الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مواجهة الإستعمار في ظل التفكير الإسلامي المعاصر

ابراهيم محمد جبريل
الشاعر والكاتب والباحث

(Ibrahim Mahmat)

2023 / 3 / 29
السياسة والعلاقات الدولية


صورة أهداف تفكير الشيخ محمد عبده، يقول الشيخ محمد عبده، وارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين:
- الأول: تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفها إلى ينابيعها الأولى، واعتباره -الدين- ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه وتقلل من خلطه وخبطه. وقد خالفت في الدعوة إليه رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منها جسم الأمة: طلال علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن هو في ناحيتهم،
أما الأمر الثاني: فهو إصلاح اللغة العربية.
وهناك أمر آخر: كنت من دعاته، والناس جميعا في عمى عنه، وبعد عن تعقله، ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية، وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه، وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب، وما للشعب من حق العدالة على الحكومة، نعم كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها. دعوناها إلى الاعتقاد بأن الحاكم -وأن وجبت طاعته- هو من البشر الذين يخطئون، وتغلبهم شهواتهم، وأنه لا يرده عن خطئه، ولا يوقف طغيان شهوته إلى نصح الأمة له بالقول والفعل!
جهرنا بهذا القول، والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس كلهم عبيد له، أي عبيد! نعم، إنني في كل ذلك لم أكن الإمام المتبع، ولا الرئيس المطاع!! غير أني كنت روح الدعوة، وأصبت نجاحًا في كثير مما عنيت به، وأخفقت في كثير مما وجهت عزيمتي إليه، ولكل ذلك أسباب: بعضها مما غرز في طبعي. وشيء منها مما دار حولي)(محمد البهي، بدون ت ص97)1
محمد عبده في طريق جمال الدين: لم يشذ الشيخ محمد عبده في حركته الفكرية، عن أن يسير في ذات الطريق الذي سلكه جمال الدين الأفغاني، ولا عن الغاية التي وضعها هدفا له. كما اعتمد على نفس السند الذي اعتمد عليه أستاذه من قبل، وليس من شك في أن الشيخ محمد عبده واحد من أولئكم الزعماء الذين وصفوا بالزعماء الوطنيين. وهم في واقع الأمر زعماء مقاومة الاستعمار الغربي، ومعارضة النفوذ الأجنبي في دائرة العالم الإسلامي العربي!! وهو لا يقل في التأثير على التوجيه القومي عن مواطن معاصر له مثل مصطفى كامل، صاحب تلك الحركة التي اتجهت إلى مقاومة الاستعمار الإنجليزي مباشرة في مصر، ورئيس الحزب الوطني السياسي في السنوات العشرة الأخيرة، من حياة الشيخ محمد عبده.
وإذا كان الشيخ محمد عبده قد ابتعد في الفترة الأخيرة من حياته التي تزعم فيها مصطفى كامل الحركة الوطنية في مصر، وإذا كان لم يشاركه في التوجيه السياسي القومي ضد الاستعمار الغربي في ذلك الوقت، مؤثرا تركيز نشاطه الخاص في الجانب العلمي والديني. فإن ابتعاده عن مجال هذا التوجيه السياسي القومي طوال هذه الفترة لا يحول دون أن يؤرخ له كصاحب دور رئيسي في توجيه الحركة الوطنية المصرية، التي برزت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
أما سبب اعتكافه وتوفره على الجانب العلمي والديني، فلعله رأى أن العمل في هذا الجانب ليس متوفرًا لكثير من أصحاب النشاط في الجانب القومي والسياسي إذ ذاك، لعدم توسعهم الكافي والعميق في فهم المبادئ الإسلامية، والمصلحة الوطنية نفسها تقضي عندئذ بتوفره هو على ذلك. أو لعله رأى من تجاربه في الصراع الوطني السابق على الاحتلال البريطاني الرسمي 1882م. ومن اختلافه مع عرابي وبعض رفاقه في طريقة الصراع وأسلوب الكفاح،) (محمد البهي، بدون ت ص98)2 أن الأولى له -لعدم تبديد نشاطه وقوته- أن يتوفر على الجانب الذي توفر عليه أخيرًا، وهو الجانب الإسلامي الفكري والتربوي، ومنذ هذا الحين الذي اعتزل فيه الشيخ عبده الإسهام في قيادة الجانب القومي وترك الزعامة فيه لغيره، واحتضن الجانب الإسلامي -تفكيرا، وتعليما، وإحياء- منذئذ عرف في تاريخ الحركات الإسلامية في العالم العربي خاصة، أن لكل من الجانبين: الوطني والديني زعماء باشروا قيادته وتوجيهه:
- عرفت للشيخ محمد عبده مدرسة، وعرف له أتباع وتلاميذ.
- كما عرف لـمصطفى كامل أنصار وأشياع.
ولكن هذا الفصل بين الجانبين، يرجع إلى تنظيم الجهود الوطنية في مقاومة الاستعمار الغربي، أكثر من أن يهدف إلى تحديد مناطق نفوذ بأن تكون للدين منطقته وللسياسة منطقتها، ولم يعرف لأي اتجاه قومي أصيل في العالم العربي خاصة، منذ أخريات حياة الشيخ محمد عبده حتى الآن، أنه يحاول قصر الإسلام على ضمير الفرد وإبعاده من علاقة الفرد بالفرد في الجماعة، أو في علاقة الأفراد بالدولة، أو في علاقة الدول بعضها ببعض! ولقد أسس مصطفى كامل حركته لمقاومة الاستعمار البريطاني في مصر على أمرين رئيسيين: - على خلق الوعي الوطني.
- والوعي الإسلامي، وكان من رأي مصطفى كامل أن التعليم العالي، والتعليم الجامعي على الأخص، هو وسيلة إيجاد الوعي الوطني.
أما إيقاظ الشعور الإسلامي، وربط مصر بالعالم الإسلامي الخارجي على أساس من التذكير بتعاليم الإسلام، فقد وكل أمره إلى الصحافة. على أن تسهم أيضا في تقوية الوعي الوطني المصري، وقد اختلف مصطفى كامل مع الشيخ محمد عبده فترة من الوقت. ولكن لم يكن مرجع هذا الاختلاف إلى أن الشيخ عبده كان يدعو إلى التمسك بالإسلام ويدعو إلى العودة للقرآن على نحو ما دعا؛ بل لأنه توفر على ما سماه بـالإصلاح الديني، وابتعد كلية عن الإسهام في التنوير السياسي العالم
- وإن الحركة القومية التي عرفت في مصر سنة 1919 برئاسة سعد زغلول إنما نشأت ونمت داخل جدران الأزهر، واعتمد خطباؤها على المنابر في المساجد، والمجتمعات العامة السياسية، كما اعتمد كتابها في الصحافة على كثير من آيات القرآن. وهي الآيات التي تنصح بالتعاون والتماسك، وتدعو إلى نبذ ولاية الأجنبي، ومقاومة نفوذه في التوجيه، وتصريف شئون الجماعة الإسلامية، كما أن مقاومة السلطة البريطانية المنتدبة من قبل عصبة الأمم في جنيف بعد الحرب العالمية الأولى على العراق وفلسطين، تأسست على تمجيد الإسلام، والدعوة إلى التمسك به في مقاومة النفوذ الأجنبي. وقد كان مفتي فلسطين -في ذلك الوقت- رمز الزعامة الوطنية السياسية الفلسطينية!، وكذلك صدرت مقاومة النفوذ الفرنسي في سوريا الممثل في سلطة الانتداب أول ما صدرت عن الجامع الأمور في دمشق، وقاد علماء المسلمين هناك المظاهرات الشعبية ضد هذا النفوذ وتولوا الكتابة عنه في الصحف!)(محمد البهي، بدون ت ص99)3
ومع ذلك فقد وضح في تاريخ الاتجاهات الفكرية داخل العالم العربي في النصف الأول من القرن العشرين أن هناك فصلا -في الظاهر على الأقل- بين النشاطين: القومي السياسي في الحركات الإسلامية لمقاومة الاستعمار الغربي بعد جمال الدين الأفغاني، بتأثير من جمال الدين نفسه، فإن الشيخ محمد عبده بتوفره على ما عرف منسوبا إليه باسم الإصلاح الديني قد خلق مدرسة.. مدرسة فكرية، ودينية، وعلمية، وتربوية تتجه لمقاومة الاستعمار الغربي نفسه اتجاها غير مباشر، ولا تقل وزنا في تحقيق هذا الهدف عن ذلك النشاط القومي السياسي) (محمد البهي، بدون ت ص100)4
الشيخ محمد عبده القروي، المصري، الأزهري: عرفت بيئة الشيخ محمد عبده في القرية بأنها بيئة الرجل الفقير.. وعرفت قريته بأنها مثل من الأمثلة العديدة لمستوى الحياة المصرية الخالصة، وهي حياة الكادحين المكروبين المستذلين، والمؤمنين بالله، الذي يرون في الآخرة العوض لهم عن حياتهم الحاضرة نشأ الشيخ عبده في هذا الجو. واتصل في تربيته بـكتاب القرية ثم بالأزهر. وكتاب القرية والأزهر، كلاهما يعني بالإسلام الأول يعنى بتحفيظ القرآن وهو المصدر الأول للإسلام، والثاني يعنى بتدريس شروح القرآن وبمدارس المسلمين الفقهية والكلامية والأصولية، كما يعنى باللغة العربية في قواعد إعرابها وفي وصف أسلوبها، والأزهر في عنايته بالمعرفة الإسلامية التي تدور حول القرآن الكريم، إنما كان يعنى بها على النحو الذي وصلت إليه هذه المعرفة في الحلقة الأخيرة من تاريخ الفكر الإسلامي والتأليف العربي:
- منحى الجدل العقلي، الذي يجري لأجل الدربة الذهنية، أكثر من استخدامه لمعرفة قيمة الحجة.
