الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نكبة الوزير أحمد بن عطية (ت553ه)

زهير شمشوب

2023 / 3 / 29
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


في التاريخ هناك الكثير من الأمثلة عن علاقات صداقة نشأت بين أمراء و سلاطين و بين كتاب و وزراء أو شخصيات من عامة الناس بل حتى مع بعض عبيد... قد تستمر هذه العلاقة ما لم يظهر موجب لقطعها، فيستفيد الطرف الثاني من كل الحظوة التي يوفرها القرب من السلطان، لكن بمجرد تسرب الظنون و الشك و التوجس المفروض بهواجس الحفاظ على السلطة، و تدخل الوشاة و الحاسدين؛ تنقلب المحبة إلى عداوة قاتلة، بل إن من السلاطين من قتل أباه و منهم من قتل أخاه عدا عن عمه أو خاله، من أجل الوصول إلى الحكم أو المحافظة عليه.
تتناول هذه الورقة حالة "الصداقة" التي جمعت بين الخليفة الموحدي العظيم عبد المومن بن علي الكومي، و كاتب من بقايا مخزن المرابطين، سرعان ما رقي إلى وزير و مستشار و نديم ثم مقتول على يد الخليفة، هو أبو جعفر أحمد ابن عطية.
و للتدليل على مستوى العلاقة التي جمعت بين الرجلين يمكن أن نسوق ما نقله الناصري في الاستقصا من أن الوزير كان ملازما للأمير في مجلسه و ممشاه، فبينما كانا في إحدى طرق مراكش أطلت جارية بارعة الجمال من شباك فقال عبد المومن:
قدت فؤادي من الشباك إذ نظرت
فقال الوزير مجيزا له:
حوراء ترنو إلى العشاق بالمقل
فقال عبد المومن:
كأنما لحظها في قلب عاشقها
فقال الوزير:
سيف المؤيد عبد المومن بن علي.
و جلي من هذا الموقف مستوى الانسجام بين الرجلين و اتفاق بديهة كليهما، و هو الانسجام الذي علق عليه صاحب الاستقصا بالقول: "لا خفاء أن هذه طبقة عالية"
يحيلنا هذا الموقف على موقف مشابه مشهور يبرز أثر الشعر و مكانته في الحياة الاجتماعية عند الأسلاف، فحادث المعتمد بن عباد مع جارية الرميك ليس ببعيد؛ إذ يروى أن المعتمد كان مع وزيره ابن عمار على شاطئ نهر قرطبة فلاحظ الأمير حركة مياه النهر فأنشد شعرا:
صنع الريح من الماء زرد و قال لوزيره: أجز، لكن الوزير ـ و هو الشاعر البارع ـ تلكأ، فقالت جارية كانت بالقرب منهما: أي درع لقتال لو جمد. لتكون هذه الاستجابة سببا في وقوع حبها في قلب الأمير الشاعر، فكان من قصتهما ما كان.
و لنرجع القول إلى صاحبنا الوزير أبي جعفر، هو الوزير أبو جعفر أحمد بن عطية من أهل مراكش، و أصله من طرطوشة بالأندلس، كان أبوه أبو أحمد بن عطية، كاتبا لعلي بن يوسف بن تاشفين اللمتوني، خامس أمراء دولة المرابطين، ثم لابنه من بعده تاشفين بن علي، سقط الأب في قبضة الموحدين فعفا عنه عبد المومن بن علي أول الأمر ثم عاد ليقته لما حاصر فاس سنة 540هـ.
كان ابنه أبو جعفر أحمد بن عطية، كاتبا لإسحاق بن علي اللمتوني آخر أمراء دولة المرابطين، بعد استيلاء الموحدين على مراكش 539هـ عفا عنه عبد المومن، و أدرجه في سلك الموحدين، لما قامت ثورة محمد بن هود السلاوي ضد الموحدين، و هي الثورة التي كادت أن تعصف بطموح الموحدين و أعيتهم، و هم المتوثبون للسيطرة على جميع المغرب الكبير، قرر عبد المومن أن يجهز جيشا ضخما للقضاء على الثورة، و جعل على رأسه الشيخ أبو حفص الهنتاتي أحد أهم أصحاب المهدي بن تومرت، و انخرط ابن عطية ضمن عناصر هذا الجيش.
التقى الجمعان برباط ماسة في ذي الحجة من عام 542 هـ و دارت بين الطرفين حرب شديدة، قتل فيها ابن هود، و فُضّت جموعه، و كان قاتله هو الشيخ أبو حفص رئيس جيش الموحدين فاستحق عندهم لقب سيف الله، تشبيها له بخالد بن الوليد.
فتح هذا النصر، باب السعد على مصراعيه للكاتب ابن عطية، لما كُلف بكتابة رسالة الفتح الموجهة إلى عبد المومن بمراكش، فأجاد في تحبير نصها أيما إجادة، و من بين ما جاء فيها قوله:
"كتابنا هذا من وادي ماسة بعد ما تجدد من أمر الله الكريم، فتحٌ بهرَ الأنوار إشراقا، و أحدق بنفوس المومنين إحداقا، و نبه للأماني النائمة جفونا و أحذاقا، و استغرق غاية الشكر استغراقا، فلا تُطيق الألسن لكُنه وصفه إدراكا و لا لحاقا، جمعَ أشتات الطلب و الأرب، و تقلب في النعم أكرم منقلب، و ملأ دلاء الأمل إلى عَقد الكَرَب.
