الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكر إنما أنت مذكر... ح 4

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 3 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يبدأ النص التوصيفي الذي يصف العالم الأخر، العالم المنتظر والمأمول كجزاء أخروي أو العالم الثاني عالم اللا عودة كما يسميه السومريين القدماء، أو عالم الخلود الذي يشير له النص الديني بأعتبار لا عالم من بعده ولا معه ولا يمكن حتى تصور نهاية له، وهو عالم الجنة والنار بعد أن يأت أمر الله الذب لا مفر منه فيحشر الوجود المكلف والمحاسب حسب النظرية الدينية لينال كل كائن منه الجزاء المأمول والمكتوب والمقرر حسب السعي الحياتي، هذا الأطار العام للفكرة الدينية من حيث فهمنا ومن خلالها لذلك العالم الغريب في مواصفاته، من الحقائق التي ثبتها النص الديني عموما والقرآني خصوصا في مواصفات هذا العالم هو جرد القياس الحسي أو الحدودي لكل من عالمي الجنة والنار، فأما الجنة فقد عرض الله شيئا من حدودها وترك المحدد الأخر، فيقول النص (وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِینَ)، إذا النص يتحدث عن بعد واحد وهو العرض دون أن يذكر الطول، للذين يحاولون تفسير النص من خلال حساب الرياضيات المجردة سيسألون السؤال التالي (إذا كانت الجنة عرضها كعرض السموات والأرض، فأين تكون النار في هذا الكون الذي ليس فيه إلا السموات والأرض؟).
أعتاد العقل الديني الإجابة على هذا السؤال بنفس المنطق الأبله الذي جاء في السؤال وهو منطق مغالط وغير حقيقي، فمثلا يأتي الجواب بسؤال أستنكاري على الشكل التالي وهو المعروف والمشاع بين الفقهاء أو المتحدثين، والغريب أنه ينسب القول للنبي محمد ("إذا جاء الليل فأين يكون النهار؟")، متناسين حقيقة هي أن حركة الليل والنهار لا تعني غياب النهار كليا عن الوجود كما هو معروف وإنما يتبع حركتي ومواقع الأرض والشمس، بينما السؤال هنا كلي لا يتعلق ولا يتأثر بحركة أو موقع ما أو محدد ما، السماء والأرض هما كل الوجود المادي بالتأكيد من خلال النصوص، وبالتالي فالإشارة للعرض هنا إشارة كلية وليست جزئية أو نسبية كالسؤال عن الليل والنهار، إذا عندما يشير النص للعرض المحدد والمقرون بشيء يقول أيضا وبشكل كامل أن طولهما أيضا هما طول السماوات والأرض، فطالما لا من قياس أخر مستوعب يمكن إدراجه فيلجأ المنطق العقلي لإدراك القياس من عموم المقيس عليه.
هذا تأويل منطقي وهناك تأويل فلسفي أيضا يتعلق بمقولات فلسفية، فعندما نقول في عرض أمر الله نشير إلى المستوى الأفقي للأمر بأمتداده الحقيقي، أي في شموله عرضيا سواء هذا العرض حالي يتعلق بالأبعاد الحقيقية للموضوع، أو عندما نريد أن نطلق المفهوم المطلق المستعرض بشموله كليا دون أن نربط الأمر بطول الموضوع طوليا أي من الأعلى على الموضوع الأفقي أو بالعكس، فرحمة الله عرضيا أنها "وسعت كل شيء" أما طوليا فإنها في "كتب على نفسه الرحمة"، فعرض الشيء هو أمتداده الأفقي الشمولي وليس بدلالة حسابية رياضية كما يفهم ظاهريا من النص، فعرض الجنة كعرض السماوات والأرض هو تطبيق مفهوم الدلالة الشمولية بأن الجنة هي أنطباق لحالية الوجود " السماء والأرض"، أي أن الجنة هو الوجود طبقا كاملا بمعنى أنها ليست خارج هذا الوجود أبدا، وكما أن الله يتحكم بهذا الوجود طوليا فهو يتحكم بالجنة بنفس الحال.
إذا الجنة والنار بالنتيجة ليست عالم أخر وليست في حدود الخيال الديني كما يصفه العقل المتدين والعقل الديني على أنها النقيض المادي للوجود الحياتي الأول "الدنيا"، يبقى المفهوم الأخر والذي يترافق مع مفهوم وجود الجنة وحدودها وهو متعلق بنفس السؤال وهو "أين" النار أو الجحيم مع كون لجنة هي مطابقة لكلية الوجود، من الطبيعي أن لا أحد يجيب بشكل منطقي على التساؤل طالما أننا لا نفرق في الدلالة القصدية طبقا لما يرد في النصوص، مثلا النص التالي الذي يصف الجحيم أو النار (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا) مريم 71، وأيضا النص التالي (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) 43 الحجر، كما يرد التأكيد على مفهوم أجمعين في نص أخر (وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) السجدة 13، إذا النار أو الجحيم تشمل كل الوجود مكلف وغير مكلف، عاقل وغير عاقل بدلالة كلمة أجمعين التي تفيد العموم تفريدا أو تجميعا (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) البقرة 24، هذا الشمول والجمع المطلق يفترض أن يصاحبه وجود يستوعب هذا الجمع بمعنى أن يكون له مساحة مكانية مساوية تقريبا لمفهوم الناس كأعلى درجات التوصيف والتكليف بالعقل والحجارة بأعتبارها أدنى مستويات اللا عقل واللا تكليف، وما بين الحدين من عناوين متعددة ومتدرجة طبقا لمعيار النص.
