الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المدرس والخطاب المهني

يوسف مريمي

2023 / 4 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ليسَت المدرسَة مجرّد "فصل دراسيّ" لتعلّم مهَارات ما، وليْس المدرّس مجرّد "معلّم" عارفٍ بالمناهج والبرامج والبيداغوجيات وطرق التعلم وغيرها من "لوازم العمَل"، وليسَت "ساحَة المدرسَة" مجرّد "فراغ" مخصّص لـ "اللعب" و"الاستراحَة" إلى حين دقّ الجرَس. إنّ المدرسَة وعلاوَة على كلّ ذلك، مَشتَل لتعهّد "نباتات إنسانيّة" بالعنايَة اليوميّة، بغيَة ضمَان شُروط صحيّة لنموّهَا، ففِي كلّ بَذرَة ثمّة شجَرَة كامنَة تَنمُو وتتهيّأ للانبثَاق كمَا ذكَر هيغل في محاضراتِه: "في تاريخ الفلسفة" . المَدرسَة والحالُ هذه، فضَاء مفتُوحٌ لبنَاء الوطَن والمواطِن وربطهِمَا بالإنسَان والأرض ومن لفَّ لفّهمَا.
ولأن ذلك كذلك، فإنّ الفاعلين التربويّين في المدرسَة، وكما هو الشأن بالنّسبَة لـ "خبراء المشاتل"، فإنهُم لا يَعبرُون إلَى هذا "المشتَل الإنسانيّ" إلاّ بعْد مرورهِم من مسَارات حياتيّة وتكوينيّة، ودورَات مهنيّة تسعفُهُم في مهمّة صَون صحّة "المشتَل" وتقويّة "مناعَـته" ضدّ كل ما يتهدّده من مخاطِرَ، زيادَة على اختبَار مدَى تملّكهم لمهَارات العمَل علَى الارتقَاء بجودَة المشتَل ونتاجه الإنسانيّ. حينَ يعجَز "المشْتَل" عَن مواكبَة العَصْر، وتكفّ نباتَاتُه أن تنفُخ الحيَاة في الحيَاة، فإنّ ذلك يُعدّ بمثابَة "جرَس إنذَار" يستوجِب "مساءلَة الضّمير" ، ومراجعَة المسَار الذي قادَ "المشتَل" إلى الخرَاب.
لاشكّ أنّ "المَشتَل التربويّ" يشهَد انسدادَات خانقَة، ولاشكّ أنّ تشخيصها يفضِي دوماً إلَى الحَديث عَن تعقيدَات "الأزمَة المركّبَة" التي يُعانيهَا في صلاتِه بمشَاتِل أخرَى تتقاطعُ معهُ كثيراً، بل وتشكّل أحياناً أوعيّة تحتوِيه وتتضمّنه: الدّولَة، المجتمع، الأسرَة، وغيرهَا. لكنّنا في هذهِ المساهمَة، سنتوقّف عنْد حُدود المشتَل ونتساءَل عَن بَعضِ إمكانَات إصلاحِه من الدّاخل، في علاقَة مباشرَة بفاعلٍ أساسيّ فيه: (المدرّس تحديداً)، لاسيّما أنّ ثمّة إشارَات كثيرَة إلَى ضرورَة الانتبَاه إلى "المدرّس" في أيّ عمليّة إصلاح شامِل للمشتَل؛ اعتقاداً أنّه يُجسّدُ "الخبير الأساسيّ" و"المشرف المباشِر" علَى "نباتَات المَشتَل". فهَل يَقتصِر الإصلاَحُ علَى العنايَة بالتّحضير الجيّد للمدرّس بيداغوجيّاً وديداكتكيّاً؟ وأليسَت الحاجَة قائمَة إلى بنَاء تصوّر عصريّ للتدريس بوصفه "مهنَة" قائمَة بذاتهَا؟ وما المهنَنَة؟ وكَيف يمكِن للمهنَنة أن تسعِف علَى معالجَة ما يتعذّر على الديداكتيك التقليدي مُعالجته؟
لعلّ المدرّس كما ذكرنا في البدايَة، ليس مجرّد مدرّس، وإنّما هو فاعل تربويّ لهُ "أدوار مستترة" . لا تشغل المساحَة الفصليّة للمدرّس كلّ المساحَة التربويّة التي له بها صلة، كما يبدُو أن "المساحَة الفصليّة" ذاتها ليسَت مساحَة ديداكتيكيّة كاملَة؛ إذ تخترقُها بياضَات وواقعَات لاَ شأن للديداكتيك بها ، وربّما يقُود إهمالُها أو إساءَة تدبيرها إلَى التأثير السلبيّ علَى "الأداء الديداكتيكيّ" نفسه، ومن ثمّة قيّام الحاجَة إلَى "اليقظَة المهنيّة" تجاههَا، حتّى يؤدّي الديداكتيك الأدوار الموكولَة لهُ.
ليْس المدرّس، وليكُن مدرّس الفلسفَة مثلاً، ناياً سحريّاً، يكفِي النفْخُ فيه لتتلاشَى المشاكل العويصَة للمدرسَة المغربيّة. إن المدرّس فاعل ضمْن مؤسّسَة، وانتماؤه المؤسسي يفرض عليه مجموعة من الالتزامات والضوابط، كما يفضي به إلى جملة من العلاقات التي قد تلامس تأثيراتها حياته برمّتها. للمدرّس أدواراً عليه إتقان أدائها، وتستلزم منه هذه الأدوار أن "يتخلّى عن نفسه"، ويتحلّى بـ "قناع المؤسّسة"؛ إذ يُظَنُ: "أن المدرّس الناجح هو ذلك الممثل الذي يتوفّق في إخفاء شخصيّته الحقيقيّة، بكل ما تحمله من انتماء ثقافيّ وعرقيّ، وكل ما تعيشه من صراع نفسانيّ وطبقيّ، وما تؤمن به من قناعات سيّاسيّة. قدر المدرّس أن يتوارى عن الأنظار لتظهر المؤسسة" . من ثمّة فمأسسة "التدريس" ومهننته ضرورة حيّة لبناء تعاقد واضح حول معنى "الحياة المهنيّة" للمدرّس، لما لها من آثار على معنى "التدريس" بصفة عامة، وما يقترن به من التزامات وآثار على الحياة الفصلية والحياة الشخصية لكل الفاعلين التربويين. حين يتحوّل الإنسان من وضع "المواطن اللامنتمي" مهنيّاً إلى وضع مهنيّ، فإنّ لذلك انعكاسَات شتّى على شخصيّته وحياته وشكل حضوره أمام نفسه وأمام الآخرين وفي المجتمع والدولة أيضا. بمجرّد أن يحمل الإنسان هويّة مدرّس، يفصح عن "انتماء جديد" له خصوصيته وتعقيداته. لقد أضحى جزءا من مؤسسة واسعة، يسري عليه ما يسري عليها من قوانين وتشريعات منظمة، ومن ثمّة إيلاء الأهمية للمؤسسة بوسْمها "بنية أساسيّة لتنمية الحياة المهنية وتأهيل المهن التربوية" ، وعلى رأس هذه المهن "مهنة التدريس".
إن المدرسة الجديدة التي تتغيا الرؤية الاستراتيجية 2015/2030 بلورة أسسها، لم تعد متوقفة على "أنبياء تربويين"، و"مصلحين نوابغ"، وإنّما أمست تؤكد على أهمية "العمل الجماعي التشاركي" في إطار مؤسساتي دقيق وواضح. لم يعد هناك مجال للحديث عن "زعماء": على "بطولاتهم" يتوف نجاح المدرسة وفشلها. لقد حلت مفاهيم جديدة تولي أهمية لمناخ العمل، وتعبره رافعة لتجويد الممارسة المهنية، ونذكر منها: "مشروع المؤسسة"، و"فرق العمل"، و"الجماعة المهنية"، و"مناخ العمل"، و"تدبير القرب". لهذا، فإن التأكيد على "المهننة" يضمر وعياً أن نجاح عمل المدرّس، لا يتوقف على "الحذق الفصليّ" و"المهارات الديداكتيكية" بل تتجاوزها إلى تملّك كفايَة "العمل معَ..."، طالما كانت الحياة المهنية تتخطى الحياة الفصليّة.
