الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكر إنما أنت مذكر... ح 5

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2023 / 3 / 31
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في سؤال فقهي أرسل لي عبر البريد الخاص من أحد الأخوة في مواقع التواصل، والذي لا أعرف تحديدا ديانته أو مذهبه الديني، وأظن أن الباعث على السؤال الإحراج الفكري أو من باب التعجيز في الإجابة، وإن كان السؤال يحمل بعدا فلسفيا أكثر من كونه أستفتاء ديني، السؤال ببساطة يقول "هل أن الله ملتزم بالقوانين والمعادلات الكونية التي كتبها بنفسه قبل وأثناء الخلق؟ وهذا الأمر أجده ثابتا في النصوص الدينية ومتكرر كثيرا مما يفيد الإيجاب عليه، ولكن هناك أيضا النصوص التي تعارضه من جهة أخرى بأن الله يفعل ما يشاء بما يشاء لمن يشاء والأمر يعني أنه غير ملزم بالقوانين والسنن الوجودية القديمة إن أراد أو أشاء في أمر ما، والسؤال الأهم هنا "هل هذا هو التعارض المنطقي متوافقا مع قوله النصي (يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء وهو على كل شيء قدير؟)"، من النظرة الأولى أعادني السؤال باللا وعي إلى قضية جدلية أخرى وهي قضية الجبر والأختيار ولكن هذه المرة ليست مع الإنسان المجبور أو المختار أو الذي يراوح بين القضيتين دون أن يحسم أمره، القضية الآن بمختصر شديد هل أن الله أيضا قد وضع نفسه بين الجبر والأختيار في جدلية أعمق وأعظم من الأولى؟ لا سيما وأنه هو من بيده مقاليد كل شيء وأنه على كل شيء قدير بما ينفي ظاهريا خضوعه لمنطق الإجبار.
كان جوابي سريعا له بالإيجاب الجازم بأن الله مجبر بعد أن كان مخير!، وخياره الحر والوحيد هو الذي أدى به إلى الإجبار، هو خيار مكتوب ومتحقق وليس أفتراضي أو تقديري، نعم الله مجبر أن يخضع للقوانين النشأة والتكوين والخلق الأولى وفق قاعدة إلزام نفسه بما ألزمها به، بمعنى أن الله لا يخضع لجبرية أحد فوقه خضوع المضطر أو المحتاج أو الذي لا خيار أخر أمامه، كما في حال الكائن المخلوق ومنه الإنسان، لكنه مجبر للخضوع إلى أشاءته وخياره وهو قادر على التخلي عنها، لكن يتوجب عليه هنا أن ينهي إرادته أولا ويسحب أمره من التنفيذ وهو قادر عليها، لكنه ممتنع طبيعيا عنها لأن خياره الأول كان الديمومية الأبدية التي لا تتحول ولا تتغير ولا تتبدل، كان الجواب صادما وفجائيا له وحتى غير متوقع أن يسمعه بهذا الوضوح دون لف ولا دوران ولا أحاديث ولا روايات ولا مسانيد، ومما دعاه ليسألني لم التسرع في إجابة قد تحتاج إلى بحث ودرس وإعمال فكر طويل، ليس بالهين على أحد أن يجيب هكذا وقد يكون غير واثقا منها...
لم ينتهي الحوار عند الجواب ودخلنا في مرحلة التفسير والتبرير والبسط والدفاع عن الإجابة وطلب أدلة الإثبات التي أختصرتها وحسب طلب الصديق بنصوص ثابتة وليست روايات ولا أحاديث، فكانت أدلتي هي:.
1. (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) الأحزاب: 38 ،هذا تثبيت على أنه سنة الله وقانونه كما تم تطبيقها على من مضوا في إشارة للماضي، ستبقى مستمرة وثابتة ولا تتغير لا حاضرا ولا مستقبلا، ويعزز نص أخر في سورة أخرى (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) غافر: 85، واكرارا وتوكيدا على المضي والثبات فيه أيضا جاء نص أخر من جملة نصوص كثيرة متعاضدة في المعنى والدلالة والقصد (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) الفتح: 23.
2. الإشارة لسنة الله في الذين خلوا لا تفسر فقط بالظن والأحتمال على ثباتها وديموميتها أستنباطا من دلالات النصوص ومقاصدها الغائية، بل جاءت أيضا بصريح النص من غير تأويل أو تفسير أو ترجمة، فقد ذكر النص ذلك بيانا وتيسيرا للفهم بأستحالة التحويل والتبديل لقوله (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) فاطر: 43، فعندما يقطع الله الظن والشك بجزم نهائي بثبات السنن وديمومتها الأبدية، فإنه يقول للناس ألا تنتظروا منه أي تعديل أو تحويل بما شاء قديما قبل أن تسن السنن ويتكون الوجود، هذا يعني أن الله قد ألزم نفسه بنفسه أمام الوجود بالتقيد بها أي بالسنن الثابتة، قاطعا أي أحتمال ولو نظري بخلافها أو تعديلها أو تبديلها في قوله (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) الفتح: 23، فهو منصاع لها بإرادته وإشاءته الخاصة دون إلجاء لا فوقي ولا تحتي يخشى منه أو يخشى معه.
