الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كسوف الشمس في 27 يناير 632: في تاريخ القرآن وفي حياة محمد -2-

جدو جبريل
كاتب مهتم بالتاريخ المبكر الإسلامي والمنظومة الفكرية والمعرفية الإسلامية

(Jadou Jibril)

2023 / 3 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


حاول الباحث التونسي "مندر سفر" (1) استنادا على حسابات وتوجيهات عالم الفلك "باتريك روشيه" (2) - Patrick Rocher - تحديد الكسوف المعني بالأمر(3).
-----------------------
(1) - من مواليد تونس عام 1950 ، بذأ سنواته الأولى في دراسة التاريخ في كلية العلوم الإنسانية بتونس. في 1974 ، أجبرته محاكمة سياسية على الذهاب إلى المنفى الأول في باريس. في نهاية ثمانينيات القرن الماضي اهتم بمعالجة التحليل النقدي لـ "الأيديولوجية القرآنية" ، من خلال اكتشاف الروابط التاريخية والعضوية بين الفكر القرآني وثقافة بلاد ما بين النهرين القديمة ، مما أثار الكثير من التساؤل حول العقيدة السائدة، وحول خصوصية الثقافة العربية قبل وقت قصير من مجيء محمد. وقد خلص إلى القرآن يتقاطع مع منطقين قد يبدوان متناقضين. فمن ناحية، منطق الحرب: هذا ما نعته بالملحمة علاوة على هذا المنطق، هناك منطق آخر مختلف تمامًا: إنه المنطق التعاقدي: يسن الله للإنسان مجموعة من القواعد، أو مدونة يجب أن تحكم الأسرة، والحياة الاجتماعية والدينية. وفي نهاية الزمن، سيتم استدعاء الإنسان للمساءلة عما إذا كان قد التزم بهذه القواعد أم لا. يتجلى هذان المنطقان المتناقضان إلى حد ما في كل النص القرآني. و من ناحية السيرة الذاتية: فهي تعكس مرحلتين في الملحمة الإسلامية: من ناحية ، الحرب ضد "الدولة-المدينة المكية" إمرة القريشين الكافرين ، ومن ناحية أخرى ، إنشاء "مجتمع مسلم حضري في المدينة المنورة". هاتان هما الحركتان المؤسستان لنشأة التاريخ الإسلامي. والتفسير الآخر للبعد الأيديولوجي المزدوج هو: التعايش في البيئة العربية في زمن "ثقافتين": ثقافة المحاربين الرحل - culture nomade guerrière - warrior nomadic culture ، و"الثقافة المستقرة" - culture sédentaire - sedentary culture . وهذا ما يفسر الأهمية - في القرآن والسيرة النبوية – التي تحظى بها الغزوات التي قادها النبي محمد، والتي تشكل جزءً لا يستهان به من نصوص الحديث. وتابع سفر هذه الدراسة الأنثروبولوجية القرآنية بدراسة لتاريخ النص القرآني نشرت عام 2000 . وخلص إلى أن نص القرآن يمكن ويجب أن يكون موضوع مقاربة تاريخية منهجية من حقيقة الوحي إلى النص الذي وصل إلينا. في هذا المجال ، تجد العقيدة الإسلامية نفسها في موقف متناقض لا يمكنها الهروب منه: فهي من ناحية تقدم عقيدة الأصالة المطلقة للنص القرآني كما نزلت ووصلت إلينا ، من ناحية أخرى ، تقدم السردية الإسلامية وفرة من البيانات حول التعديلات التي خضع لها هذا النص المقدس. فمن ناحية ، يشير القرآن نفسه صراحةً إلى عدة طرق لتعديل نصه، و من ناحية أخرى ، يقدم القرآن حجة ساحقة بأن القرآن ليس سوى نسخة من نص سماوي أصلي حدده المصطلح المحدد "كتاب" (اللوح المحفوظ).
(2) - Institut de Mécanique Céleste et de Calcul des Éphémérides
(3) – من المعلوم اليوم أن مواقيت كل كسوف حدث في الماضي، أو سيحدث مستقبلا، معروفة لدى الهيئات العلمية ذات الاختصاص، (مثلا "ناسا" الأميركية، أدرجت في قوائم متاحة بلغات عدة لمن يرغب بالاطلاع عليها ( يمكن العثور عليها بسهولة عبر خانات البحث في مواقع التصفح - وأهمها "غوغل" الشهير-) لمعرفة تاريخ ومواصفات كل كسوف شمسي حدث وسيحدث، اعتماداً على حسابات دوران القمر حول الأرض ودورانهما معا حول الشمس. وتشمل معرفة تاريخ الكسوف في الماضي باليوم والساعة والدقيقة والثانية وأجزائها، أي اللحظة التي بدأ فيها القمر بالدخول في مسار أصبح معه بين الشمس والأرض ، فيحجبها بظله ، في كسوف يستمر عادة دقائق معدودات، ومن بعدها يعبر من موقعه في الفضاء، مفسحا المجال أمام الشمس لتشع على الأرض من جديد.
------------------------------------