لقَد ظلّ "التّدريس" فنّاً (أو علماً حتّى) ردحاً من الزمَن؛ يتوقّف نجاحُه علَى "كفايَات تقليديّة" لزمَ علَى المدرّس تملّك قدراتِها ، وظلّ نموذج "الفقيه التقيّ" محرّكاً سرّياً للاوعيّ المدرّس، فهو القُدوَة والنمُوذج بعلمه وأخلاقه وهيبته، وكأن ثمّة "تعاقُد صامت" حول "هويّة المدرّس" بحُسبَانِه "ضمير المجتمَع"؛ والظّاهرُ أنّ لهذه الصّورَة علاقَة بالمورُوث التقليديّ للإنسان المثَال في المجتمَع المغربيّ، غَير أنّ الطمُوح إلَى تَحديث المجتمَع، ومأسسَة الهويّات، وعقلنَة السّلُوك التربويّ وتجويده، علاوةً على التفكير في مدرسَة للحيَاة والقيم الإنسانيّة المفتوحة على العالم، فَرَضَ التفكير في الانتقال التدريجيّ من النموذج التقليديّ، إلى النموذج العصريّ للمدرّس، ومن ثمّة وجُوب المهنَنة بوصفها مرتكزاً جوهريّاً لتجديد مهَنة التّدريس.
منذ بداية الألفيّة الجَديدَة، بات السيّاق التربويّ المغربيّ أكثر اهتماما بمسألة: "المهنيّة"، وإذا كان الميثَاق الوطنيّ للتربيّة والتكوين لم يخصّص أيّ دعامَة للمهننَة، فقد تحدّث عن مداخل لها علاقة بها من قبيل: "التعليم الجيّد في مدرسة متعدّدة الأساليب"، واقتران الرفع من جودة التربية والتكوين بتشجيع التفوق والتجديد، والعناية بالتكوين الأساس والتكوين المستمر وغيرها. وفي التقرير التحليليّ حول: "تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين 2000-2013: المكتسبات، المعيقات، التحديات، دجنبر 2014"، الصّادر عن المجلس الأعلى للتربية والتكوين، إشارة إلى تحولات مهنة المدرس، والحاجة إلى مرجع كفاياتيّ للمهنة، "فمدرّس اليوم أصبح مطالباً بالتوفّر على الكفايات التي تسمح له بتجديد طرق التعلم، وتحفيز فضول المتعلم، وتنشيط جماعة القسم، وتوجيه التلاميذ في استعمال تكنولوجيا الإعلام، وينبغي أن يستبق النظام التربوي التطورات التي ستعرفها مهنة المدرّس مستقبلاً" ، وقبل هذا التقرير أكد المجلس الأعلى للتعليم سنة 2008 على وجوب الانتباه إلى إعادة النظر في "مهنة المدرس"، موصيّاً بالعنايَة بثلاثة مجالات للتجديد: الكفايات، والتكوين، والبحث، والتقويم، والارتقاء المهني أولها، والحقوق والواجبات المهنية ثانيها، ودور المدرس والمكون في إنجاح المدرسة المغربية الجديدة ثالثها ، غير أن الحديث عن المهننة والمهنيّة سيشرع في التشكّل البديّ مع الرؤيَة الاستراتيجيّة خاصّة في "الرافعة التاسعة" التي حملَت عنوان: "تَجديد مهَن التدريس والتكوين والتدبير: أسبقيّة أولَى للرّفع من الجَودَة" ، وسيعقب ذلك إصدار عدّة تقارير تهتم بالمهننة، أهمّها: تقرير الارتقاء بمهن التربية والتكوين (2018)، ورأي المجلس في موضوع: "مهن التربية والتكوين والبحث آفاق للتطوير والتجديد" (2019).