- ومنحى المناقشات اللغوية التي تدور حول اللفظ أو التركيب المفرد. أكثر مما تدور حول المعنى والهدف العام للأساليب!!
- وهو منحى التزام أحكام فقيهة خاصة صدرت في وقت معين من مؤلفين معينين، أكثر من التزام منهج لتقدير هذه الأحكام ثم البناء عليها! وبحكم ظروف خاصة بالشيخ عبده، أضاف إلى هذا اللون من المعرفة -في تنشئة نفسه- لونا آخر تأتى له عن طريق خال والده الشيخ درويش خضر. ذلك الشيخ الذي اتصل بـالزاوية السنوسية وتعلم فيها وسيلة صفاء القلب، وعرف عن طريقها ما يجب أن يتبع في فهم الإسلام)( (محمد البهي، بدون ت ص101 )5
وذلك بالاحتكام إلى القرآن والسنة الصحيحة، وعدم التعصب لما سواهما من أقوال أرباب المدارس والشروح والمؤلفين المسلمين، وهذا الذي كان يمارسه الشيخ درويش خضر من الإسلام العملي، وما كان يعرفه من الإسلام، ومن مقاييس فهمه، هو ما يعرف بالنظام الصوفي الفكري الإسلامي للسنوسي الكبير وهو نظام يهدف إلى سمو الروح، وتهذيب النفس، وتوكيد أواصر الأخوة الإسلامية، وإجادة فهم الإسلام، بهذين اللونين من المعرفة: ما كان عن طريق الأزهر، وما كان عن طريق الزاوية السنوسية ... تكونت لدى الشيخ محمد عبده:
- معرفة عقلية للإسلام - ومباشرة عملية لتهذيب النفس - ثم تقدير للثقافة الإسلامية القائمة في الأزهر إذ ذاك- وفي ضوء ذلك كله ابتدأ -بعد تلمذته على الشيخ خضر- يتخير أساتذته في المرحلة الأخيرة من مراحل دراسته في الأزهر- فتخير الشيخ حسن الطويل لدراسة الفلسفة السينائية، والمنطق الأرسطي- والشيخ محمد البسيوني لدراسة الأدب العربي- وبعد أن علم بقدوم جمال الدين الأفغاني إلى القاهرة اتصل به، وصحبه في مجالسه وندواته، وجمال الدين هو السياسي الثائر على استعمار الغرب للبلاد الإسلامية- وكما ابتدأ يتخير أساتذته بين علماء الأزهر ابتدأ ينقد الطابع العام لتفكير رجال الأزهر، وكتب الدراسة فيه، وطرق التدريس المتبعة هناك- وباتصاله بجمال الدين الأفغاني ابتدأ يدرك الحالة الداخلية في مصر: من سوء معاملة الحكومة للفلاحين، ومن الاستبداد السياسي القائم في الحكم. وهي حالة انطبعت في نفسه منذ أن نشأ في قريته. ولكنه ربما لم يستطع أن يدركها، ويعبر عنها تعبيرا واضحا قبل أن يتصل بجمال الدين. وباتصاله بجمال الدين، ابتدأ يدرك أيضا زيادة على ذلك: التعقيد السياسي والاقتصادي في مصر، وتسرب النفوذ الأجنبي في المشاكل المصرية، وتسربه باسم الإصلاح القومي، أو باسم المصلحة الأوروبية!!
وهكذا جمع الشيخ محمد عبده في معرفته:
- بين بيئة القرية، وبيئة المدينة التي هي مقر الحكم في مصر.
- وبين المعرفة العقلية، والتهذيب الروحي الصوفي المتزن.
- وبين تفكير القرون الوسطى والتفكير المعاصر في وقته.
- كما عرف الجمود في التفكير، والثورة فيه.
ولقد حرص الشيخ عبده على ماضيه.
كما حرص على أن يعيش في حاضره، ولكن على سند من الماضي وفي أسلوب الحاضر.
الشيخ محمد عبده المفكر:
تناول الشيخ محمد عبده في تفكيره عدة جوانب رئيسية:
- الجانب القومي والوطني.
- والجانب الاجتماعي.
- وجانب الاعتقاد.
- وأخيرا ... الجانب التربوي والتوجيهي العام.
الجانب القومي: تناول محمد عبده في الجانب القومي: حدود الوطن، وضرورة شعور المواطن بوطنه، والصلة الوثيقة بينهما يقول: وجملة القول إن في الوطن من موجبات الحب والحرص والغيرة، ثلاثة تشبه أن تكون حدودا:
- الأول: إنه السكن الذي فيه الغذاء، والوفاء والأهل، والولد.
- الثاني: إنه مكان الحقوق، والواجبات التي هي مدار الحياة السياسية وهما حسيان ظاهران.
- والثالث: أنه موضع النسبة التي يعلو بها الإنسان ويعز، أو يستغل ويذل.. وهو معنوي محضا
ثم يستطرد فيقول:
ولقد كان بعض الناس يحاولون خلع الشعار الوطني عن ذوي الحقوق والواجبات في مصر، وإلباسهم جميعًا لباس الجهالة والذل ولكن اتجاه الفكر الإسلامي منذ بداية القرن العشرين:
منذ نهاية القرن التاسع عشر.. بعد وفاة جمال الدين الأفغاني، وبعد أن توفر الشيخ محمد عبده على ما سماه الإصلاح الديني، وبعد أن ظهر مصطفى كامل كزعيم لحركة المقاومة السياسية.. اتجه الفكر الإسلامي المقاوم للاستعمار الغربي هنا في رقعة الشرق الأدنى إلى شعبتين:
- الشعبة الأولى: اتجهت إلى التعبئة الروحية والإصلاح، عن طريق عرض الإسلام عرضا واضحا، والعمل على جعله أساسا في التربية الوطنية، وسبيل ذلك إصلاح الأزهر، وإحياء الكتب القديمة.. وقد مثلت المدرسة السلفية التي قادتها مجلة المنار هذه الشعبة بعد وفاة الشيخ محمد عبده.