وحسب العالم الفلكي الأميركي من "ناسا" الدكتور "فريد إسبيناك" (4) - fred Espenak - إن الكسوف الذي تمت رؤيته في مكة والمدينة، وفي يومه توفي إبراهيم، حدث في عاشر شهر من السنة العاشرة للهجرة، وبالذات صباح الاثنين 29 شوال، الموافق27 يناير 632 ميلادية وفقا لما جاء في حساباته عن كسوفات القرن السابع. وورد هذا في حساباته التي بينت أن كسوف سنة 632 م ظهر بسماء المدينة في السابعة و25 دقيقة صباح 27 يناير وغطى عند الساعة 8 و40 دقيقة 90 في المائة من قرص الشمس وانتهى الساعة 10 و15 دقيقة، لذلك كان كسوفا "حلقيا" أي ليس كاملا، وعاينه كل سكان الجزيرة العربية. وكانت أطول فترة تغطيته للشمس دقيقة و42 ثانية، وبعده شهد عام 632 ميلادية كسوفين آخرين: حلقي في 23 يوليو وجزئي في 17 ديسمبر، وهي معلومات واردة عن كسوفات القرن السابع، من 601 إلى عام 700 ميلادية، وخلالها حدث 251 كسوفا.
-------------------------------
( 4) - "فريد إسبيناك " عالم فلكي أمريكي متقاعد ، كان يعمل في مركز "جودارد" - لرحلات الفضاء - Goddard Space Flight Center - اشتهر بعمله على تنبؤات الكسوف. أصبح اهتم بعلم الفلك عندما كان عمره 7-8 سنوات ، وكان لديه أول تلسكوب عندما كان عمره حوالي 9-10 سنوات. كان يعمل في مركز جودارد لرحلات الفضاء ، حيث استخدم مطياف الأشعة تحت الحمراء لقياس الغلاف الجوي للكواكب في النظام الشمسي. قدم نشرات خسوف ناسا منذ عام 1978. وهو مؤلف العديد من الأعمال حول تنبؤات الكسوف، مثل قانون الخمسين عامًا للكسوف الشمسي: 1986-2035 - Fifty Year Canon of Lunar Eclipses: 1986-2035 – تعتبر أبحاثه مراجع قياسية للكسوف. نشر بمعية "جان ميوس" - Jean Meeus - ، "الألفية من الكسوف الشمسي في عام 2006 ، والذي يغطي جميع أنواع كسوف الشمس (الجزئي ، الكلي ، الحلقي ، أو الهجين) من 2000 قبل الميلاد إلى 3000 ميلادي ، و "الألفية من خسوف القمر" في عام 2009 ، والذي يسرد جميع خسوف القمر (شبه خسوف ، جزئي ، أو كلي) في تلك الفترة الزمنية. في وقت لاحق ، نشر كتابه الأكثر إحكاما "الألف عام من خسوف القمر 1501 إلى 2500" ، و " الألف عام لكسوف الشمس 1501 إلى 2500 " ، و"كسوف الشمس القرن الحادي والعشرين " كما ألف بمشاركة مع "مارك ليتمان" - Mark Littmann - و"كين ويلكوكسوف" - Ken Willcoxof - "كتاب شامل عن كسوف الشمس".
--------------------------------------------

قد تسمح هذه الحسابات بالتمييز بين بين الكسوف التسعة عشر التي تم تسجيلها في مكة والمدينة خلال حياة النبي محمد. في بداية غشت 612 م ، مع بداية الدعوة في مكة ، كان هناك كسوف للشمس بدأ في 6:48 مساءً (أول اتصال للقمر والشمس) ، ولكن بعد 13 دقيقة غربت الشمس ، لذلك ربما لم يكن المكيون قد لاحظوا هذه الظاهرة على الرغم من أن بداية الخسوف يمكن رؤيتها بالعين المجردة.

