الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدينة الحَضر التاريخية .. متحف وسط الصحراء

حامد خيري الحيدر

2023 / 4 / 5
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تُعّد مدينة "الحَضر" أحدى أعظم مدن العراق التاريخية، وهي تُمثل بتاريخها ومَوقعها البعيد المُنعزل حلقة وَصل بين أزمان متعاقبة ومَسرحاً تمازجت عليه ثقافات مُتباينة، حيث أستطاع الإنسان الحَضري في منطقة جغرافية صعبة وقاسية، من أن يوظف بقدرة عالية ومَهارة فائقة عناصر المادة والأرض والبيئة والمَوروث الحضاري الذي أكتسبه على مدى الدهر في تشييد مدينته، التي يتوضح فيها بجلاء النُضج الثقافي والحِسّ الفني والقيّم الابداعية الى أبعد حَد.
تقع اطلال هذه المدينة الخالدة في بيئة صحراوية الى الجنوب الغربي من مدينة الموصل بمسافة مئة وعشرة كيلومترات، والى الغرب من المدينة الآشورية "آشور" بمسافة ستين كيلو متراً، وكذلك من وادي الثرثار الذي ورد في المصادر الآشورية بصيغة "ترتارو" وفي المصادر التاريخية الكلاسيكية بصيغة "ترتارا" بمسافة ثلاثة كيلومترات.
وقد شُيّدت المدينة على بقعة من الأرض ذات تُربة رَملية يَنخفض مُستواها بشكل كبير عن المناطق المحيطة بها، ويمكن ملاحظة ذلك على مسافة عدة كيلومترات منها، وقد ساعدت هذه الميزة الجيولوجية على تجميع مياه الامطار والمُتأتية جَوفياً من نهري دجلة والفرات ووادي الثرثار ثم انحدارها نحو آبار المدينة، لذلك كانت المدينة تتميّز بوفرة المياه لديها على مدار العام، بالإضافة الى ذلك توجد في المنطقة المحيطة بها العديد من مقالع أحجار الكلس، التي أستفاد منها الحَضريون في تشييد مَبانيهم الدينية الضخمة وقصور حكامهم الفخمة، وكذلك أسوار المدينة وباقي دفاعاتها الحَصينة.
ما أن يدخل الزائر لمدينة "الحَضر" وينظر الى مَعالمها وأبنيتها الشاخصة، حتى يَنتابه شُعور غريب مَمزوج بالرَهبة والغُموض، حتى وأن كان قد زارها مَرات عديدة قبلاً، حيث سينظر إليها وكأنه يراها للمرة الأولى فقط، وسيظل طيلة جولته بين أبنيتها وأسوارها ومعابدها مَشدوهاً بعظمة عمارتها وهندسة بنائها، ليس لهَيبتها وفَخامتها فحسب أنما احترماً للإنسان العراقي الذي شَيّد بصَبرٍ وأناة تلك الصُروح العظيمة، التي عاندت الزمن ووصلت الى وقتنا الحاضر لتُعلن انتصار إرادته، وكذلك الى الجهود الرائعة والعَزيمة الكبيرة للآثاريين العراقيين الرواد، عند عَقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين، وفي مقدمتهم العالِمَين الكبيرين الأستاذ فؤاد سفر والأستاذ محمد علي مصطفى، من أجل إعادة الحياة الى هذه الحاضرة العظيمة وسِبر تاريخها، بعد أن جعلت جهودهم المُضّنية تلك من الأحجار الصَمّاء المُتبقية لأطلال المدينة تروي قصة تاريخها الطويل.
لقد ذُكرت المدينة في كتابات ومُدونات المؤرخين العرب والرومان، حيث أشادوا بشجاعة أهلها وبَسالتهم، وبتحصيناتها العسكرية القوية، التي تمّكنت على مَدى عشرات السنين من صَد هَجمات الأعداء ومقاومة حصارات جيوش أباطرة الرومان، حيث ذكروا أنهم صَدوا هجوم الامبراطور الروماني "تراجان" عام 117م، كما فشَل الامبراطور الروماني "سبيتموس سيفرس" في اقتحامها، بعد أن حاصرها عام كامل 198_199م، بالإضافة الى ما تَم وصفه من ضَخامة أبنيتها وجمال مَنحوتاتها ورَخائها الاقتصادي.