تلازَم الحَديث عَن المهننَة، والحال هذه، باقتنَاع مؤسسيّ أنّ الوقْت حانَ للعنايَة بمؤَشّر الجودَة، بعْد النتائج الإيجابيّة المحقّقَة على مستوَى "تعميم التعليم" . لقَد وعت الرؤيَة أننا بصدد "جيل مهنيّ مغاير"، فأكّدت على المهنَنة، واعتبرتها جوهريّة في تَجويد الممارسَات المهنيّة، ووعى المجلس الأعلى للتربية والتكوين أن هناك تحولات عميقة تشمل كل مناحي الحياة، فأدرج مسألة ملاءمة مهن التربية مع العصر في جدول أعماله، والمهنية في هذه الحال، لم تَعُد محددة بامتلاك كفايات تقليدية تقوم على امتلاك تصوّر حول ما ينبغي فعله في وضعيّات معينة، وإنّما تتخطّى ذلك إلى التمرن على الفعل حيثما لا يملك "المهني" فكرة واضحة بشأن ما ينبغي فعله، "إن المسألة المطروحة في نموذج الكفايات هي ما العمل حينما لا يقال لي ما يجب القيام به؟"
ترتكز مجمُوع العمليّات الهادفَة إلى "مهنَنة التدريس" على تعزيز التكوين المعرفيّ والمنهجيّ، علاوة على التنظيم المؤسّسيّ والتحكّم في الأطر الأساسيّة المحدّدة لمهنَة التدريس ولوجاً، وممارسَة، وتقويماً، وما يتصل بذلك من تعاقدات تخص الحقوق والواجبات "والثقَة" من ناحيّة، ومن ناحيّة ثانيّة، وحتّى لا يشكّل هذا المنحى الأوّل "كابحاً" أمام حرّيَة حركَة الفاعل التربويّ (المدرّس)، فإنّ الرؤيَة تحثّ علَى ضرورَة إفسَاح المجَال أمام الذّات التربويّة للابتكار الحر، والمبادرَة الذاتيّة. يظهَر أن الرّهان الأساسيّ من المهنَنة، له صلَة بالارتقَاء بأوضَاع هيئَة التدريس، وتهيئتها لممَارسَة مهامّها في مجَال مهنيّ واسِع لا يتوقّف عند حُدود الفَصل الدّراسيّ، بَل يَتجاوزُه إلى الانخرَاط في "المجتمَع المدرسيّ الواسِع"، ممّا يَقتضِي تَكويناً عصريّاً يسمَح للمدرّس بأن يَكون فاعلاً ومبادراً وقادراً علَى "حلّ المشكلاَت"، والتعرّض المنهجيّ والمهاريّ للطارئ والمستجَدّ.
يُمكن اعتبَار المدرسَة فضَاء للطارئ، فلا يكَاد يَنقَضي يوم دون أن يلتقِي المدرّس بطوارئ، قَد تَكون لها انعكَاسات جمّة علَى مسَاره المهنيّ ووضعِه الاعتبَاريّ، وبالتّالي فإنّ "المهْنَنة" لا تَعْني تملّك "أدوَات الحرفَة" البيدَاغوجيّة والدّيداكتيكيّة فحَسب، وإنّما تتخطّى ذلك إلَى امتلاكَ المدرّس كفايَة إدارَة الطارئ بذكَاء سوَاء تعلّق الأمر في علاقَاته بجمَاعَة الفصْل، أم بجمَاعَة المدرسَة بكاملهَا ومَا قَد يشْهدانِه معاً من حركَات منفلتَة أحياناً. يكَادُ الطارئ يَكون وضعاً طبيعيّاً للفَصْل والمدرسَة، وفِي غيّاب الوعْي بما يخلّفهُ من آثَار وانعكَاسَات، سيظَل المدرّس معرّضاً لخَطر "المنفلِت"، دون أن يَجدَ في مواردِه ومهارَاتِه ما يسعفُه علَى حسْن إدارتِه والتحكّم في نتائجه، لذا تقتَضي "المهنيّة" تَمكين المدرّس من الأدوات المنهجيّة الحيّة الكفيلَة بمساعدَته علَى إدارَة هذه الوضعيّات الطّارئَة.