وبالمثل، في العام التالي، في 23 يوليو 613، تمكن المكيون من رصد أهم كسوف للشمس خلال حياة النبي. حدث ذلك في الساعة 7:17 صباحًا وانتهى في الساعة 9:51 صباحًا، ووصل إلى 93.4 في المائة من الظلام. لسوء الحظ ، نظرًا للوصول إلى هذا الحد الأقصى بعد حوالي ثلاث ساعات من شروق الشمس ، كان من الصعب ملاحظة هذا الكسوف بالعين المجردة. أما الظلام، فقد كان بالكاد محسوسًا، لأن 1 في المائة من الإضاءة الشمسية تعادل 100 ألف قمر. ويمكن قول نفس الشيء عن الكسوف المكية الثلاثة، الأقل أهمية الذي حدثت في 21 مايو 616 م، 4 نوفمبر 617 م، و 2 سبتمبر 620 م.

بعد هذه الفترة المكية، هاجر النبي محمد إلى المدينة المنورة في 622 م - نقطة البداية في التقويم الإسلامي - وهي بداية التقويم الهجري الذي يعني الهجرة (بالضبط يوم الجمعة 16 يوليو. ولم يحدث الخسوف الأول للعصر الإسلامي الذي يمكن ملاحظته في المدينة المنورة إلا بعد عامين، في 21 يونيو 624 م. لكن الغريب أنه كان له نفس المصير الذي حدث في أول كسوف مكي 612 م: لم يبدأ بالكاد ربع ساعة قبل غروب الشمس.

حدث الخسوف الثاني في المدينة ا في 21 أبريل 627 م، كان معاصرًا لمعركة الخندق حيث فشل المكيون المعادين للنبي في حصارهم للمدينة المنورة. لكن هذا الكسوف، أخفى فقط 5.4 في المائة من القرص الشمسي... لذلك كانت فرصة رؤيته بالعين المجردة ضئيلة للغاية.

بعد خمس سنوات، أي قبل وفاة النبي بأربعة أشهر وثمانية أيام، سيكون الخسوف الثالث والأخير من المدينة المنورة وبلا شك هو الوحيد الذي أمكن ملاحظته بالعين المجردة، وهو الخسوف الذي ذكره الكثيرون في المراجع الإسلامية التقليدية. وكان ذلك يوم الاثنين 27 يناير سنة 632 الموافق 28 من شهر شوال سنة 10 من الهجرة. بدأ كسوف الشمس في وقت مبكر جدًا من الصباح، في الساعة 7:30 و 19 ثانية صباحًا، ووصل الظلام بنسبة 76.6 في المائة كحد أقصى في الساعة 8:45: و57 ثانية صباحًا ، ليضيء تمامًا في الساعة 10:13: و52 ثانية صباحًا ، أي بعد ساعتين و 43 دقيقة من التطور.

نحن في الواقع أمام خسوفين متشابهين تقريبًا: خسوف 23 يوليو 613 م الذي بدأ بعد شروق الشمس بثلاث ساعات ، وخسوف 27 يناير 632 م ، بعد 21 دقيقة . إلا أن الروايات عن النبي محمد التي وصلتنا تخبرنا عن خسوف واحد «في عهد الرسول «، فأي خسوف هو: 613 أم 632 م ؟

إن الحسابات التي قام بها "باتريك روشيه" ، تفضي إلى أنه على الرغم سرعة خسوف 632 م ( اعتبارا لقربه من شروق الشمس) ، فلن يكون من السهل ملاحظته أكثر من الأول ( خسوف 613 م)، فالقاعدة تقول إن مراقبة الكسوف بالعين المجردة ممكنة فقط عند شروق الشمس أو غروبها ، وليس بين الاثنين. بالنظر إلى هذه الملاحظات، تظل الحقيقة أن ملاحظة الشمس أسهل في وجود السحب أو العواصف الرملية عندما يكون ارتفاعها أقرب إلى الأفق، وهذا هو الحال بالفعل بالنسبة لكسوف الشمس في 27 يناير 632 م.

مهما كان الأمر ، فإن أدبيات السردية والموروث الإسلاميين ، والأحاديث ، توفر لنا عددًا من القرائن التي تؤكد أن الكسوف الذي تحدث عنه الصحابة هو كسوف 27 يناير 632 م المشار إليه أعلاه.

