الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصطفي صفوان و تطوير اللغة

محمد حسين يونس

2023 / 4 / 1
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


عملت لأربعين سنة ماضية .. مع شركات و مكاتب إستشارية أجنبية .. المواصفات و العقود .. و الخطابات المتبادلة .. و محاضر الإجتماعات ..و الحسابات كلها باللغة الإنجليزية ..كانت هناك بعض الإختلافات في اللهجات المنطوقة .. و لكن المكتوب لا خلاف علية .
ثم عملت في أخر ست سنوات .. في مشروع .. المكتب الإستشارى و شركة المقاولات و المالك ..مصرى .. كل مستنداتنا باللغة العربية .. فإكتشفت أننا لا نجيد هذه اللغة .. و لا نستطيع أن نعبر عن أنفسنا بها .. حوالي عشرين مهندس ( الإستشارى و المالك و المقاول ) .. يكتبون لغة ركيكة و مفككة تتسبب في النزاع لإختلاف المعاني ..و أضطر أن أعيد صياغة .. كل الخطابات الصادرة من مكتبنا بعد مناقشات طويلة مع المهندس الذى حرر الخطاب لأفهم ماذا يريده أن يصل للأخرين
هذه المشكلة مطروحة ..منذ أن بدأ المصرى يستخدم اللغة في غير حياته اليومية و يطل علي علوم وثقافة العصر .. فلقد وجد أن لغته المنطوقة لا تسعفه .. و المكتوبة لا يفهمها و يعبر بها بصورة جيدة .. تستطيع أن تفهم هذا لو قرأت إبن إياس .. أو الجبرتي .. أو أى من معاصريهم .
السبب في ذلك أننا نتحث بلغة الأم (عامية ).. و نتعلم بلغة أخرى (فصحي )..علي أساس أنها لغة الأم .. رغم إختلافهما في القواعد و الألفاظ .. فتكون النتيجة ألا نتقنها ونحتار بين (أون )..و (إين ) في الإعراب ..بحيث نصح البعض من التربويين .. بأن نتعلم العربية في المدارس كلغة أجنبية .. مثل الألماني و الإنجليزى و الفرنسي .

مع مدخل القرن العشرين .. وخلال زمن حربين مدمرتين عالميتين ..كانت مصر تمثل مركز جذب لعدد كبير من المثقفين .. و الفنانين و التجار اليهود و العرب و الأجانب .. كانت مدنها الرئيسية تعج بثقافات و لغات و لهجات مختلفة .. و مع ذلك متعايشة .
ثم أدت الروح الثورية و الديموقراطية التالية لثورة 1919 .. إلي إزدهار الفكر و الفن .. و الصحافة .. و التعليم .. بصورة لم تتكرر .
في هذا الزمن (17 مايو 1921 ) ولد الدكتور مصطفى صفوان نجل الشيخ صفوان أبو الفتح الذي كان من أوائل المبشرين بالفكر الاشتراكي في مصر.. فعاش فترة فوران ثقافي .. متأثرا بالرواد الذين أثروا الحياة الفكرية .. والثقافية و الفنية لقد كان الوسط الثقافي مشغول بإختلافات حادة.. ليجد لنفسه لغة كتابة و تخاطب معاصرة .. و كان هناك إختلافات شديدة حول إستخدام اللغة العامية في الكتابة .. أو الفصحي كوسيلة تواصل و نقاش .
هذه القضية بدأت بواكيرها مع انهيار الإمبراطورية العثمانية وانتعاش اللغة العربية مع انتشار المطابع الحديثة في مطلع القرن العشرين، و بدأت ملامحها في التبلور بشكل واضح في النصف الثاني من ذلك القرن، مع انتشار حركة الأدب العربي الحديث. . وقتلت بعد ذلك بحثا حتي أصبحت شبه متفق عليها في زمننا هذا .
كانت الأغلبية بما في ذلك الدكتور طه حسين .. ترى أن إستخدام العامية .. أو الفاظ منها في الكتابة جريمة ..و أن المتعلم لا يصبح متعلما .. إلا عندما يتقن لغة قومة العربية الفصحي .. و التي يمكن تطويعها بحيث تصل العامي و المثقف .
علي الطرف الأخر كان هناك من يدعو إلي إستبدال لغة (( أكلت جبجبة .. من صفيف هلعة .. فإعترتني زلخة )) باللغة التي نتحدث بها التي تعتبر لغة الأم ألتي نرضعها منذ الميلاد .( بطني وجعتني بعد.. ماأكلت حتة لحمة من ورك المعزة )
سلامة موسي كان أحد المطالبين .. بتطويع لغة الكتابة و الحديث .. للغة المحلية ..و لويس عوض .. أيضا و أن علينا تطوير اللهجة المحلية لتصبح لغة لها قواعدها التي ترقي بها لمستوى تقبل العلوم و الفنون .. كما حدث بعد ذلك مع اللغة العبرية .
من الذين أخذوا جانب اللغة العامية .. و أحقيتها في أن تكتب و تداول .. كان الشاب مصطفي صفوان الذى درس علم النفس في جامعة فاروق الأول ..وخلال دراسته الجامعية ارتبط بما يسمى ((مجموعة الإسكندرية)) ، كان أعضاؤها أقرب إلى تبني السوريالية ، وبعضهم كان من بين الناشطين في المنظمات اليسارية ..
سافرمصطفي إلي فرنسا و حصل علي الدكتورا . ..وعندما عاد الي مصر عمل كأستاذ في جامعتة.. ثم مع تطورات حركة الضباط عام 1954 ..و تحولها إلي ديكتاتورية عسكرية .. هرب مهاجرا إلي فرنسا ..بعد خناقة مع الحرس الجامعي.. و ظل هناك حتي توفي عن عمر 93 سنة .