- والشعبة الثانية: اتجهت إلى تعبئة الحماس القومي في الجيل الناشئ، عن طريق: الصحافة، والاجتماعات العامة، ثم عن طريق تأسيس الجامعة المصرية، بسعي من مصطفى كامل نفسه.
ففكرة الجامعة المصرية وجدت أولا لخدمة القضية المصرية، وهي قضية التحرر من الاستعمار الغربي، وتفكير الجامعة، هو نوع من التفكير يتجه إلى مقاومة الاستعمار الغربي عن طريق تخريج أحرار في التوجيه غير خاضعين لنظام التعليم الرسمي إذ ذاك، وهو نظام وضعه الاحتلال البريطاني، ولم تزل رواسب هذا النظام باقية في اتجاه المدرسة المصرية إلى وقت قريب، ورؤي إذ ذاك -لتحقيق هدف الجامعة أن يبعد بها عن الطابع الرسمي والإشراف الحكومي، وأنشئت بهذا الطابع سنة 1908م، واستمرت بعيدة عن الإشراف الحكومي فترة طويلة من الزمن، إلى أن ضمها علي ماهر في سنة 1925م إلى التعليم الحكومي، على أن يحتفظ باستقلالهاوفي جو الجامعة وفي داخل الاتجاه السياسي القومي الذي يعد متوازيا مع اتجاه الإصلاح الديني، إذ كلاهما يهدف إلى مقاومة الاستعمار الغربي، في هذا وذاك، قام ما يعرف بـالتجديد والمجددين، أو ما يصح أن يطلق عليه: الفكر الإسلامي المغرب Westernized إنه ذلك الفكر في المجتمع الإسلامي الذي يسير في اتجاه الفكر الغربي، أو بمعنى أدق ذلك الفكر الذي يسير إما في اتجاه الاستشراق وتوجيه الدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية، أو في الاتجاه الطبيعي العلمي هناك)(محمد البهي، بدون ت ص155)6
يقول المستشرق الإنجليزي جب في تحديد هذين الاتجاهين: إن النتائج التي أعقبت نشاط الشيخ عبده اتجهت بعده إلى اتجاهين متقابلين: فمن جانب نشأ محيط مدني في التفكير: صور على أنه التجديد وهو يقوم على الاحتفاظ بالعقيدة الإسلامية، ولكنه متأثر في قوة بالأفكار الغربية.. والمثل التقدمي لهذا التجديد يميل إلى العلمانية التي تهدف إلى فصل الدين عن الدولة، والاستعاضة بالنظام الغربي للقانون عن الشريعة الإسلامية، وقد طبقت مبادئ العلمانية في تركيا بعد إلغاء الخلافة العثمانية في سنة 1924م ... وفيما عدا تركيا من البلاد الإسلامية يجد هذا الاتجاه سندا قويا له، ولكن مع موقف معتدل بعض الاعتدال من المؤسسات والتقاليد الإسلامية، ومهما كانت نظرات المشجعين للعلمانية في البلاد الإسلامية إلى القانون والسياسة، فموقفهم التوجيهي يمكن أن يخلص: في الرفض العام لتعاليم القرون الوسطى في الإسلام! كسلطة لا تعقيب عليها، وفي الاحتفاظ بالحرية الإنسانية في تقدير الأشياء، وفي كون العقل وحده هو الفيصل في ذلك وليس الإسلام! ومن جانب آخر تكون حزب ديني، يسمي نفسه بـالسلفية، وهو يتفق مع الاتجاه العلماني في رفض سلطة تعاليم القرون الوسطى، ولكن مع قبول القرآن والسنة، كأساس للفصل في الحقائق الدينية.وهؤلاء السلفيون في مقابل المجموعة العظمى من علماء الأزهر يعتبرون مصلحين، وفي مقابل المجددين أو العلمانيين: يرفضون مذهب الحرية العقلية الذي هو وليد الغرب.. وكان زعيم هذا الاتجاه الإصلاحي السلفي تلميذ الشيخ عبده محمد رشيد رضا السوري الذي توفي سنة 1935م فالتجديد إذن -في رقعة الشرق الأدنى- منذ بداية القرن العشرين: هو محاولة أخذ الطابع الغربي، والأسلوب الغربي في تفكير الغربيين، سواء في تعبيرهم عن الدين، أو في تحديدهم لمفاهيمه ومفاهيم الحياة التي يعيشونها، أو في تقديرهم للثقافات الشرقية الدينية والإنسانية: يقول صاحب مستقبل الثقافة في مصر:
فهي -أي: مصر- إنما أنشأت تلك الجامعة لترتفع بالشباب المصري عن ذلك التعليم الآلي الذي فرضته عليهم الظروف، ولترقى بهم إلى تعليم حر مستقل، يهيئهم أو يهئ بعضهم على )(محمد البهي، بدون ت ص156)7
الأقل ليكونوا علماء أحرارًا مستقلين! والظاهر أن مصر لا تريد أن تعبث ولا أن تهزل حين تقرر أنها تريد أن يكون من شبابها علماء أحرارًا مستقلون، يشبهون أمثالهم في الأمم الأخرى، ويثبتون لهم، ويشاركونهم في الإنتاج العلمي الحر المستقل الذي لا تقوم الحضارة بدونه، ولا تستطيع أن تثبت ولا أن تنمو إلا إذا اتخذته لها أساسًا! كما يقول: الجامعة تمثل العقل العلمي، ومناهج البحث الحديثة، وتتصل اتصالا مستمرا بالحياة العلمية الأوروبية، وتسعى إلى إقرار مناهج التفكير الحديث شيئا فشيئا في هذا البلد!! وصاحب مستقبل الثقافة في مصر يذهب في طلب الأخذ عن الغرب وسلوك طريقهم في البحث والتعليم إلى أن يبتدأ بذلك منذ مرحلة التعلم الثانوي ولهذا يوصي بتعليم اللغتين اللاتينية واليونانية في مرحلة هذا التعليم قبل الجامعة ضمانا لمساوقة الغرب والسير معه في اتجاه واحد؟! ويرى أن ما سلكه الغرب، يجب أن تسلكه مصر في طريقها التجديدي ...
ومن ذلك تعليم اللغتين اللاتينية واليونانية في التعليم الثانوي، قبل العالي؟
يقول: إذا كان كل هذا حقا، فليس على مصر إلا أن تنظر إلى الأمم الحية الراقية: كيف تسلك طريقها إلى تكوين العلماء الأحرار المستقلين، ثم تسلك نفس هذا الطريق التي تسكلها هذه الأمم
إن التعليم العالي الصحيح لا يستقيم في بلد من البلاد الراقية إلا إذا اعتمد على اللاتينية واليونانية على أنهما من الوسائل التي لا يمكن إهمالها ولا الاستغناء عنها، فدرس اللاتينية واليونانية في الجامعة لا يغني عن درسها في المدارس العامة بل استلزاما
وقد أوضح المؤلف مرة أخرى معنى هذا التجديد في موضع آخر:
ولكن السبيل إلى ذلك واحدة فذة ليس لها تعدد ... وهي: أن تسير سير الأوروبيين ونسلك طريقهم، لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة: خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب، فإذا كنا نريد هذا الاستقلال العقلي والنفسي، الذي لا يكون إلا بالاستقلال العلمي والأدبي والفنى، فنحن نريد وسائله بالطبع.. ووسائله:
أن نتعلم كما يتعلم الأوروبي، ولنشعر كما يشعر الأوروبي، ولنحكم كما يحكم الأوروبي، ثم لنعمل كما يعمل الأوروبي، ونصرف الحياة كما يصرفها!