إذا عدم ذكر المساحة والوجود مع الجنة هذا يعني شيئين مختلفين، أولها ومن ظاهر الحال أن الجحيم أو النار خارج الوجود بأعتبار أن الجنة شغلته كاملا، أو أن الجحيم أو النار هي جزء مرحلي أولي من الجنة بالمفهوم العام، أي أن الجحيم هو جزء من الوجود يبدأ بالحشر وينتهب ببوابة الجنة حتى لا نصبح أمام تعارض منطقي بين الوجودين، كلا الحلين لا يمكن القبول بهما منطقيا وعقليا ونصيا، فالوجود الواحد اللا متعدد هو طبقا للنظرية الدينية هو الحال والواقع، ولو كان هناك وجود أخر مختلف عن الوجود المادي المحسوس والمشار إليه بالنصوص لكان على الله أو النص يذكره، هذا أولا وثانيا إذا كان هذا الوجود الأخر المختلف هو من صنع الله وإرادته فلماذا لم يتطرق إليه في نص أو إشارة، أو قد يكون لهذا الوجود ربا وخالقا أخر وهذا خلاف ما نؤمن به وخلاف قواعد الوجود الرئيسية، أما الحل الثاني بأعتبار النار جزء من الجنة ومرحلة أولية فبالنهاية نجد أن هناك خلود فيها كما هو الخلود في الجنة، وهذا يعني منطقا أن الوجودان منفصلان كلا بماهيته وألياته دون أن يكون بينهما مرحلية أبتداء وأنتهاء.
إذا نعود للسؤال أين النار أو الجحيم مع وجود الجنة الذي أستحوذت على كامل مساحة الوجود، من خلال النص أيضا لم يلاحظ صاحب السؤال ولا المجيب عنه ولا الكثير من الباحثين فيه كيفية وكونية السؤال وحقيقة المقارنة بين المساحة المكانية للجنة والنار، الله تعالى عندما يربط مفهوم الجحيم بلفظ أجمعين أراد التطرق لطولية أمره وليس عرض أمره، بمعنى أن النار والجحيم هو إرادة الله في حق المحاسبة وحق التمايز بين مخلوقاته الوجودية، فالجحيم هو السؤال هو المحاسبة هو القضاء النهائي بين تعدد الخيارات والأشاءة من الكائن الوجودي، فحتمية هذا الشيء تعطي مساحة الأجمعين، فمن خفت موازينه الحسابية فهو في حال من أحوال الجحيم، ومن ثقلت موازينه في حال أخر، لكن الجميع معرض للجحيم، فمنهم من يمر سريعا إلى الجنة ومنهم من كثر ما يحمل من خطايا سيبقى في دوامة السؤال حتى يجد الجواب فيرحل منها، أو يعدم الجواب لاستحالته عليه فيبقى خالدا في السؤال الأبدي، فيخلد في الجحيم معذب لا وليا له ولا نصير.
نستخلص من ذلك ومن قراءة منطقية في كل النصوص الدينية أن الجحيم أو النار ليست مكانا ماديا بقدر ما هي مرحلة معنوية تتجلى فيها عدالة الخالق وعدله، فهي كما يصفها النص أيضا صورة وصفية نرادها الردع والتخويف لتكون علاجا أستباقيا إرشاديا للكائن حتى يختار ما هو أنسب له (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ۖ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ)، وحتى مفهوم الخزنة هنا هم أصحاب نخزن الكتب التي لكل كائن موجود كتاب، بينما الجنة ليس فيها خزنة لأنها الأمر لا يعني بالدلالة "القائمين على إدارتها" أو المتصرفين بشؤونها، هذا الفرق النوعي بين الجنة والنار يمكن فيه حسم مسألة المكان بالترتيب التالي، أن الكائن أيا كان شكله وموضوعه وتكليفه في اليوم الأخر يحضر في الجحيم دون أن يكون للجنة مكان، فالوجود كاملا هو الجحيم، ثم تجري المسائلة والحساب والقرار، فمن يجتاز الجحيم تكون الجنة بأنتظاره بعد الحساب للجميع بترتيب التوالي وليس التوازي، بمعنى الجحيم أو النار أولا عرضها السموات والأرض ثم عند الأنتهاء الكلي من الحساب يتحول الوجود الكلي "السموات والأرض" إلى واقع الجنة، إلا قليلا ممن يمكث مخلدا لأن رحمة الله وسعت كل شيء، فتغلق أبواب الجحين والنار لتفتح جميع أبواب الجنان للناس والحجارة,








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجماعة الإسلامية في لبنان: استشهاد اثنين من قادة الجناح الع


.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية




.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-


.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها




.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24