وقد ظلت آثار مدينة "الحضر" يَطويها النسيان، وتاريخها مُخبأ بين صفحات المجهول رَدحاً طويلاً من الزمن، منذ سقوطها على يد "الساسانيين" وحتى مطلع القرن العشرين، حينما زارها عدد من الباحثين والرحالة الغربيين، من أبرزهم عالم الآثار الالماني "ولتر أندرية"(1)، وذلك خلال تنقيباته في مدينة "آشور"، حيث قام بزيارات مَحدودة لها، أجرى خلالها بعض المُسوحات المُقتضبة على جوانب وأقسام منها، ليُعلن من دون أن يُجري أية تنقيبات فيها عن قيمتها التاريخية الكبيرة، وموازاتها في الأهمية لمُدن "تدمر" في سوريا و"البتراء" في الأردن و"بعلبك" في لبنان، من خلال كتابين أصدرهما بشأنها، تضمّناها خططها وأهم آثارها الفنية، ووصف لأطلال بعضٍ من أبنيتها الشاخصة للعيان حينها، إضافة الى شيء من تاريخها حسب ما أورده الرحالة والمؤرخون الرومان.
ويَرجع السبب في بقاء "الحَضر" بعيدة عن متناول الباحثين والآثاريين هو صعوبة الوصول إليها، وكذلك لظروفها البيئية والسكانية الصحراوية القاسية، والتي لم تُمّكن هؤلاء من البقاء في تلك المنطقة فترة طويلة، لتظل المدينة رَهن التكهنات والمعلومات الشَحيحة حتى عام 1951، حينما باشرت المؤسسة الآثارية العراقية بأولى عمليات المَسح والتنقيب فيها، ثم صيانة وإعادة بناء عَمائرها ومَرافقها البنائية وترميم منحوتاتها ودراسة كتاباتها، لتُفتح معها صَفحة جديدة من تاريخ هذه المدينة، بعد أن تم الكشف عن الكثير من خَباياها وأسرارها.
وتكمن أهمية "الحَضر" ومَيزتها بامتدادها الى العُمق التاريخي لوادي الرافدين، بالإضافة الى اختلاطها بصِفات وعناصر حضارية جديدة، من رومانية ويونانية وفارسية وعربية، لتغدو بمَثابة بوتقة انصهرت فيها تلك المَوروثات الثقافية المختلفة، لتُشّكل خليطاً حضارياً مُتجانساً ذي صبغة فريدة، مما جعل الباحثين يختلفون في تبعية تاريخها وعائدية فنونها وأصل ديانتها، بل وحتى في قراءة أسمها ومَعناه، حيث قرأه البعض منهم بفتح الحاء والضاد أي "الحَضَر" لتعني "التَحضُر" أو "التَمدُن"، ومنهم من قرأه بفتح الحاء وسكون الضاد أي "الحَضْر" بمعنى "المَكان المَحظور" لقدسيته ومَنَعَته، باعتبارها مَركزاً دينياً واقتصادياً مُحصّناً، وتستند هذه التسمية بالأساس الى ما أوردته الكتابات الآرامية التي اكتشفت في المدينة وكذلك النقود التي سُّكت فيها، وهي بصيغة "حَطْرا"، التي اعتمدت عند ترجمة الاسم الى الانكَليزية "هاترا"، حيث كتبت عبارة "حَطْرا دي شَمَش" أي "الحَضر مدينة الشمس".
كما أمتد ذلك الاختلاف الى طبيعة الأفكار والمُعتقدات الدينية التي آمن بها الحَضريون، والتي طغى عليها فكرة تَجسيد الآلهة بالكواكب والأجرام السَماوية، ليَغدوا فكرهم الديني مُعتمداً على نظام الدورة الشمسية السنوية، حيث أتفقوا على أن "شَمَش" أي الشمس هو كبير الآلهة، وهو بالتأكيد مَوروث عراقي قديم، بالإضافة الى "أترعتا" أو "عشتار" إلهة الحب والحرب، و"نركَول" أو "نركَال" إله العالم الاسفل، لكن بنفس الوقت ظهر مبداً ديني جديد، وهو ما يُعرف بـ"التثليث" أي "الآلهة الثلاث الكبار" الذين يُسّمون بالآرامية "مَرن" بمعنى "سَيدنا"، و"مَرتن" بمعنى "سَيدتنا"، و"بَرمَرين" بمعنى "أبن سَيدينا"، وهم في الغالب يُمثلون "الشَمس" و"كوكب الزهرة" و"القمر"، ومن الباحثين من يَنسبهم الى شخصيات وهيئات أخرى، بالإضافة ظهور آلهة جديدة على المَشهد الديني الحَضري مُتمثلة بالإله "هِرقل" والإلهة "اللات" و"بَعلشمين" و"نشرا" أي "النسر" و"شَحيرو" أي "نجمة الصباح" ومنها بالعربية "السَحَر"، وهي طبعاً من ضمن التأثيرات اليونانية وتلك التي جلبتها القبائل العربية معها لدى استقرارها في هذه المنطقة، علماً أن صِفات هذه الآلهة وواجباتها الكونية الإلهية، تُشابه الى حد بعيد ما كانت تمتاز به آلهة وادي الرافدين التقليدية القديمة.
لم يُعرف على وجه الدقة متى استوطنت مدينة "الحَضر"، إلا أن المُستوطنات الأثرية العديدة المنتشرة في هذه المنطقة مثل "تل أم الدباغية" و"تلال المَيمون" و"تل دبيشي" و"تل أم تليل"، تُشير الى أن هذه المنطقة قد شَهدت تجمعات سُكانية واسعة منذ اهتداء الأنسان للزراعة في فترة العصر الحجري الحديث خلال الألفين السابع والسادس قبل الميلاد، ومن يتجول حول المدينة ولمسافة عدة كيلومترات، يَرى بوضوح الانتشار الكبير لكِسر الفخار لمختلف العُصور والفترات التاريخية، لذلك فأن البدايات التاريخية لتأسيسها لازالت غامضة، وتقع ضمن الافتراضات والتخمينات لا أكثر، إضافة الى أن الإشارات الواردة عن تلك البدايات في كتابات المؤرخين العرب والرومان ومن بعدهم الرَحالة الكلاسيكيين الاجانب، وكذلك الكتابات التذكارية المنقوشة باللغة الآرامية داخل أبنية المدينة وعلى تماثيلها، لم تكن ذات فائدة كبيرة في هذا الجانب، حيث انها تَصف المَراحل الاخيرة من تاريخها فقط، ليبقى قسماً كبيراً منه وخاصة عند بداياتها الاولى مَجهولاً حتى الآن.
وهناك رأياً واعتقاداً أن المدينة كانت قرية صَغيرة في زمن الآشوريين بسبب قربها من مدينة "آشور"، لكن هذا الرأي رغم منطقيته لم تثبته التنقيبات الأثرية، لذلك فأن الاستيطان قد بدأ غالباً في المدينة مع مَطلع القرن الثاني قبل الميلاد عند الفترة السلوقية المتأخرة، لتزداد اهميتها بين الاعوام 69_36ق.م، خلال الصراعات العسكرية التي سادت المنطقة، وتحديداً الحروب الطويلة بين الرومان والفرثيين، مما جعل القبائل العربية التي تسكن البادية الغربية، الى اتخاذ مُستوطن "الحَضر" مركزاً لتجمعهم من أجل الدفاع عن أنفسهم ومُمتلكاتهم، ثم ليُشيّدوا حول هذا التجمّع الاستيطاني بعد طول استقرار فيه سوراً كبيراً لحمايتهم من امتدادات تلك الحروب، لتغدو مع مرور الزمن وزيادة عدد سكانها والمُتوجهين اليها عاصمة لمملكة كبيرة، وَردت في الكتابات التاريخية باسم "عَربايا" اي بلاد العرب، ثم لتصبح بعد ازدياد رَخائها الى مركز اقتصادي وديني غاية في الاهمية، ويرجع السبب الرئيسي لذلك هو موقعها الاستراتيجي الذي يُسيطر على المَمرات والمَسالك البرية، وطرق القوافل التجارية التي تَربط الشرق بالغرب.
ومن خلال ما تم الكشف عنه من النصوص الكتابية الآرامية القليلة والمَنقوشة على التماثيل والنُصب التذكارية والأبنية الدينية، يُمكن القول بأن تاريخ المدينة السياسي قد مَرّ بثلاثة أدوار...
الأول هو "دور التكوين" الذي يبدأ منذ فترة يَصعب تحديد بدايتها، في الغالب ترجع الى مطلع القرن الأول قبل الميلاد وتَستمر حتى منتصف القرن الأول الميلادي تقريباً، وكانت السلطة السياسية في المدينة مُشتركة وموَّزعة بين زعماء قبائلها الذين كان يُسمى الواحد منهم بالآرامية "رَبَا" أي "الزعيم" أو "الكبير"، وبين المَسؤولين والمُشرفين عن إدارة المعبد الكبير المُشيّد غالباً خلال هذه الفترة، والذين يُسمّون "رَب بيتا" أي "كبير البيت" أو "صاحب البيت"، كما يُعتقد استناداً الى بعض الإشارات الكتابية أنه كان هناك مَجلس شورى أو برلمان مُصّغر، يُعقد للتباحث في شؤون المدينة وأمور إدارتها، يَضّم الشخصيات المُتنفذة والأثرياء وكبار رجال الجيش، وفي الغالب كان البناء المُدرّج المُشابه لشكل المَسرح اليوناني الموجودة أطلاله في ساحة المعبد الكبير مَكاناً مُخصّصاً لهذا الغرض.
أما الدور الثاني فقد أطلق عليه "دور الأسياد"، فقد بدأ في منتصف القرن الأول الميلادي حتى منتصف القرن الثاني الميلادي، حيث كان يقود المدينة خلاله شخص يُلقب بـ"مَرّيّا" أي "السيد" وهو يقابل لقب "أمير"، حيث وَردت أسماء وألقاب بعض من هؤلاء مثل.. "نصرو مَرّيّا" أي "السيد نصرو"، و"نشرهيب مَرّيّا" أي "السيد نشرهيب"، و"مَعنو مَرّيّا" أي "السيد مَعنو"، ويُعتقد أن معظم المَباني الهامة والكبيرة قد تم تشييدها في هذا الدور، وخلاله أيضاً بَرزت الأهمية السياسية للمدينة مُوازاة مع بُروز الازدهار الاقتصادي فيها، وما ساعد في ذلك الاستقرار هو فترة السلم المُنعقدة بين الرومان والفرثيين التي امتدت بين عامي 65_81م.
ليأتي بعد ذلك الدور السياسي الثالث والأخير من تاريخ المدينة والذي عُرف بـ"دور الملوك"، الذي يبدأ منذ أواسط القرن الثاني الميلادي وحتى نهاية عُمر المدينة، وفيه أخذ حكام المدينة يُلقبون أنفسهم بالآرامية بـ"مَلكا" أي "ملك"، ويبدو أن هؤلاء الملوك قد تَسَموا بهذا اللقب، بعد ازدياد رَخائهم وتوسع نُفوذهم وامتداد سلطتهم الى مناطق أخرى واخضاع أهلها لسلطانهم، ومن أبرز هؤلاء الملوك "ولجش" و"سنطروق"، علماً أن النصوص الكتابية المُكتشفة في المدينة، لم تذكر أو تُوضح طبيعة واقعهم السياسي أو المَهَام التي قدموها في هذا الجانب، وكل ما ذكرته هو الاعمال العمرانية التي تَخصّ الجانب الديني، إضافة الى وصف الرَخاء الاقتصادي الكبير الذي تمتعت به المدينة خلال هذه الفترة، والذي يتبيّن بشكل واضح من شكل الملابس والحُلي التي يرتديها ويَتزيّن بها ملوك وامراء المدينة ونِسائهم وعموم الطبقة المُترفة من مجتمعها، والبادية تفاصيلها على تماثيلهم التي تم العثور عليها في مَعابدها وبين أطلالها.