فتجديد الفكر في المجتمع الإسلامي هنا، دعوة إلى مسايرة الأوروبيين: في تفكيرهم وفي خطواتهم في الحياة، وفي فصل الدين عن السياسة، وفي إبعاد الدين واللغة عن مجال الترابط ، ومن المحقق أن تطور الحياة الإنسانية قد قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين، ووحدة اللغة لا تصلحان أساسا للوحدة السياسية، ولا قواما لتكوين الدول والأساس الذي قامت عليه فكرة التجديد على هذا النحو، عند صاحب مستقبل الثقافة في مصر هو أن العقلية المصرية عقلية أوروبية، أو قريبة قربا شديدا من الأوروبية، ولها اتصال وثيق بالعقلية اليونانية، وبعيدة كل البعد عن العقلية الشرقية؟! وهي منذ قديم الزمان -منذ العهد الفرعوني- لم تتأثر بالطارئ عليها في أي عصر، فلم تتغير بالفرس ولا بالرومان، ولا بالعرب أو الإسلام ... يقول: وأنا -من أجل ذلك- مؤمن بأن مصر الجديدة لن تبتكر ابتكارًا، ولن تخترع اختراعًا، ولن تقوم إلا على مصر القديمة الخالدة الفرعونية! فالمسلمون إذن فطنوا منذ عهد بعيد إلى أصل من أصول الحياة الحديثة. وهو: أن السياسة شيء والدين شيء آخر، وأن نظام الحكم وتكوين الدول فإنما يقومان على المنافع العملية، قبل أن يقوما على شيء آخر) (محمد البهي، بدون ت ص157)8
صور اتجاه حماية الاستعمار بصفة عامة: اتجاه حماية الاستعمار، اتخذ صورتين:
- صورة محلية: نشأت وتبلورت داخل الشعوب الإسلامية أنشأها ونماها مفكرون من المسلمين أنفسهم.
- وصورة أخرى تكونت في الخارج: قام بها القساوسة الغربيون، وأصحاب الدراسات السامية اللغوية والدينية التي عنيت بدراسة العهدين: القديم والجديد التوراة والإنجيل وما يتصل بهما من فروع علمية في الجامعات الغربية.
وهاتان الصورتان ليستا منفصلتين إلا في ظاهر الأمر فقط، وواقع الحال أن الصلة بينهما وثيقة، وان إحداهما تعتبر مرآة للأخرى، أو أن إحداهما تعتبر عاملا محركا والأخرى نتيجة لها.
ومن المفكرين المسلمين الذي يمثلون الصورة الأولى من هاتين الصورتين: الزعيم الإسلامي في الهند، السير سيد أحمد خان كما يمثلها من العقائد الإسلامية التي جدت -كأثر لتوجيه الاستعمار الغربي- مذهبا القاديانية والأحمدية في الهند أيضًا.
والدعوى التي ادعاها السيد أحمد خان باسم الإصلاح والتقدمية تعتبر مقدمة وتمهيدا لنشأة القاديانية، تلك العقيدة التي تفرع عنها فيما بعد، ذلك المذهب الذي يعرف بالأحمدية.
الصورة الثانية: من صورتي اتجاه حماية الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية: يحكمها عمل المستشرقين، وتصوراتهم للإسلام وشرحهم لمبادئه، وبعثهم لخلافات المسلمين الماضية، وخلقهم خلافات أخرى لا يلتفت إليها المسلم، بعد ما صهر الإسلام علاقته بأخيه المسلم، وكون منها وحدة عديدة الحلقات والروابط.
عمل الدارسين للإسلام من المستشرقين على نزعتين رئيسيتين:
وينطوي عمل الدارسين للإسلام من المستشرقين على نزعتين رئيسيتين:
- النزعة الأولى: تمكين الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية، وتمهيد النفوس بين سكان هذه البلاد لقبول النفوذ الأوربي والرضاء بولايته.
- النزعة الثانية: الروح الصليبية في دراسة الإسلام، تلك النزعة التي لبست ثوب البحث العلمي، وطلاها خدمة الغاية الإنسانية المشتركة)(محمد البهي، بدون ت ص 43)9
النزعة الأولى: النزعة من حماية الاستعمار، أما مظهر النزعة الأولى فيتجلى:
أولا: في إضعاف القيم الإسلامية.
ثانيا: في تمجيد القيم الغربية المسيحية.
- وإضعاف القيم الإسلامية: عن طريق شرح تعاليم الإسلام ومبادئه شرحا يضعف في المسلم تمسكه بالإسلام، ويقوي في نفسه الشك فيه كدين، أو على الأقل كمنهج سلوكي يتفق وطبيعة الحياة القائمة، فهذا رينان الفرنسي ،. يصور عقيدة التوحيد في الإسلام بأنها عقيدة تؤدي إلى حيرة المسلم، كما تحط به كإنسان إلى أسفل الدرك، على حين أن عقيدة التوحيد مزية الإسلام، وآية على أنه الرسالة الكاملة الواضحة لخالق الكون في كونه، كما أنها الطريق السليم والوحيد إلى رفع شأن الإنسان وتكريمه؛ لأن صاحب هذه العقيدة لا يخضع في حياته لغير الله، ولا يتوجه في طلب العون إلى غير الله سبحانه وتعالى.
ولكن رينان يقول، متحدثا عن عقيدتي القدر والاختيار: المسائل الأساسية في كل دين هي التي ترتبط بالقدر، والمغفرة والحساب وهي كلمات ثلاثة مصبوغة بصبغة دينية تلقي في النفس الاعتقاد بوعورة المسلك في تفهمها. مع أنها من الأمور التي ينبغي الوقوف عليها والعلم بها مهما صعب منالها وتعذر مرامها. إن الدين هو الوسيلة التي تمهد للإنسان طريق الوصول إلى الحضرة الإلهية، أو بعبارة أخرى الواسطة في وقوف المخلوق بين يدي الخالق إذا تقرر ذلك، فهل الخالق بقدرته المطلقة يودع في نفس المخلوق استعدادا للعمل بمقتضى إرادته السرمدية، بحيث لا يحيد عما تأمره به هذه الإرادة؟ أم للإنسان متى تم خلقه إرادة خاصة يعمل بحسبها، الخلافات الدينية والفلسفية: تنحصر الخلافات الدينية والفلسفية التي لم يوفق دين من الأديان ولا مذهب فلسفي إلى حسمها بكيفية يقتنع بها الإدراك ويرضاها العقل، ومع أن البحث فيها لإصابة هذا الغرض السامي لم يكن بالأمر الحديث، إذ طالما بحث فيها فلاسفة الأقدمين فلم يجدوا لها حلا، وكان حظهم منها كحظ فلاسفة المتأخرين وعلمائهم(محمد البهي، ص 43)10
وغاية ما عرف منذ الأعصر السابقة إلى الآن أنه وجد مذهبان تشاطرا فيما بينهما العقائد البشرية من تلك الوجهة المهمة: فالأول منهما يقول بتناهي الربوبية في العظمة والعلو وجعل الإنسان في حضيض الضعف ودرك الوهن، ويذهب الثاني إلى رفع مرتبة الإنسان وتخويله حق القربى من الذات الإلهية بما فطر عليه من إيمان وإرادة وبما أتاه من أعمال صالحات وحسنات.
والنتيجة الطبيعية للاعتقاد بمذهب الفريق الأول هي: تحريض الإنسان على إغفال شئون نفسه وبث القنوط في فؤاده وتثبيط همته وإيهان عزيمته، بينما تسوقه نتيجة الاعتقاد بمذهب الفريق الثاني إلى ميدان الجلاد والعمل وتلقي به في غمرات التنافس الحيوي، ومن الأمثلة على الفريقين: البوذيون الذين يتدينون بدين يقضي عليهم بالتجرد. إذ من قواعده أن الإنسان والكون يفنيان في الذات الإلهية ،. وقدماء اليونان الذي يدينون بدين من قواعده تشبيه الإله بالإنسان في أوصافه المادية، ويقضي عليهم هذا الدين بالعمل والحياة لاعتقادهم بأن الإنسان أو البطل يمكنه أن يصير في عداد الآلهة بحسناته وخيراته، وقد ظهرت على أطلال العالم القديم بعد خمسمائة عام من انقضائه ديانتان: إحداهما ربانية، والثانية بشرية، تمثلان ذينك المذهبين المتناقضين، ولكن بتلطيف في التناقض،
أما الأولى الديانة الربانية: في الديانة المسيحية الوارثة بلا وساطة آثار الآريين والمقطوعة الصلات بالمرة مع مذهب السامية وإن كانت مشتقة منه وغصنا من دوحته، ومن خصائص هذه الديانة المسيحية ترقية شأن الإنسان بتقريبه من الحضرة الإلهية، على حين أن الديانة الثانية البشرية وهي الإسلام، المشوبة بتأثير مذهب السامية، تنحط بالإنسان إلى أسفل الدرك وترفع الإله عنه في علاء لا نهاية له، هذان الميلان المختلفان يظهران ظهورا واضحا في الاعتقاد الأساسي لكلتا الديانتين: وهو أصل الألوهية، أما المسيحي: فيذهب في الأصل إلى الثالوث أي: إن الإله الأب أوجد الإله الابن واتصل الاثنان بصلة هي روح القدس، وعليه فكون يسوع المسيح إلها وبشرًا،هذا الثالوث السري، المشتقة أصوله من ضرورة إله بشري يمحو ذنب الجنس البشري ويفديه من الخطيئة التي اقترفها: يرفضه المسلم الذي يعتقد بوحدانية الرب، ويتمسك بهذا الاعتقاد تمسكا شديدًا حيث يقول: لا إله إلا الله!! غير أن إدراك المسيحيين من هذا القبيل هو أخف وأعلى وأجلب للثقة، إذ هو يحملهم على إتيان الأعمال التي تقربهم إلى الله حيث الوسائط بينهم وبين ذاته العلية موصولة، في حين أن المسلمين تجعلهم ديانتهم كمن يهوي في الفضاء بحسب ناموس لا يتحول ولا يتبدل ولا حيلة فيه سوى متابعة الصلوات والدعوات والاستغاثة بالله الأحد الذي هو مستودع الآمال! ولفظة الإسلام معناها: الاستسلام المطلق لإرادة الله)(محمد البهي، ص 44)11
ترى الديانتين، أو بعبارة أخرى المدنيتين: المسيحية والإسلامية، إحداهما بإزاء الأخرى، وتتصل الاثنتان بعضهما ببعض من حيث المنشأ العام لهما إذ هما مشتقتان من الأصول اليونانية والسامية، ومنهما استمدتا جانبا من العقائد والمذاهب والآداب، فهما إذن متداخلتان من وجوه عدة، ولكن مسافة الخلف بينها شاسعة في الحقيقة: من حيث البحث في القدرة الإلهية والحرية البشرية كتب هذا رينان في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وكان يظن أن العقلية العلمية أو الطريق العلمي -الذي تدعي العقلية الغربية المعاصرة أنه من مفاخر القرن العشرين؛ لأنها تزعم أنها لا تخضع في بحث المسائل، وإصدار الأحكام لأثر حزبي أو مذهبي أو عاطفي، أو نحو ذلك مما يتأثر بها الإنسان العادي أو البدائي في أحكامه- كان يظن أن هذا القرن العشرين لا يصدر فيه تصوير مثل تصوير رينان للتثليث المسيحي مرة، وللتوحيد الإسلامي مرة آخرى!
ولكن مجلة The Muslim World2 تردد هذا المعنى في شرح آية {إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) فتقول ما ترجمته: إن إله الإسلام متكبر جبار مرتفع عن البشرية يطلب أن يسير العابد نحوه بينما إله المسيحية عطوف متواضع يتودد للناس، فظهر في صورة بشر -وذلك هو الإله الابن- فعقيدة التثليث في المسيحية قربت الإنسان من الإله: وأعطته نموذجا رفيعا واقعيا في حايته يسعى ليقترب منه ، أما عقيدة التوحيد فباعدت بين الإنسان والإله، وجعلت الإنسان متشائما من شدة الخوف منه، ومن جبروته وكبريائه، وهذا مبدأ الزكاة. يفسره مستشرق على النحو الآتي:
إن الأموال المادية - في نظر الإسلام- هي من أصل شيطاني نجس ويحل لمسلم أن يتمتع بهذه الأموال شريطة أن يطهرها، وذلك بإرجاع هذه الأموال إلى الله، ويظهر أن الشارح أخذ من قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) 2 أي: إن الأموال نجسة في أصلها، وإذن فالزكاة وسيلة تطهيرها وبذلك فهم التطهير فهما حرفيا أو حسيا!
وهذا الفهم الذي ذكره صاحب هذا الكتاب لمعنى الزكاة هنا، وبالتالي لموقف الإسلام من المال
على أنه رجس، يردده غيره من المسيحيين القائمين على الدراسات الإسلامية في الوقت الحاضر، ففي العدد رقم 80 للسنة الثامنة والثمانين لصحيفة The Montreal Star بتاريخ 5 إبرايل سنة 1956م، تحدث أب دومنيكاني يقيم في مصر -وكان يقوم بإلقاء محاضرات عن علم الكلام الإسلامي بجامعة منتريال- عن النظرة الإسلامية في الحياة فقال: إن المسلمين يتجنبون الناس الذي يشتغلون بالمال، ويعتبرونهم أقرب للكلاب منهم للبشر
ومثل هذا التصوير لموقف الإسلام من المال، في شعب كالشعب الأميريكي مادي النزعة، يسيء للإسلام والمسلمين أيما إساءة.
ويشرح الاستشراق المبدأ الإسلامي عن الزوجية -وهو مبدأ قوامة الرجل على المرأة- بفكرة التفوق Superiority ويجعل منه أمارة على نظرة الإسلام إلى وضع كل من الرجل والمرأة في الحياة، فهو يسمو بالرجل إلى ذروة الرفعة بينما يهبط بالمرأة إلى هاوية الضعة!! أما طاعة المرأة للرجل فتعرض على أنها نوع من الإزلال، وسبب لغرض الرق والعبودية على نصف البشرية ،. إلى غير ذلك مما يترتب على هذا الشرح المغرض.
ويفترض اللورد كرومر في كتابه مصر الحديثة: أن الرجل المسلم يتمسك بالإسلام أشد من تمسك المرأة المسلمة بالإسلام! ويعلل هذا الافتراض -على أنه ظاهرة في الحياة الإسلامية- بأنه
يرجع إلى اختلاف وضعية كل من الرجل والمرأة في الإسلام، على النحو المشار إليه من قبل. ويشرح المستشرقون مبدأ الإسلام في عدم قبول المسلم لولاية الأجنبي بفكرة عدم التعاون مع
الشعوب الأخرى، أو بفكرة النفرة من رياسة غير المسلم ولو كان ذا كفاية أو أهلية للرياسة والتوجيه أكثر من المسلمين أنفسهم!
أما الجهاد: فهو عند هؤلاء فكرة الاعتداء نفسها، أعطاها الإسلام صبغة شرعية ودينية، كي يدفع بها السلم لمهاجمة غير المسلم في وقت أمن فيه على نفسه وعرضه وماله! إنها فكرة الغدر أو تشجيع العدوان، ولهذا الشرح أثر سيئ إلى أقصى حد في علاقة الشعوب الغربية بالمسلمين، وفي تصورهم لحياة المسلم وأهدافه في الحياة، وهكذا يرى القوم في مبدأ عدم زواج المسلمة بغير المسلم فكرة العنصرية القائمة على تمييز الشعوب بعضها على بعض، بدافع العصبية الكريهة أو بدافع الغرور، دون أن يكون هناك مبرر واقعي أو منطقي لهذا التمييز!)(محمد البهي، ص 47)12
فكرة العودة إلى القرآن الكريم: وفكرة العودة إلى القرآن الكريم. التي نادى بها ابن تيمية، وتابعه فيها غيره من المصلحين بعده ،. لدفع ما ساد من عصبية جاهلية للمذاهب الكلامية والفقهية، وما ترتب على ذلك من انقسام المسلمين إلى طوائف انقساما واضحًا! نادى ابن تيمية بها تطبيقا لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) 1. وهذه الفكرة ترمي في نظره أولا إلى عدم تحكم الخلافات المذهبية والشروح العديدة المختلفة لتعاليم الإسلام من ظاهرية وباطنية وصوفية وفقهيه إلى غير ذلك في توجيه المسلمين، وترمي ثانيا إلى العودة إلى صفاء التعاليم الإسلامية وبساطتها قبل تعقيدها بالشروح المغرضة أو القائمة على تعسف وعدم استقامة في تخريجها ،. وبهذا وذلك مكن للجماعة الإسلامية أن تعود إلى الوحدة أو على الأقل إلى التماسك أو عدم التضارب في الآراء والسياسة.
