الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الروها.. ملكة عالم الظلام في الديانة المندائية

سنان نافل والي

2023 / 4 / 7
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لا يمكن الحديث عن عوالم النور والظلام في الديانة المندائية ، دون التطرق بشيء من التفصيل الى شخصية " الروها " . فهي روح الشر ، ملكة عالم الظلام ، أم قائد جيوش الظلام " أور " وهي أيضا أم الكواكب السبعة والعلامات الزودياكية ( البروج الأثني عشر ) (1) وعلى الرغم من تعدد الكائنات الشريرة في عالم الظلام والتي تتميز بقدرة هائلة على فعل الشر ، كما يتضح ذلك من خلال أسماء العديد منها ، مثل " أطرفان " ( يضرب بقوة ، يؤذي )- " أماميت " (معتم ، مظلم) - "كرفيون" (الملتهم) " نمروس " ( الماردة ، الساحقة ، الهارسة ) - " أور " ( قائد جيوش الظلام ، المارد ، التنين ) (2) إلا أن الروها تبقى هي الشخصية الرئيسية والمركزية في عالم الظلام وهي بذلك قريبة إلى حد كبير من شخصية " تيامت " في الديانة البابلية التي تعتبر هي الأخرى الشخصية المحورية في العالم السفلي أو الظلامي ، على الرغم من تعدد الكائنات الشريرة هناك أيضا (البابلية ) والتي تستطيع إلحاق الأذى بكل المخلوقات على الأرض بل وحتى أرواح الموتى كما تشير الى ذلك إحدى التعاويذ :
" عبر الأسوار العالية السميكة ، يمرون كالطوفان
يمرقون من بيت الى بيت
لا يمنعهم باب ولا يصدهم مزلاج
فهم ينسلون عبر الباب كانسلال الأفاعي
ويمرقون من فتحته كالريح
ينتزعون الزوجة من حضن زوجها
ويخطفون الطفل من على ركبتي أبيه
ويأخذون الرجل من بين أسرته" (3) (4)
ولكن بنفس الوقت، ومن خلال النصوص الموجودة في " كنـزا ربــا " وبقية الكتب الدينية ، نرى أن شخصية الروها ليست بذلك الوضوح والبساطة التي عليها شخصية تيامت ، لأن الروها على ما يبدو تمتلك أكثر من شخصية وهي غالبا شخصيات غامضة أو مشوشة وغير واضحة المعالم . بمعنى آخر ، فإنه الى جانب كونها الشخصية الظلامية الرئيسية و الشريرة ، يبدو أنه ( ربما) لم تكن كذلك منذ البداية ، تبدو الروها أحيانا وكأنها لا تنتمي بالأصل الى عالم الظلام أو لنقل أنها تبدو وكأنها أسقطت في عالم الظلام لسبب من الأسباب . طبعا لا يوجد نص صريح بذلك ولكننا نفهم هذا التعقيد في شخصيتها المركبة من خلال بعض السياقات الموجودة هنا وهناك ، على سبيل المثال ، في نهاية الرحلة الأولى التي قام بها الأثرا ( الملاك ) " هيبل زيوا " الى عالم الظلام ، فإنه يأخذ معه الروها ليجعلها تلتقي بآبائها كما نقرأ في النص الآتي :
" أخذت المرآة وتشبهت للروها بهيأة أخيها كاف ودعوتها لنصعد الى آبائها . قالت : وأين هم آبائي . قلت : في العالم الذي فوقنا " (5)
عن أي آباء يتحدث النص هنا ؟ إضافة الى ذلك ، يبدو سؤال " الروها " هنا غريبا وهي تسأل وتنتحب وتكرر سؤالها الى " هيبل زيوا عدة مرات متى أصل الى والدي ؟ " (6) عن أي آباء يتحدث النص هنا ؟ " (7) معرفة الروها بأشياء وتفاصيل دقيقة تتعلق بعالم النور ، تبدو مثيرة للانتباه، مثلما يوضح النص الذي يحتوي على محادثة بين أور وأمه الروها وهما يتحدثان عن " هيبل زيوا " :
" التفت الى أمه سائلا : ماذا أفعل ؟ قالت : يا بني ، أنت ظلام، وهو نور . يقدم عليك فتنكسر ، وأنت لا تقدم لكن هو الذي عنك ينحسر " (8)
من أين لها هذه المعرفة المسبقة ؟
ونص آخر تتحدث فيه " الروها " عن قوة وإمكانية هيبل زيوا:
" قالت الروها لشياطينها: ما كان هذا الرجل منا، ولن يكون. ولا كانت تعاليمه من تعاليمكم ولن تكون " (9)
مرة أخرى ، من أين لها هذه المعرفة ؟ يزداد الغموض المحيط بشخصيتها عندما نقرأ النص المثير والموجود في بوثة( آية ) " أودين وتشبيهان" من كتاب ( سيدرا نشماثا - كتاب الأنفس ) حيث تتحدث الروها بمرارة وحسرة :
"ورفعت الروح - روها- بصوتها وصرخت وقالت: أبي، أبي، لماذا خلقتني ، إلهي ، يا إلهي ، لماذا أبعدتني وقطعتني وتركتني في أعماق الأرض ، وفي غيوم الظلام السفلى ، وليست عندي القوة كي أصعد الى هناك ؟ " (10)
ألا يذكرنا ذلك بصرخة يسوع وهو على الصليب: "إلهي، إلهي لماذا تركتني ؟ " (متى 46:27).
هذا التناقض في شخصيتها ، ما بين كونها كائن ظلامي أصيل وبين بعض الإشارات التي تقدمها لنا بعض النصوص بشكل غير مباشر بأنها ( ربما ) ليست كذلك ، إنما أسقطت أو نفيت الى عالم الظلام في وقت ما من الأوقات ولسبب من الأسباب، يبدو صعبا على الفهم الى حد كبير . بل كيف نفسر ، على سبيل المثال ما قالته " الروها " عندما جاءت الى " دنانوخت " في الحلم وقالت له :