فكانت رسالة بليغة، أورثت منشئها الرتبة العلية، و المنزلة السنية، ذلك أن عبد المومن لما وقف عليها استحسنها و وقعت منه موقعا كبيرا، فاستكتب صاحبها ابن عطية أولا، ثم استوزره، و سرعان ما ارتفعت مكانته و ظهر غَناؤه و كفايته و حمدت سيرته و إدارته، فقاد العساكر و جمع الأموال و بذَلها، و بَعُد في الدولة صيته، و نال من الرتبة عند السلطان ما لم ينله أحد في دولته، و تحبب إلى الناس بإجمال السعي و الإحسان، فكان يعطي و لا يبالي، حتى عمت صنائعه و فشا معروفه، و كان محمود السيرة مُبخَت المحاولات ناجح المساعي، سعيد المآخذ ميسر المآرب و كانت وزارته زينا للوقت و كمالا للدولة
لكن لم يكتب لهذه الحال دوام فكم أفسدت السعايات من ود قديم، و كم شوهت الوشايات صورة صديق حميم، فاستحالت المحبة عداوة، و تحول نعيمها إلى جحيم و شقاوة.
في سنة أحدى و خمسين و خمسمائة 551 هـ عَين عبد المومن ابن عطية ليكون وزيرا لابنه أبي يعقوب في إشبيلية، فلما غاب عن مراكش وجد "حسادُه" السبيل إلى التدبير عليه و السعي به، حتى أوغروا صدر الخليفة عليه، فجد الوشاة و الحساد في التماس عوراته و تشنيع سقطاته، و طرحت بمجلس السلطان أشعار تحذر منه و من غدره و تآمره، مما أوغر صدر السلطان على وزيره، و أضمر له في نفسه شرا فتربص به للفتك به و تنكيبه.
يحمل لنا المراكشي سبب تغير الخليفة عن وزيره، و يتعلق الأمر بسعي ابن عطية لدى صهره يحيى ابن الصحراوية، ذلك أن يحيى هذا كان أخا لزوجة ابن عطية و كان مقدما في قومه المرابطين و أبلى حسنا في حرب الموحدين إلى أن جعله الموحدون قائدا على قبيله من لمتونه لما اعترف بسلطة الموحدين، إلا أنه كانت تنقل عنه أقوال و أفعال تضرب في شرعية االموحدين و خليفتهم ف فبلغ أمر ذلك عبد المومن الذي هم بالقبض عليه، فكان تدخل أبي جعفر لدى صهره بأن دعا زوجته إلى أن تخبر أخاها أن الخليفة ينوي قتله، فإذا دعاه فليعتل و يتمارض، و إن استطاع الهروب إلى جزيرة ميورقة فليفعل، فبلغ الأمر عبد المومن فسارع بالقبض على يحيى فوضع في السجن إلى أن مات، و ظلت الحاشية و المقربون من الخليفة يتداولون تصرف ابن عطية هذا و يوغرون صدر الخليفة عليه، إلى أن انتهى ذلك إلى علم الوزير ابن عطية و هو بالأندلس، فقلق و عجّل الانصراف إلى مراكش، فلما وصلها حُجب عنه قومه، و اقتيد إلى المسجد حاسر العمامة، و نُبد الناس للحكم عليه كل بهواه، فأُمر بسجنه و معه أخوه أبو عقيل عطية.
استصحبه عبد المومن في زيارته لتربة إمامهم المهدي بتينمل بحال ثقاف مكبلا في الأغلال، فاجتهد الوزير المظلوم ابن عطية أثناء هذه الزيارة، عساه يحظى بعفو، فكان له من لطائف الآداب نظما و نثرا متوسلا بتربة المهدي، و كان له في ذلك عجائب، و مما خاطب به الوزير المذكور عبد المومن مستعطفا إياه، ما ورد في رسالة تغالى فيها فغالته المنية دون أن ينال الأمنية، إذ تجاوز فيها حد احترام جناب الإلوهية، و لم يحرص لسانه من الوقوع فيما يخدش في وجه فضل الأنبياء على غيرهم، و مما جاء في رسالته:
"تالله لو أحاطت بي كل خَطية، و لم تنفك نفسي عن الخيرات بَطية؛ حتى سَخرتُ بمن في الوجود، و أنفتُ لآدم من السجود و قلت إن الله تعالى لم يوحي في الفلك إلى نوح، و أبرمت لحطب نار الخليل حبلا و بريت لقدار ثمود نبلا ، و حططت عن يونس شجرة اليقطين، و أوقدت مع هامان على الطين، و قبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها، و افتريت على العذراء البتول فقذفتها، و كتبت صحيفة القطيعة بدار الندوة، و ظاهرت الأحزاب بالقصوى من العدوة، و أبغضت كل قرشي، و أكرمت لأجل وحشي كل حبشي، و قلت إن بيعة السقيفة لا توجب إمامة الخليفة، و شحذت شفرة غلام المغيرة بن شعبة، و اعتلقت من حصار الدار و قتل أشمطها بشعبة، و قلت تقاتلوا رغبة في الأبيض و الأصفر، و سفكوا الدماء على التريد الأعفر، و غادرت الوجه من الهامة خضيبا، و ناولت من قرع سن الحسين قضيبا، ثم أتيت حضرة المعصوم لائذا، و بقبر الإمام المهدي عائدا، لأذن لمقالتي أن تسمع، و تُغفَر لي هذه الخطيئات أجمع، مع أني مقترف، و بالذنب معترف.
و السلام على المقام الكريم، و رحمة الله تعالى و بركاته.