في تقريره حول: "الارتقاء بمهن التربية والتكوين والبحث والتدبير" ، عدّ المجلس الأعلى للتربية والتكوين المهننة مرتكزاً أوّلاً (إلى جانب مرتكزي المؤسسة، وتقييم الأداء المهني) في تأهيل وتجديد مهنة التدريس، واختصَر المهننة في أبعاد ثلاثة:
• ركّز التقرير في البعد الأول على إكساب الفاعل التربوي كفاية المبادرة والابتكار والنقد وتطوير الممارسة، وتحدث التقرير في هذا السياق عن "الاستقلالية الوظيفية"، مبيناً أن هذه الاستقلالية لا تعني الإخلال بالمقتضيات القانونية المنظمة لمهن التربية والتكوين، كما ورد في هذا البعد الأوّل التأكيد على أهمية التأمّل الذاتي (La réflexivité)، في: "تنميّة القدرات والمهارات الجديدة التي يتطلّبها الوضع الجديد للمهنة (...)، وكذا التكيف مع الوضعيات المختلفة التي تمارس فيها المهنة التربوية"، والتبصّر بحسب ذات الوثيقة: "عامل ابتكار وتجديد، ينقل الفاعل (ة) من وضع المنفّذ والمطبّق لخطط وبرامج مسبقة، إلى وضع المبتكر الذي يمارس عمله بكيفية معقلنة وهادفة، وفي نطاق استقلاله الذاتيّ، ويبادر بابتكار صيغ جديدة للعمل التربوي يكيفها مع مختلف الوضعيات ومستجدّات السيّاق، والمواقف المعقّدة".
• أمّا البعد الثاني فيقوم على وعي بالقاعدة التشريعيّة والمؤسسية للمهنَة، وفيه حديث عن الكفاية المهنية، والتمكن المهني، والهوية المهنية والتنمية المهنية، وما يستلزمه كل ذلك من اعتراف مؤسسي، يضمن للمهنة المكانة الاعتباريّة والقانونية اللائقَة بها.
• في حين يتوجّه البُعد الثالث إلى الانفتاح على التنظيمات الذاتية والمهنية للفاعلين التربويين، وأهميتها في تعزيز الانتماء إلى الجماعة المهنية.
وارتباطاً بهذه الأبعاد الثلاثَة، تحدّث التقرير نفسه عن المهننة بثلاثة مداخل للتجديد، يؤكد المدخل الأول على وجوب إرساء دعائم إطار مرجعي وطني واضح ودقيق للمهن أولا، وقيمها ثانياً، ويذهب المدخل الثاني إلى الاعتناء بالاستعدادات المهنية لولوج المهنة، أما المدخل الثالث فإنه ركّز على أدوار الجمعيّات المهنية في المهننة التربوية والتدبيرية للفاعلين التربويين.
فيما يخصّ المدخَل الأوّل، فإن التقرير يؤكد على ضرورة بلورة أطر مرجعية مهنية لمجمل الفاعلين التربويين، تحدد مواصفات وشروط وأداور ومهام كل فاعل، وتصير بمثابة مراجع للاحتكام في تحديد المسؤوليات والترقي وغيرهما، كما يرسم التقرير نفسه إطارا عاما لهذا المدخل تؤطره مفاهيم: الاندماج المهني، المبادرة الذاتية والاستقلالية، والعمل الجماعي والتعاقد المؤسسي، والتنمية المهنية، محدّدا كفايات مشتركة تهم كل الفاعلين التربويين، وتهم أبعادا متعددة: معرفية، وبيداغوجية، وتواصلية، وقيمية، وإبداعية تسعف على التنظيم وحسن التدبير والابتكار . أما بالنسبة للشق الثاني في هذا المدخل، فيرتبط بمسألة القيم، بالنظر إلى أهمية الاستناد إلى "مرجع مهنيّ" في تشكيل "الهوية المهنية" تلافياً للتشويش الحاصل في تصور الفاعل التربوي لنفسه ولدوره في المجتمع المدرسيّ، ولقد توقف التقرير عند المسؤولية الأخلاقية الأساس للفاعل التربوي وحددها في حس المسؤولية تجاه المتعلمات والمتعلمين وتجاه المؤسسة من جهة، والحس المدني مثلما هو متعارف على قواعده، كما توقف التقرير كذلك عند الالتزام المهني والانضباط، والإشعاع الفكري والتربوي، والعلاقات المهنية وما يفترضانه من قيم مساعدة على بناء "مناخ عمل" صحيّ يعين على البذل والعطاء، علاوة على الانتباه إلى التحولات المتسارعة للمهن في الزمن المعاصر، وما يستلزمه ذلك من وعي مجتمعي وتربوي لملاءمة الخطاب التربوي والمدرسي مع هذه التحوّلات. ووعيا بما لمناخ العمل من أهمية ظاهرة في تجويد الممارسة المهنية، يتأكد من خلال هذا التقرير أهمية إقرار "ميثاق مهني" قيمي، يرسخ "أخلاقيّات المهنَة" بوصفها أساسا من أسس الارتقاء بالمنظومة التربوية.