3. هذا في الثبات من جهة السنن التي هي قوانين ومعادلات الوجود، وبالتالي يثار عندنا سؤال كيف نعرف هذه السنن التي يصفها بالثبات المطلق والأبدية التمامية وعلاقتها بالجبر، الله تعالى عندما وضع هذه السنن ليس الغرض منها ضبط الوجود بشكل لا متناهب ذاته بذاته ولذاته، ولكن أيضا ليكشف من جهة أخرى حتمية التقيد بها لئلا تفسد، لأنه العملية برمتها وأقصد الخلق والترتيب والتركيب والتنظيم محكومة بأنها جزء من الحق الذي يحكم الوجود، والدليل قوله تعالى (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا) أل عمران (191)، إذا النظام الوجودي معادلات وقوانين وحركة وتحكم انتظم تحت عنوان الحق الذي يجب أن يتبع بأعتبار أن الله هو حق بذاته (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ) و نص يوضح من هو الحق ومصدريته (إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) هود (17)، فالحق يتبع جنسه وجنسه وهو واحد لا يمكن أن يخرجا من دائرة الوحدة ولا يمكن أن يتبدلا لأن الحق يعني تمام مطلق وكمال مطلق ومطلق المطلق يعني الثبات والديمومة الأبدية.
4. هذا كله كسنن ووعد ونظام وتدبير وتأطير لم يكن أمرا مارا دون أن يثبت بكتاب مكتوب بيد كاتبه وملتزم به، فقد ورد في النص أن الله (عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) كمثال من السنن التي جمعها أمره ونفذتها أشاءته، كما أن هذا الكتاب لم تدون فيه الرحمة فقك بل أحصى كل شيء، هذا المفهوم المطلق يعني لا يوجد حركة ولا سكنه ولا أمر ثابت أو متحرك إلا مدون فيه (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)، إذا الله في السنن المفروضة التي ميزتها الأساس الإطلاق التام والكمال النهائي، وبما كتب على نفسه من سريان أمره يجعلنا نجزم أن الله لا يمكنه ليس من باب العجز ولكن من باب الحق أن يمضي كل شيء بما هو كائن ليكون في الوجود، أما ما يرد بشأن قوله (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) الرعد (39)، فالأمر هنا لا يتصل بالسنن ولا بما مكتوب في الكتاب من أمر بات وثابت، وإنما بحسابه يوم الحساب بما يملك من رحمة لاحقة ورحمانية سابقة بأنه (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير) الشورىٍ (30)، فينحو بالشفاعة والتشفع، ويثبت بالعند والجحود ونكران الرحمة، وهذه أيضا سنة ثابتة في أمر الله.
هذا في معرض دفاعي الموجز عن سؤال الصديق الذي بقي متحيرا ومستنكرا أن يكون الله مجبرا على أمر وغير مختار فيه وهو الذي بيده أمر كل شيء يقول له كن فيكون، الظاهر أن العقل الديني بشكل خاص والعقل المتأثر به أيضا لا يمكنه أستعياب فكرة أن الله صاحب النظام، هو منقاد أولا لتحقيقه ليبدا عمله أي النظام مدعوما بقوة الألتزام هذه، ولا يحتمل العقل الديني أن الله أيضا يحترم القيم التي وضعها وأسسها لأنه تحقق له من جهة أخرى تمامية وأنتظام مشروعه الخاص والعام، كما أن هذه الجبرية ليست فوق القدسية التي يظنها أن ترفع من شأن الله، بل أرى أن القدسية العظمى المطلقة لله تصان من خلال قوة الألتزام الأبدية بأمر السنن والقوانين والمعادلات الأولى، على كل حال أستمهل صديقي ليستوعب الكلام ولربما يحاول أن يناقش الأمر عقلانيا ويحاكم النصوص ليبدو معها موافقا أو معترض.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جون مسيحة: مفيش حاجة اسمها إسلاموفوبيا.. هي كلمة من اختراع ا


.. كل يوم - اللواء قشقوش :- الفكر المذهبي الحوثي إختلف 180 درج




.. الاحتلال يمنع مئات الفلسطينيين من إقامة صلاة الجمعة في المسج


.. جون مسيحة: -جماعات الإسلام السياسي شغالة حرائق في الأحياء ال




.. إبراهيم عبد المجيد: يهود الإسكندرية خرجوا مجبرين في الخمسيني