الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التوحّدُ .. التنمّرُ … الإناءُ المصدوع

فاطمة ناعوت

2023 / 4 / 9
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


مازلنا في أبريل، الذي أقرّته الأممُ المتحدة شهرًا للتوعية بـ "طيف التوحُّد"؛ ومن سِماته الانعزالُ والتشرنق وعدم القدرة ولا الرغبة، في التواصل المجتمعي. واليومَ أودُّ الحديثَ عن آفة مجتمعية، قد نفعلُها واعين أو غير واعين، وهي "التنمّر" بالمختلفين عنّا من أبناء المتلازمات النفسية.
تقول الحكايةُ الصينيةُ إن عجوزًا كانت تذهبُ كلَّ صبحٍ إلى البئر حاملةً فوق كتفيها عصا مُعلّقًا بها إناءان من الفخار. أحدُهما سليمٌ ترجعُ به إلى البيت مملوءًا بالماء حتى حافّته، والآخرُ في قاعِه شرخٌ طفيفٌ يتسرّب منه نصفُ الماء في الطريق. وعلى مدى عامين كان الإناءُ السليم يُباهي باكتماله، ويتنمّرُ على صاحبه المصدوع، الذي كان يُطرق برأسه حزينًا، دون أن يردَّ على صاحبه المغرور. ذات مساءٍ، ذهب الإناءُ إلى صاحبة الدار، وقال لها آسفًا: "أودُّ الاعتذارَ عن عَطبي الذي يُفقدكِ نصفَ مائي كلَّ يوم! كما أشكركِ يا سيدتي لأنكِ لم تتخلصي مني رغم قلّة نفعي.” ابتسمتْ السيدةُ وقالت: "مهلاً يا صديقي! ألم تلاحظْ صَفَّ الزهور الجميلة الممتدَ على جانب الطريق من البئر حتى بيتنا؟ صفُّ الزهور ذاك على جانبك أنت، وليس على جانب الإناء السليم الذي يُفاخركَ باكتماله. فحينما انتبهتُ لما تُسميه عطبًا، بذرتُ البذورَ على طول الطريق في ناحتيك. وعلى مدى عامين امتلأ بيتُنا الجميلُ هذا بالزهور التي رواها الماءُ الذي يتسرّبُ من شرخِك. بيتي يا عزيزي مَدينٌ لك بهذا الجمال!”
وكثيرة هي الحكايا التي تؤكد لنا أن ثمة جمالا في كل عيب، وثمة نورًا خبيءٌ في قلب كلّ عتمة، وأن في النقص اكتمالا. بل إن الاكتمالَ التامَ هو النقصُ؛ ليس فقط لأنه محضُ وهمٍ زائف، لأن الكمالَ لله وحده، بل كذلك لأن في النقصِ وجاهةً ورقيًّا ونبلا. في النقصان رِقّة وعذوبة وشيءٌ رهيفٌ من الإنسانية والنبوّة. فجميعُ الأنبياء كانوا بسطاءَ في كل شيء، إلا في أرواحهم العظيمة. ولهذا يتعمّد الفُرْس عمل غرزةٍ معطوبة في سجاجيدهم العجمية فائقة الجمال باهظة الثمن، حتى تتضّحَ اللمسةُ البشرية "الناقصة"، والتي في نُقصانها سرُّ الجمال والاكتمال. ولهذا أيضًا بتر الرومانُ أذرع تماثيل حسناواتهم الرخامية. لأن الجمالَ لا يتأكدُ إلا عبر مِسحةٍ من "النقصان" تُكرّسُ فرادتَه. ولهذا يقول "بولس الرسول"، في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس: “قوتي بالضعفِ تكمُل.”