ولكن المستشرقين عندما وقفوا على هذه الفكرة ورأوا أثرها الإيجابي في حياة الجماعة الإسلامية المقبلة لو سارت في طريقها الصحيح المرسوم لها، مالوا بها عن هذا الطريق، وشرحوها بأن معنى العودة إلى القرآن وإلى عصر الصحابة الأول -رضوان الله عليهم- هو الرجوع إلى الحياة البدائية التي كانت للجماعة الإسلامية الأولى: فهي عندهم ليست سوى جماعة بدائية! ثم تراهم
ينكرون على من يقول بهذه الفكرة أن يدعو إلى الإصلاح، إذ الإصلاح في نظرهم هو التطور،
هو الأخذ بأساليب المدنية الحديثة والقوانين المعاصرة وأسلوب الحكم الحديث، فإذا طلب إنسان العودة إلى العهد البدائي والأساليب البدائية باسم الإصلاح، فهو إما مدع للإصلاح، أو غير فاهم لمعنى الإصلاح وإذا ترك أصحاب الدراسات الإسلامية من المستشرقين دائرة شرح المبادئ الإسلامية بما يحرفها ويشوه هدفها على هذا النحو، فإنهم يتركونها إلى جانب آخر رئيسي في الحياة الإسلامية وفي صلات المسلمين بعضهم ببعض، إنهم يتركون هذه الدائرة لينتقلوا إلى مجال العلاقات بين الشعوب الإسلامية، ليذكوا الفرقة القائمة، وليثيروا أسباب أخرى للقطيعة وعدم الاتصال)(محمد البهي، ص 48)13
فيتحدثون عن الكرد والعرب في العراق، وعما بين الجنسين من فوارق في تصور الحياة وفهم العقيدة والأماني القومية. وعلى هذا النحو يتحدثون عن المفارقات بين العرب والبربر في شمالي إفريقيا، وبين سكان الشمال وسكان الجنون في السودان، وبين السنة والشيعة في بغداد أو في إيران والبلاد الإسلامية الأخرى، وعلى الأخص يتحدثون عن العداء بين شعب الجزيرة العربية، وما يسود فيها من مذهب محمد بن عبد الوهاب من جانب، وشعبي العراق وإيران وما يسود فيهما من اتجاه شيعي من جانب آخر، يتحدثون عن الفجوة بين الحكومات والسياسات في الدول الإسلامية ،. إلخ إلخ.
وإذا أكدوا ذلك باسم علم الأجناس، أو باسم طبيعة الشعوب، فإنهم يخلقون هوة أخرى في الإسلام باسم تباين البيئة الجغرافية والعوامل الثقافية القديمة للشعوب الإسلامية، فالإسلام في نظرهم ليس واحدا وإنما هو متعدد، كان واحدا أيام الفترة البدائية -هكذا يقولون- التي نزل فيها الوحي وتوقف فيها المسلمون عن الشرح وسلموا أمرهم لمبدأ التفويض وركزوا جهودهم للإيمان والطاعة، ولكن بعد أن تدخل المسلمون بالشرح، وأدخلوا ثقافتهم القديمة ونزعاتهم الموروثة في شرح القرآن وتعاليم الإسلام، لم يعد الإسلام دينا واحد، بل هو ديانات إسلامية متعددة، وكلها ديانات ليس لها الطابع الإسلامي بل ليس لها الاعتبار الديني الإسلامي كذلك فهناك إسلام الهند، وإسلام تركيا، وإسلام البربر في شمالي إفريقيا، وإسلام مصر، وإسلام الملايو، وإسلام أندونيسيا وإسلام الصحراء الكبرى وإفريقيا السوداء، وكل إسلام يختلف عن الآخر، ولكل اعتباره، والجميع مسلمون، وأفهامهم في الإسلام أفهام صحيحة، إذ كلهم أخذ بالمصادر الإسلامية وآمن بالرسالة
المحمدية هكذا يستطرد منطقهم.
وفي هذا الشرح يدخل -بجانب إيجاد ثغرات وفجوات بين المسلمين بعضهم البعض عامل آخر: وهو عامل التأثر بالمسيحية وبالاتجاه المسيحي. فكثير من العلماء المسيحيين يرون أن المسيحية دين فردي، أو دين شخصي، أو أنه يتكيف حسب الفرد ويتأثر بشخصه، أي: ليست المسيحية دينا يتكون من مبادئ، وإنما هي شعور فردي، وإحساس شخصي بالأصول المقدسة. إن الوحي المسيحي ليس كتابا يتلى ويشرح، بل هو عيسى نفسه تستحضر صفاته ويقتدى به في نفس المؤمنين حسب اختلافهم في إدراك هذه الصفات، وحسب اختلافهم في تحديدها، فالمسيحية -لأنها إحساس وشعور فردي- ليست واحدة في التصور والتبعية، ومع ذلك فالمؤمنون بعيسى جميعا مسيحيون مهما اختلفوا فيما بينهم)(محمد البهي، ص 49)14
وبهذا التصور للمسيحية تأثر هؤلاء في الحكم على الإسلام: وبهذا التصور للمسيحية تأثر هؤلاء في الحكم على الإسلام، بالإضافة إلى الرغبة في إضعاف القيم الإسلامية وتفريق المسلمين، ولذلك لم يروا أن تاريخ الجماعة الإسلامية هو تاريخ لعلاقة المسلمين في أزمنتهم المختلفة بالإسلام الذي تحددت أصوله واستقرت مبادئه بانتهاء الوحي المحمدي: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا) ولم يفهموا أن الزمن الذي يمر بالمسلمين هو زمن يمر على علاقتهم بالإسلام أو الحكومة، ولو وجد اليوم بين الكتاب المسلمين من يقرر أن الإسلام بعيد عن أن توجد فيه هيئة للإرشاد الديني توفرت على دراسة الإسلام؛ لأنه دين شخصي لا هيمنة فيه لشخص على آخر، لو وجد في هذا النوع من الكتاب لم يكن إلا مرددا لفكرة دعا إليها الاستعمار وتسربت من الفهم المسيحي بوساطة بعض الدارسين للإسلام من المستشرقين.
- أن فكرة إبعاد الإسلام عن مجال العلاقات بين الأفراد ،. من وحي الاستعمار.
- وأن فكرة توقيت الجهاد بعهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعهد صحابته، أو فكرة إلغائه اليوم ،. فكرة استعمارية.
- وأن فكرة أن الظروف الدولية تدعو المسلم إلى الولاء لغير المسلم، وإلى رضائه بحكومته فكرة استعمارية.
- وأن فكرة أن الإسلام نفسه يتجدد ويخضع لعامل الزمن في تطوره ،. فكرة استعمارية.
وتستتبع هذه الفكرة عدم التقيد بتعاليم الماضي جملة في تكييف الحاضر.
- وأن فكرة أن الإسلام -كدين- يتعدد بتعدد شعوبه وأجناسه، بتعدد مصادره فكرة استعمارية.
- وأن فكرة أن الإسلام دين فردي شخصي لا يصح أن يتدخل في علاقات الأفراد بعضهم ببعض، فكرة مسيحية استعمارية، وهي تستتبع ما يقال من وجوب الفصل بين ما يسمى دينا وبين ما يسمى دولة.
- وأن تأسيس مبدأ الإسلام في عدم زواج المسلمة بغير المسلم على فكرة العنصرية، ومبدأ الجهاد في سبيل الله على نزعة الميل إلى الاعتداء والغزو، ومبدأ قوامة الرجل على المرأة في الأسرة على فكرة التفوق الجنسي، وأمثال ذلك من صنع الاستعمار، وأثر من آثار التمهيد
الرضاء بحكمه، بعد ضياع الشخصية الإسلامية، وصهر مجموعة الشعوب الإسلامية فيما يسمى بالعالمية أو الإنسانية الدولية، هذا بعض ما كان من شأن إضعاف القيم الإسلامية والتيئيس من التضامن والتكتل الإسلامي، كمظهر من مظهري النزعة الأولى في الفكر الإسلامي في صلته بالاستعمار الغربي، وهي نزعة تمكن للاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية) (محمد البهي، ص 51)15
أما المظهر الآخر لهذه النزعة: وهو مظهر تمجيد القيم الغربية المسيحية في الفكر الإسلامي الحديث نتيجة لصلته بالاستعمار الغربي. فالسبيل إلى الوقوف عليه ما تراه من إبراز التفوق الغربي في الصناعة، وزيادة الدخل الخاص والعام الناشئ عن هذا التفوق ،. تلك الزيادة التي ترتب عليها رفع مستوى المعيشة وتيسير أمر الحياة الإنسانية لدى الغربيين.
هذا التقدم الصناعي هو المنفذ، أو النقطة التي يبتدئ منها الغربيون في التدلل على رجاحة التوجيه الغربي، وعلى سمو مقاييس الحياة الغربية في السلوك الفردي والعادات الاجتماعية، وعلى أصالة القيم المسيحية، وقوة صلتها بتحرير الإنسان من الجهل والفقر والمرض، وقوة صلتها كذلك بانطلاق الإنسان في الحياة من غير خوف أو وجل!
والحضارة المادية الصناعية ،. هي إذن عنوان هذه القيم!! ومنطق ذلك: أن تخلف المسلمين في مجال هذه الحضارة دليل على تخلف الإسلام في قيمه ومبادئه، وعلى إذلاله الإنسان، وتقييده في السير في هذه الحياة، طبقا لعقيدة الجبر فيه! ما هي القيم المسيحية ذات الأثر الإيجابي في هذه الحضارة الصناعية؟ أين هذه المبادئ والقيم المسيحية في عرف كثير من هؤلاء العلماء الدارسين للثقافة الإسلامية؟ ليست إلا شخص عيسى يستوحي منه السلوك الخلقي في هذه الحياة، فليست هناك صلة بين المسيحية كدين وبين هذه الحضارة الصناعية الغربية المادية: إلا أن المباشر لهذه الحضارة يعتنق المسيحية وينتسب إلى الشعوب المسيحية، وليست المسيحية دينا للحضارة الإنسانية، وإنما هي دين للسلوك الفردي في الحياة الإنسانية)(محمد البهي، ص 52)16
النزعة الثانية من حماية الاستعمار: أما النزعة الثانية في دراسة الغربيين للإسلام والثقافة الإسلامية، وهي تأكيد الروح الصليبية فتتضح أيما وضوح في كتابة المستشرقين الفرنسيين! فكتاباتهم لا تنبئ فحسب عن ميل لإضعاف المسلمين، بل تنم عن حقد على المسلمين، وعن سخرية وتهكم برسول الله -صلى الله عليه وسلم، ورسالته الإلهية.
نعم ،. قام أساس الاستشراق على أن الإسلام من صنع محمد، فالإسلام دين بشري، وعلى أن الرسول لفق فيه من المسيحية واليهودية، وأنه حرف في نقله تعاليم هاتين الديانتين؛ إما لأنه لم يستطع فهمها كما يذكرون؛ وإما لأن نفسه لم ترتفع إلى مستوى عيسى حتى يتصوره على حقيقته، ولذلك أنكر محمد على عيسى أنه ابن الإله، وبالتالي أنكر التثليث، وتشبث بالتوحيد وببشرية الرسول. نعم: قام الاستشراق على مثل هذا الأساس، ولكن المستشرقين يختلفون فيما بينهم في تصوير آرائهم، وفي تقرير شروحهم لمبادئ الإسلام، وأشدهم حدة وعاطفة وهوى جامحا، وحيدة عن أدب الكتابة، فضلا عن البعد عن الأسلوب العلمي في الدراسة والحكمة، مستشرقو فرنسا، ومستشرقو الكثلكة على العموم في أوروبا وأمريكا.
هذا الاتجاه من اتجاهي الفكر الإسلامي الحديث في صلته بالاستعمار الغربي: هو الاتجاه الممالئ للاستعمار والممهد لحكمه والرضاء به، سواء أكان من المسلمين أنفسهم أو من غيرهم؛ لأن تفكير غير المسلمين في هذا الاتجاه لم يبق منفصلا ولا بعيدا عن العقلية الإسلامية داخل البلاد الإسلامية. بل كان أهم رافد لتبلور هذا الاتجاه نفسه بين المسلمين، وأن الحديث عن
الاستشراق إذن هنا حديث عن خطر نفذ إلى المسلمين، ووجد أعوانا له من أرباب الفكر والقلم والعلم والسياسة في الشعوب الإسلامية ،. ويكاد يكون هو العامل الموجه لما نسميه بـالفكر الإسلامي الممالئ للاستعمار الغربي هناك مصدر آخر لم أشأ الحديث عنه الآن.
أنه كتب الرحلات التي كتبها الرحالون المسيحيون المتجولون في الديار الإسلامية، فهذه الكتب كتبت بأسلوب تهكمي، وروح قصصية اختراعية، تغذي خيال الشعوب المسيحية الغربية والأمريكية، ولها أثرها السلبي في تصوير الإسلام والمسلمين كمظهر داخل البلاد الإسلامية بالفكر الإسلامي واهية)(محمد البهي، ص 55)17
اتجاه مقاومة الاستعمار الغربي: لم يستطيع الاستعمار الغربي أن ينفرد بالتوجيه داخل الشعوب الإسلامية، رغم ما بذله في سبيل تفرده بذلك من مال وسلطة ودهاء في السياسة، وتبشير بالفكر الأوروبي وبالمسيحية، وتيئيس للمسلمين في صور شتى: في مستقبلهم، وفي علاقتهم بإسلامهم، بل وجد مقاومة له ومعارضة لذلك الاتجاه الفكري الذي خلقه أو أوصى به.
أخذت المقاومة للاستعمار الغربي طابعا سياسيا: أخذت المقاومة للاستعمار الغربي طابعا سياسيا، ولكن قامت على توجيه إسلامي وعلى فكر إسلامية أصيلة. وتكون من هذا التوجيه، وهذه الفكر الإسلامية الأصيلة معا، ما نسميه: بالاتجاه الفكري الإسلامي المقاوم للاستعمار الغربي، ولكان لا بد لهذا الاتجاه أن ينقد الاتجاه الآخر المقابل له، وينقد عناصره الفكرية: سواء من الوجهة المنطقية الإنسانية، أم من الوجهة الإسلامية، وفي الوقت الذي يقوم فيه بالنقد كان لزاما عليه كذلك أن يعرض خطة عملية لمقاومته، ومقاومة الداعين له والمساعدين على الدعوة إليه، ولذلك نرى هذا الازدواج في الدعوة إلى مقاومته: نرى نقدا نظريا، ومنهجا عمليا، وبعبارة أخرى نرى: سياسة، ودينا.
أما النقد النظري: فيعرض لمثالب العناصر الفكرية أو المذهبية التي تعين الاستعمار في استعماره ،. فنرى: نقدا لحركة السيد أحمد خان، ونقدا آخر للقاديانية، ونقدا ثالثا للاستشراق الغربي الذي ألبس ثوب العلم. ونرى الناقدين لهذه العناصر يضعون منهجا فكريا آخر لتقوية المسلمين في معارضتهم للاستعمار، وفي صلتهم بالإسلام وفهمهم لمبادئه، فهما يمكنهم من السير في الحياة القائمة.
