الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بنات الباليه المائى وبائع الخس

شريف حتاتة

2023 / 4 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مدرسة الباليه المائي وبائع الخس
-----------------------------------------------
أنا عضو في أحد نوادي القاهرة. انضممت إليـه سنة 1948 عندما كنت طبيبا في مستشـفـي قصـر العينى الجامعي، أي منذ ثمانية وخمسين سنة. هكـذا يمكنني ممارسة بعض الألعاب الرياضية . لكـن عـدما أنتهى منها أنصرف ، فليست لي علاقات مع الأعضـاء الآخرين. أحيانا عندما يصفو الجو، وتتراقص أوراق الشجر مع النسيم، أجلس على مقعد مـن الخيزران وأسرح، أو أتأمل التغييرات التي طرأت على الأعضاء والعضوات، أو على أنواع الناس المنضمين إليه.
عشت فيه فترة قصيرة أثنـاء عصـر الملكيـة والاحتلال الإنجليزي. كانت عضويته إذ ذاك مقصـورة على أبناء وبنات الأسر الأرستوقراطية. هذه المرحلـة انتهت سريعا بالنسبة لى . فقد قررت الأرستوقراطية أن مكاني الطبيعي ليس بينهم ، وإنما بين المجرمين في سجن مصر.
في يوم ٢٣ يوليو سنة ، ١٩٥٢ اسـتولى أبنـاء الطبقـة الوسطى من ضباط الجيش على الحكم. لكن على الرغم من خلافاتهم مع باشوات القصر والإقطاع، والرأسمالية الكبيرة كانوا متفقين معهم في بعض الأمور، ومنها أن المكان المناسب لـي لـيـس ملاعب النادي الخضراء ، وإنمـا ليـمـان طـره"، أو سـجون "الواحات الخارجة" أو"المحاريق" في أقصى جنوب الصحراء الغربية.
بعد أن أديت مدة العقوبة التي رأى المجلس العسكري أنها كافية ، لكي أتعلم الدرس، وأكف عن نشاطي الهدام ضد مجتمـع المثل العليا، والعدالة والحرية الذي يقوم في مصر، تم الافراج عنى ، وعدت الى النادي. ذلك لأننى مؤمن بأهمية الرياضة فـي الحفاظ على صحة البدن والعقل ، في ظل نظـام يبـذل قصارى جهوده للقضاء عليها.
هكذا أتيح لي أن أشاهد من جديد التغييرات التي حدثت في الفئات المنضمة اليه، فهي مكونة الآن بشكل أساسي من رجال أعمال ومهنيين وأسرهم. انهم جزء من المستويات الأعلـى للمجتمع، متداخلين مع السلطة الى أقصى حد ، رغـم الضـيق الذي يبدونه إزاءها. وفي هذه الأيام حيـث تداخلت الأمـور ، وأصبح من الصعب التمييز بين اليسار، واليمين، والوسـط، لا غضاضة في أن أكون عنصرا مقبولا في صفوفهم ، رغم اختلافی معهم.
في عيد أول مايو ، عندما كان بعض العمال يتظاهرون من أجل حقوقهم ويضربون ضربا عنيفا من قبل رجال البوليس، كنت أنا في حمام السباحة. وفي هذا اليوم أقام المسئولون في النادي بطولة في السباحة و "الباليه المائي" المستورد من بلاد الكفر. وذلك لعدد من بنات المدارس الإعدادية الخاصة جـدا.
كان الحمام مزدحما بعشرات من البنات لصغاراللاتـي يقفزن الى الماء،والخروج منه ، لتقفزن اليـه مـن جديد، يسبحن وأذرعهن وسيقانهن خارج الماء ، فى حركات توقيعية رشيقة على أنغام الموسيقى الصاخبة المستوردة أيضا من الغرب . هذا بينما جلسـت الأمهات المحجبات على جانبى حوض السباحة ، لتشاهدن براعة بناتهن في أداء مختلف الألعاب. كل هـذا فـي جـو احتفـالي مشحون بالصرخات، والصفافير، والنداءات التي تصـم الآذان، فقد تعودنا أن نقيس مستوى النشاط الذي نقـوم بـه ، بكميـة الضجة التي يحدثها.
كنت أنا غاطسا في الجزء المتروك من الحوض لسباحة الكبار ، عندما لاحظت امرأة شابة في العشرينات مـن عمرهـا واقفة على حافة الحمام. كانت ترتدى ثوبا مكونا من قميص طويل وبنطال ضيق قماشه الفزدقي الفاتح جدا، تتدلى منـه "الدانتلا" في بعض أجزائه. حول رأسها وعنقها كانت ترتـدى حجابا من القماش نفسه، وحول أحد أصابعها خاتمـ مـزود بفص أخضر اللون، كبير الحجم. في ملامحها ، وسـامة فتيـات الغلاف في مجلات بلاد النفط.