بالامس أرسل لي الصديق مصطفي الطناني .. رسالة تحتوى علي مخطوط ثمين مكتوب بخط يد الدكتور لمقدمة كان يعدها لتتصدر كتاب لم يرى النور ..عن موضوع .. اللغة العامية .. و أهمية دراستها .. و دراسة قواعدها .. و السماح لها بالتطور ..
الدراسة مكتوبه بلغة عامية (هوه ) بدلا من هو ( فيه )بدل من في ..(ما تصلحش ).. بدلا من لا تصلح ,
إلا أنني أرى أهمية نقل وجهة نظره لحضراتكم.. فقد يهتم البعض في معرفة رأى أستاذ له ثقله في هذا الموضوع
((مقدمة :
فيه اعتقاد منتشر بين عامة الناس في البلاد العربية وبين المثقفين أو المتعلمين بصفة خاصة مؤداه أن فيه لغة نبيلة هيه وحدها التي تستحق تتسمى باسم الفصحى، لأن الفصاحة ما تجيش إلا فيها، وبإسم النحوية لأنها وحدها لها قواعد يجري عليها الكلام.
اللغة دي هيه لغة التعليم في المدارس والجامعات، لأنها لغة الدواوين ولغة الفكر والشعر والأدب،
أما اللغة اللي الناس بتتكلم بيها من غير ما تروح المدرسة، فدي لغة عامية مجعولة للتعبير عن معاملات الحياة اليومية ومشاعرها الفجة، ولكنها ما تصلحش أبدا للخلق أو الأدبي، اللغة دي طبعا ما تتدخلش المدرسة بل ربما لو اقترحت على واحد تعليم قواعدها لندهش لأنه ما يجيش على باله أنها لغة لها قواعدها زي أي لغة تانية.
الاعتقاد ده المبني على تحويل الانقسام الموجود في كل لغة بين استخدامها العادي واستخدامها الخلاق إلى انقسام بين لغة ولغة، اعتقاد ما يتغيرش مهما كذبته الوقائع،
الأمثلة على كده كثيرة ولكن أكتفي بمثال اللغة العربية نفسها، اللي كانت عند نزول القرآن لغة عامة الناس في شبه الجزيرة العربية، ولا كانش لها أي استخدام خلاق في أي مجال من المجالات باستثناء الشعرومع كده لما اتسعت الفتوحات الاسلامية ونشط احتكاك العرب بالثقافات المجاورة زي الثقافات الهندية والفارسية واليونانية بنوع خاص .. تفجرت لغة البدو فاستوعبت الثقافات دي كلها وتحولت هيه نفسها إلى لغة علمية فلسفية من الطراز الأول، فضلا عن ابتكاراتها المنقطعة النظير في التصوف والفقه وعلم الكلام، وتحولت روائعها الأدبية الخالدة
بوجه عام الأمثلة مش ناقصة على فساد الاتجاه إلى تخصيص لغة من اللغات بكونها لغة الدولة والدواوين، وبالتالي لغة التعليم والكتابة والثقافة وإلى الفصل بينها وبين لغة الكلام الحي المتداول بين الناس، يكفينا نذكر إزاي بعد انهيار أتينا أمام غزو الرومان، ساد الاعتقاد بين المثقفين الرومان أن الفلسفة والعلوم ميادين لا يمكن الخوض فيها إلا باللغة اليونانية إلى أن جه شيشرون فأكد على أن إمكانيات الفكر في اللغة الرومانية ما تقلش عنها في اليونانية، وضرب المثل على كده بكتاباته هوه، ومن هنا صار شيشرون يعتبر واضع مبدأ الانسانية اللغوية،
أي المبدأ الرافض لخلع صفة القداسة على أي لغة من اللغات، وكلنا نذكر إزاي دانتا كسر احتكار اللغة اللاتينية للكتابة لما كتب ((الكوميديا الإهية)) باللغة الطليانية، بس احب اضيف أن العلم الحديث ابتدا بعد كده بنفس اللغة بفضل جاليليو،
وجاليليو كتب كتابه اللي فند فيه تفنيد نهائي علم الطبيعة عند أرسطو، ووضع أسس العلم الحديث كتبه باللغة الطليانية اللي كانت لسة بتعتبر لغة شعبية أو عامية.
فإذا رجعنا للغة العربية وجدنا مجال لملاحظتين، الأولى هيه أن لغة القرآن زيها زي أي لغة نطق بيها البشر، كان يستحيل تقاوم إلى ما لا نهاية تغيرات الزمن وبالتالي أدى انتشار الميديا وبالأخص الصحف ومحطات الإذاعة إلى ظهور لغة عربية ممكن نسميها لغة وسطى
أي لا هيه لغة بديع الزمان الهمزاني ولا هيه لغة أحمد فؤاد نجم، لغة مفهومة للجميع في مختلف البلاد العربية لبساطة صيغها النحوية ومحدودية مفرداتها،
مسألة تطويع اللغة دي لاحتياجات الفكر والخلق الفني بجانب استخدامها في الاعلام مسألة متروكة للزمن ولكن الحاصل فعلا هوه أن اللغة دي بتؤدي لنا في الوقت الحاضر خدمة جليلة نظرا لأن شعور الناس سواء كانوا في بغداد أو عمان أو القاهرة أو الرباط، وأيا كانت مواقف حكامهم بالالتفاف حول قضية سياسية زي قضية فلسطين أو غزو العراق صار مبني أساسا على اشتراكهم في اللغة دي،