" أنا الحياة منذ الأزل . أنا الكشطا الذي كان في البداية . أنا الضياء وأنا النور . أنا الخطأ ، وأنا الصواب . أنا البناء ، وأنا الخراب . أنا المرض وأنا الشفاء . وأنا الكائن الثري الأقدم من الذي بنى السماوات والأرض ؟ " (11)
نعم ، هي تحاول خداعه، متنكرة بهيئة الحياة أو الحي ولكن يبقى السؤال هو : من أين لها هذه المعرفة بالعديد من صفات الحياة أو الحي ؟ إن إحدى صفاتها التي تقدمها لنا النصوص الدينية ، أنها المسؤولة عن الرغبة والشهوة وهي النقيض من " النشمثا " ( النفس ) وبالتالي هناك صراعا مستمرا بين الأثنين يعكس بالأصل الصراع الذي كان بين عالمي النور والظلام ، إلا أننا أحيانا نجد نصوصا تكون فيها الروها في حالة كبيرة من الضعف والاستسلام ، بل وأكثر من ذلك تبحث هي الأخرى عن الخلاص ، مثلما نقرأ نصا في ديوان " ملكوثا إليثا " والذي تبدو فيه وكأنها النظير أو القرين المشابه الى " نشمثـا " حيث تتحدث الروها وتناجي " نشمثـا " قائلة لها " بحياتك ، بحياتك أيتها النفس ، خذيني معك رفيقة لك، فإن أنا أسأت إليك فتذكريني بالحسنى ، لأني لم أعرفك ولم أفهمك ، لأن من يتحلى بالعطف يجد ما يبحث عنه "
، وفي نص آخر من نفس الديوان ، نقرأ :
" الروح - روها - تنهض من أعماق الجسد وتحتضنها النفس " نشمثا " التي هي نفس " شيتل " وتقول لها " خذيني معك رفيقة لك " (12)
من الممكن أن التناقض في شخصية " الروها " يعود الى أنها يمكن أن تكون هي المنطقة الوسطى بين " النشمثا " ( النفس - عالم النور ) وبين الجسد ( المادة - عالم الظلام ) ، هي متأرجحة بين الأثنين ، بين أن تكون قريبة من النشمثا وتحصل معها على الخلاص المرتجى وبين أن تغوص عميقا في الإغراءات والشهوات والخطيئة التي يمثلها الجسد ، من هنا يأتي هذا التناقض في مواقفها وأفعالها ، ومن هنا فقط نستطيع أن نفهم ، ربما ، سبب اصطحاب الاثرا " هيبل زيوا " لها الى المنطقة الفاصلة بين النور والظلام ، أو الى مكان قريب من عالم النور ولكنه أيضا ما زال موجودا ضمن عالم الظلام. وتركها هناك وحيدة ، إنها يمكن أن تكون إشارة رمزية الى موقف الروح الإنسانية المضطرب والمتردد بين أن تكون في صحبة الخير وطريق الصواب ( النشمثا ) وبين أن تكون في طريق الهلاك والخطيئة ( الجسد وملذاته وشهواته أو الأرض وما تمثله من مغريات مختلفة للإنسان ) ، خصوصا أن الروها توصف أو ترمز أحيانا الى أنها الأرض أو الأم نفسها :
"هيا نشرب من الماء الحي، لقد تحررنا من الظلام المرعب. ويل للذين أحبوك روها ولم يبعدوا أنفسهم عن صحبتك. ويل للذين أحبوا الذهب والفضة، ولم يصعدوا عن الأرض، ولم يبرزوا من داخل أمهم" (13)
ونص آخر من ديوان (ملكوثا إليثا):
" وقالوا لهم ، من هو الذي أنشأكم ، وفي حجر من تربيتم ؟ قالوا تربينا في حجر الروها ، لكن أبي ، إن أبانا قد شكلنا ، هو الذي أسمه الأثير النقي . وقالوا لقد أبغضنا هذا العالم ، أبناء هذا البيت وبيت الأم ) (14) وأن الجسد قد خرج منها ، من رحمها وأنه بعد ممات الإنسان سيعود الجسد مرة أخرى الى رحم أمه ، الى الأرض ، الى الروها ، وقبر الإنسان سيكون هنا بمثابة الرحم الذي يعود إليه الجسد بعد مغادرة "نشمثا" له. إن عدم معرفتها وحيرتها في كيفية الدخول الى عالم النور وعدم استدلالها على أبوابه في رحلتها مع " هيبل زيوا " ، كما يوضح النص التالي ، بينها وبين أور :
" قال : أين آباؤك ؟ قالت : قم بنا نذهب إليهم . قال : فأريني الأبواب . قالت : فتشت عنها قبل ولادتك فلم أجدها . أرعد أور وأزبد ، وأتهم أمه بالكذب . قال : أفعالم بلا أبواب ؟ وهل هناك من آباؤه يغلقون عليه الأبواب ؟ أو تدخلين ولا تعرفين كيف تخرجين؟ أم أنت تكذبين؟" (15)
يمثل حيرة الإنسان بين طريق الخلاص من عالمه الدنيوي والارتقاء الى أصله النوراني وبين طريق الانغماس في العالم المادي واقترابه أكثر من عالم الظلام. لكن الملاحظة الغريبة في هذا السياق، أننا أعتدنا دائما على وجود المعادلة الثنائية في الفكر المندائي "نور وظلام، يمين ويسار ، خير وشر ، نفس وجسد ...الخ " ولكن هنا تتحول المعادلة فجأة لتصبح ثلاثية "نفس، روح، جسد" وهو شيء لم نعتد عليه في السياقات المندائية، سواء على مستوى اللاهوت أو الطقوس.