كان من الواضح أنها مدربة الأطفال ، و أنها مـن أسـرة مرفهة. كانت تلقى عليهن توجيهاتها بصوت عصـبـي صـارخ ، وباللغة الإنجليزية قائلة : "كام هير" (تعالى هنـا)، "وان، تو، ٹری، فور" (واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة، "إيديوت" (ياعبيطـة)، "ستيوبيد" (ياغبية)، "يو آر نو جود" (انتى مش نافعة) وهكذا. ابتعدت عن مكان التدريبات لأواصـل السـباحة، وقـرب الساعة العاشرة والنصف تركت النادي. كانـت مـعـى بعـض الأوراق التي أردت تصويرها فاتجهت الى حي "حدائق شـبرا" ، الذى أسكن فيه منذ عشر سنوات. وهذا الحي رغم التغيير الكبيرالذي حدث فيه ، مازال يحتفظ بأجزاء خلفية توجد فيهـا بيـوت وشوارع هادئة تظللها الأشجار. وفي أحد هذه الشوارع حانوت لبيع الخردوات ، مملوك لشيخ معمم ، وضع فيه جهازا للتصوير. ركنت سيارتي بالقرب من الحانوت. هبطت منها وأعطيتـه الأوراق ثم عدت لأجلس فيها. كانت السيارة مركونـة بجـوار جامع ، وبعد الجامع بقليل كانت توجد مدرسـة. جلسـت فـي السيارة أشاهد ما يدور في الشارع. بعد قليل فتح باب المدرسة وتدفق منها أعداد من البنات الصغار، "مرايلهن " الزرقاء الفاتحة نظيفة، وشعورهن مضفورة، أو ممشطة بعناية. سرن في الشارع بهدوء، تتحدثن سويا، أو صامتات. بين الحـين والحين أسمع ضحكة لها رنين، ضحكة مشرقة مثـل شـمس الصباح.
أمام الجامع توقفت عربة كارو" يجرها حصـان. كانـت تحمل أكواما من الخس. هبط منها "العربجي" أسـمـر اللـون، نحيف الجسم يرتدى عمامة ممزقة وحول وجهه لحية سـوداء تركها تنمو كما تشاء. لمحته يلقى بنظرة اليّ، سواد عينيه فيه بريق، وفوقهما يمتد حاجبان بارزان . أخذ يرش الخس بالماء من كوز ، وبالتدريج توافد عليه الناس. بنـت مراهقـة مـلات ذراعيها بأعواد من الخس، رجل في مقتبـل الـعمـر، شـعره أشيب ، ابتاع سبعة أو ثمانية "عيدان"، ثم سار في الشارع وعلى وجهه رضى بما يحمله الى البيت. شاب يرتدي قميصا، وبنطالا وقف على الرصيف، فأعطاه قلب أحد "عيدان" الخـس فأخـذ يمضغ أوراقه ببطء.
كان الجو جميلا، وأشعة الشمس تخترق أوراق الشجر ذهبية اللون. بالتدريج اختفى كوم الخس من على العربة، ولم يبق سوى القليل منه، فتناول "العربجي" عودين منه، تقدم بهما ووقف الى جوار الحصان . ثم أخذ ينزع الأوراق ليطعمه بواحدة منها ويمضغ هو الأخرى، هكذا بالتناوب كأنهما رفيقان.
ظل واقفا الى جوار الحصان شاخصا أمامه كأنه سرح في شيء، أرى الحصان يمد "خشمه" اليه ليلتقط أوراق الخـس منه، وأنا جالس في السيارة أشاهد ما يدور، فأشعر بالراحـة تتسرب الىّ، بأن هذا الشارع الصغير بناسه، بالأطفال البنات اللاتي مرون على، بسائق العربة، وحصانه والخس ، أصبحت في هذه اللحظة جزءا منه وأنه سيبقى معى أينما سرت.
من كتاب : " يوميات روائى رّحال " 2008
-------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صورة مفجعة لفلسطينية في غزة تفوز بجائزة -أفضل صورة صحافية عا


.. وسط تفاؤل مصري.. هل تبصر هدنة غزة النور؟




.. خطوط رفح -الحمراء- تضع بايدن والديمقراطيين على صفيح ساخن


.. تفاؤل في إسرائيل بـ-محادثات الفرصة الأخيرة- للوصول إلى هدنة




.. أكاديمي يمني يتحدث عن وجود السوريين في أوروبا.. إليك ما قاله