الملاحظة التانية ودي ملاحظة مش جديدة لأننا نلاقيها عند ابن خلدون : هي أن الاختلاف بين اللغة العامية في مصر مثلا وبين لغة القرآن من ناحية واللغة الدارجة في المغرب من ناحية تانية اختلاف لا ينكر لدرجة انه ربما أدى في بعض الأحيان إلى صعوبة التفاهم إن لم يكن استحالته،
هنا بييجي السؤال إيه سبب رفض الحكومات العربية تعليم قواعد اللغة العامية وآدابها في المدارس زي تعليم الفصحى أو غيرها من اللغات،
الأنكى من كده هو أن مثقفينا نفسهم ربما شاركوا في الرفض نظرا لميلهم إلى اعتبار السياسات اللغوية مسائل تدخل في الباب اللي سماه ماركس البنية الفوقانية .. مع أن أبو الشعوب نفسها السيد جوزيف ستالين اضطر يتدخل في أوائل الخمسينات علشان يؤكد أن اللغة ما ينطبقش عليها الوصف ده مهما كانت خصائصها الطبقية نظرا لدورها المؤسس للاجتماع
ربما وجدنا الرد على السؤال ده إذا نظرنا للسياسة اللي بتتبعها الدول الغازية في البلاد المحتلة لما يستتب احتلالها
السياسة دي ويكفي أن نذكر هنا سياسة فرنسا في الجزائر ولكن ممكن كمان نذكر سياسة اليونان في مصر وسياسة العرب بعد الفتح تتلخص في جعل لغة المحتل هي لغة الدولة والدواوين وبالتالي لغة الكتابة والثقافة، أي بعبارة واحدة سياسة تتلخص في إنكار مبدأ الانسانية اللغوية.
مصلحة القوى المحتلة أو الاستعمارية في السياسة دي واضحة.
أولا دي سياسة تؤدي إلى الفصل التام بين عامة الناس وبين عالم الفكر وبالتالي إلى عجز عامة الناس عن تصور أي نمط للحياة أو للحكم أو حتى للبناء الاجتماعي غير النمط اللي عرفوه من قرون،
ربما قال القارئ أن الكلام ده فيه مغالاه ولكن الطريقة للحكم على صحته أو فساده سهل اللي عنده شك يتفضل يسأل الحكومة في أي بلد عربي عشان تدخل تعليم اللغة العامية في المدرسة بجانب الفصحى واللغات التانية إذا وصل له رد أكون شاكر لو قال لي عليه.)).
نحن الأن نكتب بلغة .. أقرب للغة التي ننطقها .. لقد حدث هذا بسبب الجرائد و وسائل الإعلام التي قامت (بتقييف ) للغة الفصحي .. بحيث تستوعب النطق المحلي و تحتفظ بخصائصها ..
الأمر الذى بذل فيه الأستاذة علي أمين و مصطفي أمين و التابعي جهدا كبيرا عند إنشاء جريدة الأخبار ثم نقله عنهم محررى الأهرام و باقي المجلات و الجرائد.. و تناوله الأخ بيومي قنديل في كتابه (( حاضر الثقافة في مصر في ضوء علمي اللغويات و المصريات )) و زميلة الأستاذ طلعت رضوان في عدد من المقالات علي الحوار المتمدن .
و هكذا تتبنى اللغة العربية المعيارية اليوم .. أساليب كتابة مستحدثة، وتبتعد عن الأسلوب التقليدي الذي يهتم بالديباجة.. و الطباق و المقابلة والسجع و الجناس و التورية علي حساب المعني .
حقا تعد بعض الأشكال الأدبية الحديثة امتداداً للأشكال الأدبية الكلاسيكية، التي لها مقدمة ومتن وخاتمة،
و لكن في الغالب تبتعد أشكال أخرى عن القيود الكلاسيكية، مثل الشعر الحديث و القصة و الرواية وأسلوب كتابة المقال البحثي أو مقال الرأي، أو الدراسة العلمية.
كما برزت بعض أنواع الكتابة التي لم تكن معروفة من قبل ، مثل كتابة الدليل الفني أو المدونات أو غيرها. إلى جانب ذلك، اختفت بعض الأشكال الأدبية الكلاسيكية بشكل كامل، مثل المقامات..إنه التطور الذى لحق باللغة .. ليخرجها من أسر ( أكلت جبجبة ) . . و الذى ساهم فيه بشكل أو أخر الدكتور مصطفي صفوان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - نور ع نور
عدلي جندي ( 2023 / 4 / 2 - 10:30 )
مش بتاعة أحمد فراج زوج الصبوحة واللي كانت العصمة في إيدها عشان تطلقه وقت ما هي عايزة
المهم من أبدع المواضيع وأهمها لغة تفاهم مشتركة خاصة العامة ومتوسط العلم زي العبد آمون الفقير يفهمها من غير جعلصة اللي حافظ النحو والصرف ف لغة الضاد ونقول عليه عالم وعلمه لا يعرفه الا الصالحون وحافظو النصوص وكأنهم إكتشاف إنقسام الذرة
دمت مبدع أستاذنا
تخياتي


2 - الأستاذ عدلي جندى
محمد حسين يونس ( 2023 / 4 / 2 - 11:33 )
أشكر مرور حضرتك ..و تعليقك ..اللغة هي التي حولت الحيوان الأعجم إلي إنسان و كلما كانت تمتلك قدر أكبر من التجريد .. كلما إرتقت به .. اللغة العربية محبوسة .. في لغة قديمة إنقرضت
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا. كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَل
إستخدام مثل هذه التعبيرات توقف قدرة الطفل علي التطور .. و بذلك تحبس الناس في إطار طلب التفسير الدائم من المتخصصين الذين هم في الغالب رجال الدين ..
النظم الحاكمة تبق الناس في الظلمات الجهالة .. بسبب عجزهم عن فهم لغة الحكومة و الدواوين فتفرض عليهم ما تريد .. تحياتي

اخر الافلام

.. مصادر: ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق لإقامة الدولة 


.. -الصدع- داخل حلف الناتو.. أي هزات ارتدادية على الحرب الأوكرا




.. لأول مرة منذ اندلاع الحرب.. الاحتلال الإسرائيلي يفتح معبر إي


.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم مناطق عدة في الضفة الغربية




.. مراسل الجزيرة: صدور أموار بفض مخيم الاعتصام في حرم جامعة كال