الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكر إنما أنت مذكر... ح 3

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 3 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في تقريع شديد اللهجة لمن لا يتذكر ولا يفهم ويتكبر ويتجبر على الوجود لا لشيء عنده أمام قدرة الله وجبروته إلا ما يرى في نفسه كند لله أو ظهير، فصار بذلك في قانون الله ممن يوصف بالمغرور الذي يكذب بالدين، وهنا ومن خلال النص وردت قضيتين مهمتين جديرتين بالتمعن و الأهتمام، الأولى كيف يكذب الإنسان بالدين وما هي الحالات أو الصور التي تعبر عن الكذب، الجواب في داخل النص وقد شرح النص تلك الصور من التكذيب والتي من خلال مفهومها نتحرى عن معنى الدين تحديدا، والثانية أنه جاء في النص بمعنى جديد لمفردة الدين، وقد عرف أيضا معنى يوم الدين أستنادا للمفهوم الأول، فلنقرأ النص جيدا لنفهم خطورة الموضوع المطروح فيه {يا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ* كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ الاَْبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ* يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ* وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ* ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} الأنفطار (6ـ19).
قراءة عقلانية ومنطقية ومن سياق السورة بمجملها ومن مجمل سياق القرآن الفكري النسقي الذي يستنبط من خلاله التحديدات والتعريفات والمعاني الكلية، بهذا يمكننا أن نجزم بكون معنى الدين هنا في هذا النص يتمحور خصوصا ويختزل في تحديده بمفهوم (الخلق كيفا وتكوينا وألية وسبب وعلة ونتيجة)، أي أن الدين عند الله التسليم بهذه الآلية وما ورائها من علات وأسباب وغايات وأهداف، وهو ما يعرف بالتسليم والإقرار بها على أعتبار أن التسليم هو غاية الدين وفحواه، فالدين إذا ليس هو مطلق العبادات ولا أشكال الطقوس ومظاهر التعبد، ولا حتى ينصرف المعنى إلى الألتزام الكامل بالأحكام التي ترد بالنصوص لوحدها، إنما الدين بشكل كلي وتمامي يبدأ وينتهي بأن لا يأخذك بالله الغرور فتتوهم أنك قادر على أن تفعل ما تشاء وكأن الرب لا يعنيه ما تفعله بنفسك وبالأخرين وبالوجود، لذا ورد التساؤل الأستنكاري في مقدمة التعريف تنبيها للمفصد ما بعده وحصره في هذه الدائرة المحددة، لتشير لخطورة الشعور وممارسة الغرور في تحطيم دين الإنسان، وما أخرج إبليس من طاعة الله ورحمته إلا الغرور وليس عدم الإيمان بالله.
إن النص القرآني هذا قد أضاف مفهوما جديدا غير معتاد لمعنى الدين، يسعى من خلاله إلى تأكيد خروج العقل من الدلالات التقليدية للمعنى نحو الكشف عن ما أسميته في بحوث أخرى الطبيعية الوجودية لمجمل الرؤية الحقيقية عند الله للدين، وقد بينت في تلك البحوث أن ما يسمى بسنن الله أو طريق الله أو بتحديد أدق إرادة الله ونهية التي هي مرتكز الفكرة الدينية عند الإنسان، إنما لو بحثنا في نهاياتها القصدية سنجدها في حقيقية القانون الوجودي الشمولي أو ما يعرف بالمعادلات الوجودية الشمولية الأساسية للوجود المادي، فالحفاظ على القانون المنشئ وأحترام الطبيعية فيه تمثل كلي لمعنى وجوهر الحق والعدل والخير والصراط المستقيم، فيما تمثل محاولات أنتهاك تلك القوانين والتجرؤ على محاربتها ومحاولة تغيرها وإفساد الحركة الكونية الوجودية تمثل الشر والباطل والحرام الديني، فمثلا لو قرأنا النص التالي الذي يمثل رؤية الله الطبيعية الوجودية (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس)، سنجد هذا المفهوم المادي الوجودي في عمق وصلب المنطق الديني الذي يحرص على محاربة الفساد من خلال نهي الإنسان عن عمله أو إحداثه نتيجة وجوده الطارئ فيه.
إن القراءة العميقة التأملية المسنودة بمعرفة واسعة بالعلوم الطبيعية التي تفسر وتعلل كل ما يحدث في الوجود ويضبط حركته، إنما تقدم لنا تفسيرات وأفاقا جديدة لفهم الدين ليس بالمعنى القديم الأصولي التقليدي، ولكن من خلال حقيقة أن الدين هو علم إجمالي غير تخصصي يريد الناص الديني منه ومنا أن نفهم وجودنا من خلال أدوات إدراكية ميسرة بعيدة عن جفاف القوانين والمعادلات العلمية صعبة الفهم، هنا الدين يقدم العلم بطبق ميسر سهل التناول وسهل الإدراك لغير المتخصص، في ذات الوقت يمنح العالم والباحث العلمي فرصة الأكتشاف والتبحر بالوجود وطبيعته وقوانينه دون أن يصطدم بالتناقض الذي أوقعنا فيه بعض الفقهاء، حينما جرو الدين للميتافيزيقيا رغم عن أنه أي الدين ليس ميتافيزيقيا بالطبع، هذا الكلام قد يثبر البعض ويستهجنه أخرون من كلا النقيضين العلمي المادي المجرد الذي يرى في الدين مجرد محاولة عقلية أولية وبدائية غير منطقية لفهم الوجود، بحجة أن الدين كمعرفة روحية تخاطب الغرائز الأساسية للحس الإنساني، التي تنحصر في الخوف من المجهول المسيطر ورائيا أو غيبيا، أو محاولة أسترضاء عوامل الخوف هذه والغربة في المجتمع الوجودي، وكأن الله هو مجرد شر يجب إجتناب إثارته كي لا ينتقم منا، هذا الموقف بكل تبريراته ليس موقفا علميا ولا أخلاقيا ولا منطقيا، تماما يشبه في عبثيته منطق العقل الديني التجريدي الذي يجعل من العلم وأدواته مجرد أدوات للشيطان ومحاربة الله.
عندما تطرق النص منذ البداية إلى قضايا الخلق والنشأة والتي أوجزها في (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ) في جوابه على السؤال الأستنكاري والذي أفتتح به المحاورة الوجودية (يا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ)، ومن الربط بين السؤال والجواب ومعرفة قوانين النشأة التي تقضي بحقيقة واحدة، هي أن كل المخلوقات الوجودية تتميز بالتمامية والكمال في طريقة العيش في الوجود، وأن كل كائن لا يجد في نفسه القدرة على التماهي مع قوانين الوجود يوف يغادره منقرضا لا محالة لأن لم يعد يلبي متطلبات تلك القوانين، فإشعار الرب للإنسان بهذا الحق وهذه الحقيقية هو مراد النص تماما بأنك ومع تمامية وجودك هذا من خلال الخلق والتسوية التي تعني قدرة المخلوق على التأقلم والأستمرارية الوجودية، إنما من المفترض أن تجعله يؤمن بقوانين ومعادلات الخلق المستحكمة والحاكمة التي تمثل إرادة الله ونهية في الفهم الديني، هذه مقابلة ومقاربة عملية تتوسط العلم والدين وتبلغ الإنسان على مختلف مستوياته الإدراكية، أنه كائن يجب أن يكون علميا عاقلا منطقيا حتى لا يكون كاذبا بالدين الذي يتخذه قربة وتزلف ومحاولة لأن يكون مستقرا ومتزنا وأجتماعيا، دون أن يغريه عامل القلق والخوف والشك في وجوده أو في علاقته مع الوجود كليا وجزئيا تفسيرا وتعليلا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جون مسيحة: مفيش حاجة اسمها إسلاموفوبيا.. هي كلمة من اختراع ا


.. كل يوم - اللواء قشقوش :- الفكر المذهبي الحوثي إختلف 180 درج




.. الاحتلال يمنع مئات الفلسطينيين من إقامة صلاة الجمعة في المسج


.. جون مسيحة: -جماعات الإسلام السياسي شغالة حرائق في الأحياء ال




.. إبراهيم عبد المجيد: يهود الإسكندرية خرجوا مجبرين في الخمسيني