وقد عُرف عن "الحَضر" قوة تَحصيناتها الدفاعية، حيث أنها كانت مُحاطة بسور دفاعي رئيسي دائري الشكل قطره كيلومترين وسُمكه ثلاثة أمتار، تَخترقه أربع بوابات مِزّوَّرة (مُلتوية) تتجه الى الجِهات الرئيسة الأربع ، شُيّد القسم الأعلى من هذا السور باللِبن الكبير الحَجم على أسس من الحِجارة المُنتظمة التي شُيّد بها كذلك قسمه الأسفل لارتفاع يُقارب المترين، وقد زالت بمُرور الزمن الأجزاء العليا منه لذلك لا يُعرف تماماً ارتفاعه الحقيقي، لكن يُعتقد أنه كان بارتفاع يَتراوح ما بين العَشرة والاثنا عشر متراً، ويتقدم السور الذي يَحوي على العديد من الأبراج والقلاع الدفاعية الصَلدة المُشيّدة بالحجر المنتظم، خندق دفاعي كبير عرضه بحدود ثمانية أمتار وعُمقه يَتراوح ما بين أربعة وخمسة أمتار، كما ويُحيط السور الرئيسي طوق تُرابي واطئ يبعد عنه بمَسافة خمسمئة متر، أي أن قطره بحدود ثلاثة كيلومترات، يتراوح ارتفاعه بين متر واحد ومترين، رُصفت أسسه بالحَصى والحِجارة الناعمة بشكل غير منتظم، كان بمَثابة مانع دفاعي أولي حول المدينة وظيفته رَصد تقدم الجنود المُهاجمين من خلال تَسلقهم إياه.
وعندما يَجتاز الزائر تلك التحصينات المَنيعة، سيُلاحظ بشكل واضح أن المدينة تنخفض في وَسطها تماماً، وتحديداً في المكان الذي شُيّد فيه "المعبد الكبير" وتُقابل تسميته بالآرامية "هَيكلا رَبَا"، وأحياناً "بيت إلها" أي "بيت الآلهة" وقد ظن "ولتر أندرية" خطأً لدى مَسحَه المدينة وتفحصه لأطلال أبنيتها، أنه قصر حاكم المدينة، حيث أنه مُحاط بسور مستطيل الشكل مُشيّد بالحِجارة، يَمتد من الشرق الى الغرب أبعاده 320×440م، له مدخل رئيس إضافة الى العديد من المداخل الثانوية الأخرى، وقد تم تقسيمه الى قسمين بواسطة جدار كبير، القسم الغربي شُيّدت فيه مجموعة المعابد الرئيسية المُخصّصة لكبار الآلهة الحَضرية وفي مقدمتها "شَمش"، بأواوينها الكبيرة وخلوة أكبرها ذات التخطيط المربع والأروقة المُسّقفة التي تحيطها، والتي تَعارف الباحثون على تسميتها مَجازاً بـ"كعبة الحَضر"، بالإضافة الى مَعابد ثانوية لآلهة أخرى، أما الجانب الشرقي فقد أحتوى على العديد من المَرافق البنائية التي تَبيّن أنها كانت بمَثابة غرف تجارية ومَكاتب تَرويج عَمليات البيع والشراء، حيث يبدو أنه كان للمعبد الكبير وظيفتين، الأولى دينية والثانية اقتصادية تَتمثل بإجراء المُبادلات التجارية ومُعاملات الصَيّرفة، والى ما هنالك من أمور تحتاجها القوافل المُتجهة من والى المدينة أو المارة بها.
ولعل أهم ميزة وظاهرة معمارية تلفت النظر في المدينة وتُعّد حالة خاصة لأبنيتها هي "الأيوان"، الذي تَراه مُنتشراً في معظم مَعابدها، حيث أنه أعتمد كعنصر أساسي في تشييدها، ومن المعلوم أن هذا الأسلوب الهندسي الفذ في البناء هو عراقي الاصل، ظهرت بداياته في النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد، نتيجة ظروف اقتصادية واجتماعية خاصة سادت المجتمع الرافديني آنذاك، بالإضافة عنصر العمود المُعتمد في بناء معبد الإله "مَرن"، الذي تم تشييده على الطراز اليوناني وكذلك معبد الإلهة "شَحيرو"، كما استخدم أيضاً كعنصر زخرفي جمالي بشكل نصف مُدور على جوانب عقود الأواوين لتبدو للناظر وكأنها تَستند عليها.