المصادر والهوامش
(1) كنزا ربا . يسار : الكتاب الثالث .51 .
(2) يقول خزعل الماجدي في تعريفه لأصل إسم الروها : " أما اسم روها فنعتقد أنه مشتق من كلمة ( هور ) التي تدل على مسطحات المياه الكثيرة المنتشرة في جنوب وادي الرافدين ، فإذا خففنا حرف الهاء فيها وحولناه الى ( أ ) فإنه سيتحول الى ( أور ) وهو ثعبان الظلام الأكبر ابن روها ، أما إذا قرأناه بصورة معكوسة فسينتج كلمة ( روه ) وهو لفظ قريب الى ( روها ) ونحن نرى ذلك لأن عالم الأهوار كان يشكل لساكنيه عالما مظلما غامضا غريبا . ثم أنه مكان للمياه الآسنة السوداء وتسوده الحيوانات الغريبة الغامضة " ( خزعل الماجدي : الميثولوجيا المندائية . 226.
(3) عبد المجيد السعدون : أسماء الأعلام المندائية في كنزا ربا . أطروحة ماجستير . ص64-105
(4) وهذا يماثل ما جاء في العبارة المذكورة في أحد نصوص الأواني المندائية " ... وتذهبون إليهم - الناس - بتعاويذكم وأتباعكم ... تحطمون البيوت ، وتخربون الهياكل ، تأكلون الأبناء مثل الجداء ، وتذبحون البنات مثل الأغنام ..." أنظر : فريال زهرون : أواني الأحراز المندائية في المتحف العراقي . أطروحة ماجستير .ص 7
(5) نائل حنون : عقائد ما بعد الموت في حضارة بلاد وادي الرافدين . ص 214-217
(6) كنزا ربا .يمين : الكتاب الخامس .ص101
(7) E.S. Drower : The Secret Adam . P 46-54
(8) كنزا ربا .يمين : الكتاب الخامس .ص108
(9) كنزا ربا .يمين : الكتاب الثالث عشر .ص204
(10) تشير يورين باكلي أن الروها تبدو وكأنها شخصية حكمة (ساقطة) وهي تشبه شخصية صوفيا ( الحكمة ) في التقاليد الغنوصية . أنظر :
Jorunn Buckley : The Mandaeans. Ancient texts and modern people . P 40 .
(11) كنزا ربا . يمين : الكتاب الثامن . ص156
12 ) E.S. Drower : The Secret Adam . P 46-54
(13)E.S. Drower : The Secret Adam . P 46-54
(14)E.S. Drower : The Secret Adam . P 46-54
(15) كنزا ربا . يمين . الكتاب الخامس .ص106








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القضية الفلسطينية ليست منسية.. حركات طلابية في أمريكا وفرنسا


.. غزة: إسرائيل توافق على عبور شاحنات المساعدات من معبر إيريز




.. الشرطة الأمريكية تقتحم حرم جامعة كاليفورنيا لفض اعتصام مؤيد


.. الشرطة تقتحم.. وطلبة جامعة كاليفورنيا يرفضون فض الاعتصام الد




.. الملابس الذكية.. ماهي؟ وكيف تنقذ حياتنا؟| #الصباح