فانظر إلى مستوى المغالاة الذي وصل إلى درجة الهذيان بغريب الفكر و القول الضارب في أصول و مسلمات لا يقول بها إلا مشرك، فهذا ابن عطية يجعل تراب قبل المهدي شفيعا له حتى و إن كان هو القائم بكل معاصي السابقين منذ بدأ الخليقة، منها فعل إبليس اللعين و قتل الانبياء و محاربة رسول الله و قتل صحابته و الصالحين من الامة، كل تلك معاصي قال بها ابن عطية، و نسبها لنفسه مجتهدا في تحسيناتها البيانية، ظنا منه أن إعجاب عبد المومن ببلاغته ـ كما كان سببا في سعده مبتدءا ـ سيكون سببا في عتقه خبرا، لكن هيهات، فقد كان المكتوب هذه المرة سببا في التعجيل به إلى حتفه، إذ بمجرد عودة عبد المومن إلى مراكش، أنفذ الأمر بقتل ابن عطية و أخيه بتاكمارت ـ مكان جنوب مراكش ـ في شوال 553 هـ .
رسالة الفتح كما كتبها بن عطية موجهة إلى عبد المومن:
"كتابنا هذا من وادي ماسة بعد ما تجدد من أمر الله الكريم، فتحٌ بهرَ الأنوار إشراقا، و أحدق بنفوس المومنين إحداقا، و نبه للأماني النائمة جفونا و أحذاقا، و استغرق غاية الشكر استغراقا، فلا تُطيق الألسن لكُنه وصفه إدراكا و لا لحاقا، جمعَ أشتات الطلب و الأرب، و تقلب في النعم أكرم منقلب، و ملأ دلاء الأمل إلى عَقد الكَرَب.
فتح تفتح أبواب السماء له و تبرز الأرض في أثوابها القشب
و تقدمت بشارتنا به جملة، حين لم تعط الحال بشرحه مهلة، كان أولئك الضالون قد بطروا عدوانا و ظلما، و اقتطعوا الكفر معنى واسما، و أملى الله تعالى لهم ليزدادوا إثما، و كان مقدمهم الشقي قد استمال النفوس بخزعبلاته، و استهوى القلوب بمهولاته، و نصب له الشيطان من حبلاته، فأتته المخاطبات من بُعد و كثب، و انسلت إليه الرسل من كل حدب، و اعتقدته الخواطر أعجب عجب، و كان الذي قادهم إلى ذلك، و أوردهم تلك المهالك، وصول من كان بتلك السواحل، ممن ارتسم برسم الانقطاع عن الناس، فيما سلف من الأعوام، و اشتغل على زعمه بالقيام و الصيام، آناء الليالي و الأيام، لبسوا الناموس أثوابا، و تدرعوا الرياء جلبابا، فلم يفتح الله تعالى لهم للتوفيق بابا".
و منها في ذكر الماسي الثائر: "فصرع بحمد الله تعالى لحينه، و بادرت إليه بوادر منونه، و أتته وافدات الخطايا عن يساره و يمينه، و قد كان يدعي أنه بُشر بأن المنية في هذه الأعوام لا تصيبه، و النوائب لا تنوبه، و يقول في سواه قولا كثيرا، و يختلق على الله تعالى إفكا و زورا، فلما رأوا هيئة اضطجاعه، و ما خطته الأسنة في أعضائه و أضلاعه، و نَفَذ فيه من أمر الله تعالى ما لم يقدروا عل استرجاعه، هزم من كان لهم من الأحزاب، و تساقطوا على وجوههم تساقط الذباب، و أعطوا على بَكرة أبيهم صفحات الرقاب..."








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفاوضات القاهرة بين الموقف الاسرائيلي وضغط الشارع؟


.. محادثات القاهرة .. حديث عن ضمانات أميركية وتفاصيل عن مقترح ا




.. استمرار التصعيد على حدود لبنان رغم الحديث عن تقدم في المبادر


.. الحوثيون يوسعون رقعة أهدافهم لتطال سفنا متوجهة لموانئ إسرائي




.. تقرير: ارتفاع عوائد النفط الإيرانية يغذي الفوضى في الشرق الأ