وطبعاً لا تقل تماثيل مدينة "الحَضر" ذات الحجم الطبيعي رَوعة عن عَمائرها المَهيبة، رغم طابع الجُمود الذي تَميّزت به والمَنحوتة من حجر الحِلان أو المَرمر الموصلي، والتي تُصور ملوك وأمراء المدينة ونبلائها وكهنتها وتُظهرهم رافعين أكفهم بهيئة الخُشوع، ولعل أشهرها تمثال الأميرة "أبّو بنت دميون" المُنتصب وسط المدينة بجانب معبد "شَحيرو" والتماثيل الشهيرة للملك "سنطروق" وكذلك أمراء المدينة وفرسانها وأثريائها، وينطبق القول أيضاَ على المَنحوتات البارزة والنصف مدورة المُنفّذة على جدران المعابد وعقود مداخلها وأواوينها، والتي غَلبت عليها المَشاهد الحياتية وكذلك الدينية التي تُظهر صور الآلهة ورُموزها بشكل بانورامي مُتسلسل، لتزيد تلك الأعمال الفنية من رَونق وجمالية تلك الأبنية وتَمنحها نَفحة من الحياة، وحتماً أن هذا الأسلوب لابد أن يُذّكر بالمنحوتات المُنفذة على الأطراف العليا لمعابد المُدن اليونانية مثل "البارثيون" في مدينة "أثينا".
من جانب آخر فأنه باستثناء المعبد الكبير قد كانت المدينة عَشوائية التخطيط، بخلاف العديد من المدن التي تأسست خلال هذه الفترة في منطقة الشرق الأدنى القديم، والتي تم تَشييدها وفق نظام التخطيط المُنتظم الذي عُرف وساد في المدن اليونانية منذ القرن الخامس قبل الميلاد، والذي سُميَّ بـ"الهيبوديمين"(2)، ويَرجع السبب في ذلك وكما سبق القول أن المدينة قد استوطنت على مَراحل مُتعددة، وخلال فترات زمنية مُتتالية، بعد أن أتخذ من المعبد الكبير نواة لها ولتوسعها ثم شُيّدت حوله باقي مَباني المدينة ومَرافقها الأخرى، وفي هذا يُمكن ملاحظة أن المعابد قد تم تَشييدها بالحَجر، أما بيوت السكن لعامة الناس فقد جَرى بنائها باللِبن والطين.
أما بشأن نهاية المدينة فقد ذكر المؤرخون في كتاباتهم أنها سقطت عام 241م على يد الساسانيين، بعد أن أعلنت تحالفها مع الرومان ضدهم، إثر إسقاط الساسانيون للدولة "الفرثية" في زمن آخر ملوكها "أرطبان الخامس" عام226م، وذلك رغم قوة تحصيناتها وبَسالة أهلها في الدفاع عنها بعد حصار طويل أمتد لما يُقارب العام، ضَربه عليها الملك الساساني "شابور الأول أبن أردشير" الوارد في الكتابات العربية بـ"ذي الجنود"، الذي تولى الحكم للفترة 240_272م، أما ما ذكره المؤرخون العرب حول قصة سُقوط المدينة والمُتعلق بخيانة أميرتها "النظيرة" بنت الملك "الضَيزن" فيَندرج في باب الخرافات والقصص الخيالية، ولا يَمّت للحقيقة التاريخية بصِلة، وفي الغالب أن المدينة قد أنهكت قواها وتم أضعاف مُقدراتها من خلال ذلك الحصار الطويل، كما يُشير بعض الباحثون الى سبب آخر يتمثل بتَفشي وَباء الطاعون بين السكان حينها وفتكه بهم مما دَعاهم الى الاستسلام.
كما تَم كذلك طرح دراسات أخرى في أواخر القرن العشرين تَناولت هذا الحدث وفق رؤية جديدة، من أكثرها جدارة بالاهتمام تلك التي تقضي بأن مدينة "الحَضر" كانت قد سَقطت مَرتين عبر تاريخها وليس مرة واحدة حسب ما هو مَعروف، الأولى عام 241م على يد الملك الساساني "شابور الأول" كما سبق القول، لكنها ما لبثت أن استعادت فيما بعد شيئاً من كيانها إثر تلك النكبة، لتَسقط مرة ثانية بعد ما يُقارب الثمانين عاماً، على يد الملك الساساني "شابور الثاني أبن هرمز" المُلقب في المصادر العربية بـ"ذي الأكتاف" والذي حكم للفترة 309_379م، وذلك خلال حملته الكبيرة لمُحاربة الرومان والسَيطرة على مناطق غرب نهر دجلة باتجاه "سنجار" وحتى مدينة "حَرّان"، حيث سار على نفس نَهج سَلفه "شابور الأول" وفعل بالمدينة نفس ما عَمله من تقتيل وتدمير وتَخريب، حيث لم تقم للمدينة قائمة بعدها، وقد استندت هذه الدراسة في فكرتها الى تَشابه أسماء المَلكين "شابور الأول" و"شابور الثاني" وتفاصيل الحملات العسكرية والحروب التي شّنها كل منهما حسب ما دَوّناه في حولياتهما، ومقارنتها مع ما ذكره المؤرخون الرومان والعرب من تتابع حكم الملوك الساسانيين وبدايات سنوات مُلكهم، والمناطق التي أخضعوها لسَيطرتهم، وقد وَصَف المؤرخ الروماني "أميانوس مارسيلينوس"(3) أطلال المدينة حينما مَرّ بها عام 363م بأنها (مجرد خرائب وأنقاض خالية من السُكان وتَعصف بها رياح الصحراء المُتربة).