أمّا بالنسبَة للمدخل الثاني، فيمكن اعتباره تتمة لما سبق للميثاق الوطني للتربية والتكوين أن نبه إليه من وجوب ضبط معايير ومواصفات واستعدادات المترشح لمهنة تربوية ما، وتكييف التكوين الأساس والمؤسسات المتدخلة فيه مع الانتظارات الكبرى من المدرسة، والحرص على مواكبة الملتحقين بهذه المهن أثناء ممارستهم الأولى لها لتيسير اندماجهم المهني.
وقد توقف التقرير في ختام مداخله على أهمية التنظيم الذاتي في إكساب المهن التربوية تميزاً مجتمعياً، وهوية متفردة تسمو بهذه المهن في المجتمع، وتسهم في تعزيز الانتماء المهني والانخراط المسؤول في التفكير الجماعي في إشكالات المنظومة وتحدياتها، ولعل الإلحاح في الارتقاء بها إلى منزلة "شريك" في تدبير القطاع، يترجم قناعة مؤسسية بالحاجة إلى هذه التنظيمات الذاتيّة لإنجاح عمليّة المهنَنة، بما هيّ: "مجموع العمليّات التي تستهدفُ تحويل نشاط ما إلى مهنة اجتماعيّة منظمّة، يحرّكها إنتاج موضوعات أو خدمات معيّنة، ولها إطارها التنظيميّ والاجتماعيّ، وقواعدها ومتطلباتها الخاصّة بالأداء المهنيّ" .
تَبدُو المدرسَة وكأنها "مجتمَع مصغّر"، ويمكن اعتبارها أحياناً مرآة عاكسَة لـ "المجتمع الواسع" الذي تَنتمي إليه؛ مثلمَا يُمكن أيضاً اعتبَار المجتمَع بدوره مرآة عاكسَة للمدرسَة التي تخرّج منها. بيْن المدرسة والمجتمع علاقة جدليّة، فهما يتبادلان التأثير والتأثر، ويصعب كثيرا الفصل بينهما، فلَقَد يراهَن على المدرسَة من أجل الإقلاع المجتمعيّ وعلاج أمراضه، مثلما قَد يُنظَر أن "إصلاح المدرسَة" لا تمام له إلاّ بـإصلاح شامل للمجتمع، وبيِن الاثنَين تحضُر "الدولَة’" بوصفهَا "مؤسّسة المؤسسّات" التي إليهَا يوكل أمر الإشراف على تدبير الشأن العام، ومنه الشأن المجتمعيّ عامة، والشأن التربويّ ضمنه. ولكلّ هذه الاعتبارات فإن الارتقاء بمنظومة التربية والتكوين ومهنها، لا يكون بالانحباس ضمْن "تصور ضيّق" يعزل المهن التربوية عن بعضها البعض، مثلما يعزل المواد الدراسية والمتدخلين فيها عن بعضها، وإنّما يظل الرهان على تصور موسع لهذه المهن، تأخذ بعين الاعتبار "أس مشترك للكفايات المهنيّة" ، أوصى المجلس الأعلَى للتربية والتكوين، بالنهوض بها على أساس أن تمس مجالات: المعارف، واللغات، والقيم، والكفايات، وهو الأس الذي بإمكانه ضمان توازن مفيد في الحياة المهنية بين الحياة الفصلية الضيقة، ومناخ العمل في عموميته، طالما أن "المدرسة" ليست مجرد "فصل دراسي"، بقدر ما هي أرضية التقاء جماعات متعددة ومتقاطعة ومتصارعة أيضا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل وحماس تتمسكان بموقفيهما مع مواصلة محادثات التهدئة في


.. إيران في أفريقيا.. تدخلات وسط شبه صمت دولي | #الظهيرة




.. قادة حماس.. خلافات بشأن المحادثات


.. سوليفان: واشنطن تشترط تطبيع السعودية مع إسرائيل مقابل توقيع




.. سوليفان: لا اتفاقية مع السعودية إذا لم تتفق الرياض وإسرائيل