- نرى جمال الدين الأفغاني: يحمل على السيد أحمد خان، وينقد اتجاهه الطبيعي نقدا مرا في كتاب سماه: الرد على الدهريين وفي الوقت نفسه يدعو المسلمين جميعا إلى العودة إلى القرآن الكريم، ونبذ الخصومة المذهبية، والرجوع إلى حال المسلمين الأول، قبل انفصال الرتبة العلمية عن رتبة الخلافة وقتما قنع العباسيون (محمد البهي، بدون ت ص55)18
مواجهة الإسلام للصليبية والماركسية: رأينا الآن، أن الإسلام منذ الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية في آسيا وإفريقيا، من منتصف القرن التاسع عشر حتى اللحظة القائمة، يواجه صليبية هذا الاستعمار جنبا إلى جنب مع مواجهة سلطانه السياسي والاقتصادي،.
وهذه الصليبية ليست المسيحية السمحة، وإنما هي روح الانتقام من الإسلام: تلك الروح التي بعثت فيما مضى على الحروب الدامية في القرون الميلادية الثلاثة: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، محاولة الاستيلاء على بيت المقدس، وبقيت منذ هزيمتها الكبرى على يد الناصر صلاح الدين مصاحبة لعقلية الغرب في عرضه للإسلام، وفي تصرفاته مع المسلمين على السواء، ولم تزل فيه باقية صحبة هذه العقلية حتى اليوم.
وبعد انتشار الفكر المادي الإلحادي الغربي في بلاد الشرق الإسلامي منذ أعقاب الحرب العالمية الأولى، واجه الإسلام -بالإضافة إلى مواجهته الصليبية السابقة- حملة هذا الفكر ومذاهبه، ولم يزل يواجهه في وقتنا الحاضر، وبالأخص الماركسية الإلحادية.
ورأينا أيضا، أن هذه المواجهة كانت على حساب الإسلام مرة، وفي جانبه مرة أخرى.
أما في المرأة التي كانت على حسابه:
فكانت إصابته من هذه المواجهة إصابة عنيفة:
إذ حلت العصبيات الشعوبية محل الرباط الإسلامي العام، وبرزت الحدود والفواصل وخلقت خلقا في الوطن الإسلامي، دون أن تعتمد اعتمادا دقيقا على المكان الجغرافي أو خصائص الجنس، وإنما تعتمد أولا وبالذات على الحدود، المفترضة التي وضعها المستعمر وقواها، حتى يحول دون الترابط النفسي بين الشعوب الإسلامية في الآمال والكفاح قبل أن يحول دون الاختلاط المكاني أو الزماني، كما تأثرت عقليات بعض الكتاب من الأدباء، والساسة، في الشرق الإسلامي بتفكير الغرب المادي وبحضارته الصناعية، وحملت هذه العقليات لواء الدعوة إليه، ونجحت هذه الدعوة في تركيا، بالحركة الانقلابية التي قادها كمال أتاتورك بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن ما كان لها أن تنجح هذا النجاح الظاهر، وتسير حتى الآن، دون عون سياسي وثقافي من الخارج!! وقد تبادل النظام الشيوعي هذا العون من تركيا أولا، ثم حل محله في المعاونة النظام الديمقراطي
الغربي الذي تتزعمه أمريكا في الوقت الحاضر؛ فجزء واضح من نشاط السياسية الأمريكية -على الأقل النشاط الجامعي، ونشاط المؤسسات الاجتماعية- في خدمة استقرار الانقلاب أو التجديد التركي داخل تركيا، وفي خدمة الدعاية له خارج ديارها، بين الشعوب الإسلامية الأخرى، وهناك مبالغ لا يستهان بها من المؤسسات الأمريكية الرأسمالية، تزاد من عام إلى عام، تحت عنوان الخدمات الإنسانية لهذا الغرض، ينفق جزء منها على الدراسات الإسلامية الموجهة في أقسام ملحقة بالجماعات الأمريكية المشهورة، بينما الجزء الآخر ينفق على مؤسسات الطباعة والنشر، ومكاتب الخبرة أو البحوث الموزعة توزيعا منظما في عواصم بلدان الشرق الأوسط، والتي تعنى أو تتصل بالدراسات الإسلامية أو بدراسات الشرق الأوسط)(محمد البهي، ص 399)19
ويضاف إلى حساب خسائر الإسلام في مواجهته للصليبية والماركسية الفراغ الذي خلفه ركود الفكر الإسلامي في نفوس المعاصرين من المسلمين، والذي هيأ فرصة لقبولهم تحريف الصليبية للإسلام باسم دراسات الاستشراق ثم بقبولهم إلحاد الماركسية باسم العلم Seince وهذا الفراغ في نظري أشد خطرا على الإسلام، من الهجوم المباشر الصليبي أو الماركسي عليه.
أما ما أفاد الإسلام من مواجهة الصليبية والماركسية أو من الاحتكاك بهما فهو:
- إيقاظ الوعي الإسلامي الذي صاحب الحركات التحريرية التي قامت بها الشعوب الإسلامية ضد الاستعمار الغربي، وذلك بفضل جمال الدين الأفغاني، الذي تزعم إيقاظ هذا الوعي، والذي ركز نشاطه في رحلاته إلى مصر، والهند وتركيا، وأفغانستان، وبقية البلاد الإسلامية، لإثارة المسلمين بدافع من دينهم لمقاومة المستعمر وعدم التعاون معه من جانب، وتأكيد أواصر الأخوة بينهم بطرح الفوارق المذهبية، وعلى الأخص ما بين السنة والشيعة، والاحتفاظ بوحدتهم في دفع الخطر الصليبي عنهم، من جانب آخر، وجمال الدين الأفغاني -يعتبر من غير شك- الزعيم الشرقي المسلم لجميع الحركات الثورية ضد الاستعمار الغربي في الشرق الإسلامي. ولم يكن لجمال الدين بقية من نشاط، فوق ما بذل وعانى فيما بذل منه يصرفها فيما وراء إيقاظ الوعي الإسلامي في مجالسه الخاصة والعامة، والمحاولات الفكرية الإسلامية التي قام بها محمد عبده قبيل آخر القرن التاسع عشر، ثم قام بها إقبال في النصف الأول من القرن العشرين) (محمد البهي، بدون ت ص 40)20
المصادر والمراجع
1. محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، الناشر، مكتبة وهبه، الطبعة: العاشرة، ص97
2.نفس المرجع، ص98
3. نفس المرجع، ص99
4. نفس المرجع، ص100
5. نفس المرجع، ص101
6. نفس المرجع، ص155
7. نفس المرجع، ص156
7. نفس المرجع، ص157
8. نفس المرجع ص157
9. نفس المرجع ، ص 43
10. نفس المرجع ص 43
11. نفس المرجع، ص 44
12. نفس المرجع، ص 47
13. نفس المرجع، ص 48
14. نفس المرجع، ص 49
15. نفس المرجع، ص 51
16. نفس المرجع، ص 52
17. نفس المرجع، ص 55
18. نفس المرجع، ص55
19. نفس المرجع، ص 39
20. نفس المرجع، ص 40








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وزارة الدفاع الروسية تعلن إحباط هجوم جوي أوكراني كان يستهدف


.. قنابل دخان واشتباكات.. الشرطة تقتحم جامعة كاليفورنيا لفض اعت




.. مراسل الجزيرة: الشرطة تقتحم جامعة كاليفورنيا وتعتقل عددا من


.. شاحنات المساعدات تدخل غزة عبر معبر إيرز للمرة الأولى منذ الـ




.. مراسل الجزيرة: اشتباكات بين الشرطة وطلاب معتصمين في جامعة كا