الهوامش:
1_ أرنست ولتر أندرية... عالم آثار ومهندس ورسام ألماني ولد في مدينة "لايبزغ" عام 1875، درس الهندسة المعمارية في جامعة برلين ثم أكمل بعدها دراسته عن آثار الشرق القديم، أشتهر بتنقيباته في مدينة "آشور" التاريخية للفترة 1903_1914، التي حقق فيها نتائج علمية هامة، بالإضافة الى جولاته في مناطق شمال العراق، ألف على إثرها العديد من الكتب، توفي عام 1956.
2_ الهيبوديمين... أسلوب هندسي لتخطيط المدن، أستخدم في بلاد اليونان لأول مرة في القرن الخامس قبل الميلاد، يتمثل في تغطية أرض المدينة المُراد تشييدها بشوارع مُستقيمة كبيرة، تمتد من الشمال الي الجنوب وتتقاطع مع أخرى من الشرق إلي الغرب، لتحصر بينها مساحات صغيرة مربعة الشكل، تضّم داخلها هي كذلك شوارع أخرى فرعية صغيرة مُتوازية ومُتقاطعة مع بعضها، يتم تُشييد الأبنية فيما بينها، مما يجعل تقسيم المدينة يُشابه شكل رقعة الشطرنج.
3_ أميانوس مارسيلينوس... مؤرخ روماني عاش في الفترة 325_391م، صاحب أحد أهم كتب التواريخ في القرن الرابع للميلاد، كتب مؤلفاً يتحدث عن تاريخ روما في ما بين 96_378م، فقدت الأجزاء الأولى منه وبَقيَّ الجزء الذي يتحدث عن الفترة المتأخرة لهذا التاريخ.

المصادر:
_ طه باقر ، فؤاد سفر ... المُرشد الى مواطن الآثار والحضارة / الرحلة الثانية ... بغداد 1962
_ عثمان مصطفى الجبر ... مملكة الحَضر .. دراسة في الفكر الديني ... الرياض 2009
_ فؤاد سفر ، محمد علي مصطفى ... الحَضر مدينة الشمس ... بغداد 1974
_ قحطان رشيد صالح ... الكشّاف الأثري في العراق ... بغداد 1987
_ ماجد عبد الله الشمس ... الحَضر العاصمة العربية ... بغداد 1988
_ واثق اسماعيل الصالحي ... فن النحت في الحَضر ... حضارة العراق/ الجزء الرابع ... بغداد 1985
_ واثق اسماعيل الصالحي ... عمارة الحَضر ... حضارة العراق/ الجزء الثالث ... بغداد 1985
_ D. Oates … Studies in the Ancient History of Northern Iraq … LONDON 1968
_ D. van Buren … The Symbols of The Mesopotamian Art … ROME 1945
_ M. Colledge … Parthian Art … LONDON 1977
_ W. Al_Salihi … The Sieges of Hatra … SUMER, VOL. 46, 1989/1990, BAGDAD








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حاكم دارفور: سنحرر جميع مدن الإقليم من الدعم السريع


.. بريطانيا.. قصة احتيال غريبة لموظفة في مكتب محاماة سرقت -ممتل




.. عائلات المحتجزين الإسرائيليين يضرمون النيران بشوارع تل أبيب


.. بإيعاز من رؤساء وملوك دول العالم الإسلامي.. ضرورات دعت لقيام




.. بعبارة -ترمب رائع-.. الملاكم غارسيا ينشر مقطعاً يؤدي فيه لكم