لنلاحظ ، بشكل شامل ، بعض الدلائل على عكس ذلك ، لا سيما تلك التي روى عنها النسائي في سننه (صلاة الكسوف) ، مما جعل عائشة تقول إن الخسوف قد حدث أثناء الفترة المكية من حياة محمد ، أو أنه حدث في المدينة في يوم حار جدا. وهذا الخلط بين الأحداث ليس غريبا عما عودتنا عليه السردية والموروث الإسلاميين.

لسوء الحظ ، فإن القصص والروايات ، مع استثناءات نادرة جدا ، لا تقدم الكثير من التفاصيل عن ظروف الخسوف أو تاريخه المحدد أو الجزء من اليوم الذي حدث فيه والزمن الذي استغرقه. ومع ذلك، هناك استثناء مثير للاهتمام فعلا، لأنه يعرض لنا وصفًا دقيقًا للوقت الذي حدث فيه.

في سننه ، أورد أبو داود رواية على لسان صاحب النبي "سمرة بن جندب" (5) كما يلي:
حديث 1184 - حدثنا أحمد بن يونس ثنا زهير ثنا الأسود بن قيس قال حدثني ثعلبة بن عباد العبدي من أهل البصرة " أنه شهد خطبة يوما لسمرة بن جندب قال سمرة بينما أنا وغلام من الأنصار نرمي غرضين لنا حتى إذا كانت الشمس قيد رمحين أو ثلاثة في عين الناظر من الأفق اسودت حتى آضت - أي رجعت - كأنها تنومة - أي نبات لونه يميل إلى السواد - فقال أحدنا لصاحبه انطلق بنا إلى المسجد فوالله ليحدثن شأن هذه الشمس لرسول الله (ص) في أمته حدثا قال فدفعنا فإذا هو بارز - الذي في الرواية بارز والصواب بأزز أي بجمع كثير - فاستقدم فصلى فقام بنا كأطول ما قام بنا في صلاة قط ... فوافق تجلي الشمس جلوسه في الركعة الثانية قال ثم سلم ثم قام فحمد الله وأثنى عليه وشهد أن لا إله إلا الله وشهد أنه عبده ورسوله ثم ساق أحمد بن يونس خطبة النبي (ص) " - كتاب "السنن" الجزء الأول-

ونقل الإمام مسلم في صحيحه (كتاب الكسوف) روايات مشابهة منسوبة لنفس الصحابي باسم عبد الرحمن بن سمرة ولكن دون التفاصيل الفلكية التي تهمنا هنا.
---------------------------
(5 ) - (متوفي سنة 58 هـ) صحابي من صغار الصحابة، وأحد رواة الحديث النبوي. شارك في غزوة أحد بعد أن أجازه النبي للقتال، وشارك معه في عدة غزوات. وبعد الفتوحات الإسلامية، نزل البصرة، وأقام فيها. ولما ولي زياد بن أبيه البصرة والكوفة، استعان بسمرة ، فكان يستخلفه. ولما مات زياد استخلفه على البصرة، فأقره معاوية بن أبي سفيان عليها عامًا أو أقل، ثم عزله. وقد خلف سمرة بن جندب رسالة إلى بنيه تضمّنت أحاديث نبوية مُدوّنة.
-----------------------

يبدو أن شهادة ابن سمرة هذه حول موقع الشمس أثناء الكسوف تتفق مع حسابات "باتريك روشيه" بمكتب خطوط الطول في باريس والتي تعطي موقعًا للشمس عند 19 درجة فوق الأفق في الوقت الذي وصلت فيه إلى الحد الأقصى لـ"الظلام". لذلك فإن هذا هو المؤشر ربما الوحيد المهم لهذا النوع في هذا الكسوف الذي لدينا في السردية الإسلامية التقليدية. وتكتفي الروايات الأخرى بتحديد أن الحدث وقع في الصباح ، مثل رواية عائشة ، زوجة الرسول ، التي أكدت أنه شاهد الكسوف "في الصباح الباكر (الغادات) ، بينما كان يمتطي حصانًا.( "موطأ الإمام مالك" - المجلد الأول الجزء 12 الحديث رقم 3).

_____________________ يتبع _______________________








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما سبب الاختلاف بين الطوائف المسيحية في الاحتفال بعيد الفصح؟


.. نشطاء يهود يهتفون ضد إسرائيل خلال مظاهرة بنيويورك في أمريكا




.. قبل الاحتفال بعيد القيامة المجيد.. تعرف على تاريخ الطائفة ال


.. رئيس الطائفة الإنجيلية يوضح إيجابيات قانون بناء الكنائس في ن




.. مراسلة الجزيرة ترصد توافد الفلسطينيين المسيحيين إلى كنيسة ال