفهم الكلي من حقيقة التكليف الذي هو مرتبط أصلا بالحق من ربك، الحق هو أن نضع الشيء في محله المفترض دون أن نتوقع ولو من باب الأحتمال أن المحل أو الشيء يفيض عن مقداره أو ينقص، الحق يعني المطابقة التامة والملائمة الطبيعية بين الشيء ومحلة، وثانيا عندما نفرض الإيمان كرها وسيطرة وتعصب فإننا بذلك نضرب موازين الحق ونتجاهل نجاح الأمر الذي نسعى لتطبيقه في ظاهر الحال، هذا التناقض بين الهدف والنتيجة تعرض الدين للأهتزاز وسوء الفهم وبما ينتج لنا إيمان شكلي خالي من روح الصدق والإخلاص له.
إذا علينا وكمقدمة لمواجهة التطرف والتشدد الذي يستند على فكرة السيطرة والإلجاء في فرض التكليف الديني هو محاربته في منابعه الفكرية والأيديولوجية والتربوية، من خلال ليس المواجهة بالقوة والعنف والإقصاء ولكن من خلال العودة للقراءة الجادة والحقيقية للنص القرآني بعيدا عن الأمزجة التسلطي القاهرة والتي تتصرف دوما بروح المنتصر في معارك غير متكافئة ولا إنسانية، إن للدخول في المعركة فكرية وعقائدية ضد التطرف الفكري والديني علينا أن نقتنع بأن التطرف ليس قدراً، إنه برنامج تعليمي وثقافي وتربوي وإعلامي مطلوب من قبل أيديولوجيات مشبوه هدفها سحق الإنسان بالدين لتفصل بينه وبين ربه، لذا أول ما يجب العمل عليه على المستوى الإسلامي هو التفكير في عقد ملتقى لمفكرين أحرار من مختلف التخصصات الدينية والفلسفية والاجتماعية والنفسية واللغوية والأمنية لمناقشة الخلل المزمن في العقل الديني عموما والمتطرف خصوصا وبكل جرأة وبدون مراعاة لأقوال أكتسبت قدسيتها أو تعظمت بعناوين أحترام وتعظيم وتقديس السلف الصالح أو إرث الفكر الإسلامي.
إن التطرف وفكر السيطرة والإلجاء الهري المسيء للدين ليس فقط في ممارسات الفئات العنفية المريضة نفسيا، بل نجده في البرامج التي تُدرس في مؤسسة الأزهر الشريف والحوزات الدينية ومعاهد تدريس الفقه وحتى في الأكاديميات التعليمية التي يفترض بها أن تقدم علما ومعرفة أخلاقية، فإذا لم نذهب مباشرة إلى تلك المؤسسات هي مراكز توزيع الفكر الإسلامي ومحاولة إصلاح العقل التدريسي والعقل المفكر فيها لا يمكننا أن ننجح في إعادة الألتزام بمبدأ وقاعدة وأصل أساسي ومحوري من أسس الدين وقوانينه (إنه الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، وإعادة النظر في ما يُقدَم لأجيال مطالبة بالعيش في زمن غير زمن غابر مليء بخلافات الأئمة وما نتج عن ذلك من سجالات، بذلك فأننا نورط الإنسان المسلم اليوم في أمور هامشية لا تساعد في تجديد نهضته ولا تحاول النهوض به من الكبوة التاريخية الطويلة التي عانى منها، مما تبعده عن صناعة مستقبل ناجح لبلده ولنفسه وتوصله إلى باب مسدود وإلى حيرة أيديولوجية ترمي به في فم الغول مباشرة، فم الغول الذي هو التطرف السياسي والديني.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جون مسيحة: مفيش حاجة اسمها إسلاموفوبيا.. هي كلمة من اختراع ا


.. كل يوم - اللواء قشقوش :- الفكر المذهبي الحوثي إختلف 180 درج




.. الاحتلال يمنع مئات الفلسطينيين من إقامة صلاة الجمعة في المسج


.. جون مسيحة: -جماعات الإسلام السياسي شغالة حرائق في الأحياء ال




.. إبراهيم عبد المجيد: يهود الإسكندرية خرجوا مجبرين في الخمسيني