دعوني أقصُّ عليكم حكاية واحد من عظام المتوحدين في التاريخ. في ديسمبر ١٦٤٢، هتفتِ القابلةُ وهي تستقبلُ المولود الضئيل من رَحِم السيدة الراقدة أمامها: "يا إلهي! إنه أصغر مولود رأته عيناي! انظروا، يمكن وضعه في كوبٍ صغير! لن يعيش هذا المخلوقُ!". لكن الطفلَ الهزيل ستُكتب له الحياةُ رغم حدس القابلة بهلاكه. صحيحٌ أنه سيظلُّ طوال عمره بجسد ضعيف، وصحيحٌ أن أقرانه في المدرسة سيجعلون منه مادةً للسخرية والتنمر، بسبب هزاله وضعف تواصله الاجتماعي لإصابته بمتلازمة "أسبرجر" وهي طيف من التوحّد، حتى أن أحدهم سيبطش به ويصرعه أرضًا بقبضة يده وسط ضحكات الرفاق، لكنه سوف يُعمّر خمسًا وسبعين عامًا، وسوف يحملُ دماغُه الهزيلُ مخًّا استثنائيًا يبزُّ البشريةَ حِدّة وتفردًا وذكاء. مخٌّ نادرُ الوجود سوف يغدو القيمةَ المعياريةَ القصوى على مقياس معدّل الذكاء Intelligence Quotient (I.Q.).
ذاك الطفلُ اسمه "اسحق نيوتن"، الذي سينال اللقبَ الإنجليزي رفيع الشأن "سير" لأنه سيغيّرُ من مسار الفيزياء بقوانينه التي وصفها "أينشتاين"، بعد ذلك بثلاثة قرون، بقوله: "إن كلَّ ما عُرف من العلوم الطبيعية النظرية مَدين لنيوتن. جميع ما وصلنا إليه من علوم وقوانين ليست سوى امتداد طبيعي لآراء نيوتن". بل إن لقبه "نيوتن" Newton سوف ُيطلق بعدئذ على وحدة القوة الفيزيائية. وهي مقدارُ القوة التي لو أثّرت على كيلوجرام واحد أكسبته سرعةً تعجيلية acceleration مقدارها مترٌ في كل ثانية.
وكثيرون هم العظماءُ الذين لم تكن طفولتُهم سوى بعض "صفر"، بمعاييرنا الساذجة. لكنها الحياةَ تحبُّ دومًا أن "تشاكسَ" البشرَ قائلةً ها هي توقعاتكم قد أخطأت! فمتى تتعلمون ألا تتعجلوا الحكم على الآخرين؟َ
وماذا نقول عن "أينشتاين" الذي كان المعلّمُ يطرده في طفولته من الفصل ناصحًا والديه أن يسحباه من المدرسة لأن قدراته العقلية محدودةٌ وغير قادر على التفاعل مع الزملاء. كان "أينشتاين" كذلك متوحّدًا. آمن والدُه بنقصانه وخلله، لكن أمَّه لم تؤمن إلا بتميز ابنها. آمنت أنها قادرةٌ على صناعة معجزة ما. فجنّدت له كتيبةً من المعلمين وأطباء التخاطب وخبراء في تنمية القدرات الاجتماعية، فقدمت للتاريخ نابغةً غيّرَ مسارَ البشرية بنظرية النسبية.
التنمّرُ على الضعفاء، ليس فقط نقصَ أدب، بل كذلك نقص عقل وانعدام إيمان بهدايا الله التي لا تُعدُّ ولا تُحصى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقالة تلامس السحاب
حسنين قيراط ( 2023 / 4 / 10 - 02:55 )
الرايعة فاطمة المعمارية ...فاطمة ناعوت
بعد السلام والتحية ... أولا كل سنة وانتِ طيبة
ثانيا ...أشكرك علي هذه المقالة التي تقطر بأرقي المشاعر الإنسانية ُ
أخيرا أمنياتي وتمنياتي لكل البشر ان يراعوا الجانب الآخر من الحياة ....كما يقول المثل الانجليزي
..( العشب يبدو أكثر إخضرارا علي الجامنب الآخر )


2 - تصحيح خطأ
حسنين قيراط ( 2023 / 4 / 11 - 07:37 )
الرائعة فاطمة المعمارية ...فاطمة ناعوت

اخر الافلام

.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم


.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله




.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah