الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سعفةُ نخيلٍ خضراءُ … من أجل مصرَ

فاطمة ناعوت

2023 / 4 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



غرقت مصرُ في أخضرها مع عيد الشعانين أو "أحد الزيتونة" أو "أحد السعف"، الذي يحتفل فيه المصريون بجدل سعف النخيل تذكارًا لدخول السيد المسيح، عليه وعلى والدته السلام، إلى مدينة القدس الشريف، حيث استقبله أهلُها بأغصان الزيتون وجدائل سعف النخيل وفروع الأشجار، وفرشوا ثيابهم تحت قدميه الشريفتين ليسير عليها مُكلّلاً بالمحبة والنصر وأكاليل الغار، كما يليق برسول السلام والمحبة الذي جاء ليعلّم الناسَ أن يجولوا يصنعون خيرًا وأرشدهم كيف يواجهون الشرَّ بالمحبة، ويغفرون للمُسيء ويُحبّون العدوَّ من بني الإنسان وإن آذاهم، فيتضامنون معه من أجل محاربة عدو البشرية الأوحد، عدو الخير، الشيطان. وبدأ "أسبوعُ الآلام"، الذي سار فيه السيدُ المسيح على طريق الآلام الوعرة من باب الأسباط حتى كنيسة القيامة بالقدس الشريف، في مثل هذا الأسبوع من ألفي عام، حاملاً صليبَه الخشبيَّ الهائل، وحاملاً آلامه وجراحه ودماءه ورجاءه في خلاص البشر من شرور العالم وخطايا بني الإنسان، واضعًا إكليلَ الشوك على جبينه النقيّ من الدنس، يقطرُ منه الدمُ الطاهر. وحين ظمِأ السيدُ المسيح، قدّم له جندُ اليهود والرومان كأسَ الخلّ لكي تخفَّ آلامُ جروحه قليلا، لكنه رفض أن يحتسيه لكي يتجرّع الألمَ حتى مُنتهاه، لقاء قوله الحقَّ في وجه سلطان جائر. وكان في أثناء رحلته الشاقة على تلك الطريق القاسية يقوم بتعزية المريمات وصبايا أورشليم المنتحبات عليه، طالبًا منهن أن يتوقفن عن البكاء. وينتهي أسبوعُ الآلام الأحد القادم بعيد القيامة المجيد، الذي يُنهي فيه أشقاؤنا المسيحيون صيامَهم، ومازلنا في شهر رمضان الكريم، تقبّل اللهُ منهم ومنّا صيامَنا جميعًا.
ومازلتُ أتذكّرُ ذكريات طفولتي في هذا العيد المبهج: “أحد السعف”. في مثل هذه الأيام الربيعية الجميلة، كنا نجمع عيدان السَّعف ونتبارى في جدلها لنصنع أشكالا رائعة نضعها على رؤوسنا تيجانَ، أو نلبسها في أصابعنا خواتمَ وفي معاصمنا أساورَ، أو نصنع منها حِملانًا وطيورًا وعصافيرَ وفراشاتٍ نعلّقها على جدران غرفنا، أو ندُسُّها تحت بلورات مكاتبنا، أو نهديها لأصدقائنا ومعلّمينا في المدرسة. ولا ننسى أن يصنع كلٌّ منّا تاجًا جميلا من السعف، ثم يركضُ إلى أمّه ليتوّجها به، فنحصدُ من أمهاتنا تلك الابتسامة الجميلة المحفورة في قلب كلٍّ منّا، وكأنها صكُّ الحياة. ومازلتُ حتى اليوم أشتري كل عام باقةً من سنابل القمح المصري الفاتن، أعلّقها على باب شقتي مثل سنبلة من الذهب؛ وتلك عادة مصرية قديمة توارثناها عن أجدادنا، تجعلنا نطمئنُ أن سنبلة القمح تلك تجلبُ الخير وتمنعُ الشرور من دخول البيوت.
وحين تدور الأرضُ دورتَها حول الشمس كلّ عام، ويدورُ القمرُ دوراتِه حول الأرض، ويترافق التقويمان الشمسيُّ والقمريُّ على طريق الزمان، يحدث أن تتداخل السنةُ الميلادية مع السنة الهجرية فيتزامن صيامُ شهر رمضان المعظم مع صيام أشقائنا المسيحيين صومهم الكبير. حين يحدث هذا التزامنُ يمتدُّ ثلاث سنوات متعاقبة، بدأ الماضي ويستمر العامَ القادم بإذن الله. لهذا فجميع المصريين مسلمين ومسيحيين صائمون هذه الأيام، نرفعُ أكفّنا جميعًا ضارعين بالدعاء لكي يحمي اللهُ مصرَ ونيلَ مصرَ وشعبَ مصرَ من كل شرّ، وأن يردَّ كيدَ الحاقدين إلى نحورهم حتى تعلو مصرُ كما يليق باسمها الشريف. يجمعنا حبُّ مصرَ، وقانونُها الخالد: الحق الخير الجمال.
في زمن الطفولة المصرية البريئة، كنّا نفرحُ بكل عيد، فهو عيدُ مصر كلها. نحتفلُ مع المسيحيين في أعيادهم، ويحتفلون معنا في أعيادنا. لم نكن نقول عيدنا وعيدكم. فكل عيد يخصُّ مصرَ هو عيدٌ للجميع. ونحن صغار، أيام الزمن الجميل، كنّا نفرح معًا ونلعب معًا ونحتفل بأعيادنا معًا؛ لأن مصرَ الطيبةَ تجمعنا معًا، وقبل هذا تجمعنا الإنسانيةُ الواسعة. العقائدُ شأنُ الله وحسب وشأنُ كلّ إنسان على حدة مع الله تعالى، أما المحبة والإخاءُ والوطنُ فهي شأننا جميعًا معًا. علّمنا أهلُنا الطيبون في بيوتنا ومعلمونا الطيبون في مدارسنا أننا جميعًا نعبد إلهًا واحدًا، لأن لهذا الكون ربًّا واحدًا، كلٌّ يراه عبر منظوره وعقيدته، فلا موجبَ مطلقًا للخلاف، وثمّة ألفُ موجب للتوافق والحب والإخاء.
أكتبُ لكم هذا المقال وأنا أجدلُ السعفَ مع أطفالي وأسرتي، وقد امتلأت شوارعُ مصر بسنابل القمح وجريد النخيل. ندعو الَله أن نصطفّ جميعًا، نحن المصريين، قلبًا واحدًا وحُلمًا واحدًا ويدًا واحدة تحمل أكاليلَ السَّعف لنستقبل بها مصرَ الحرّة الكريمة الناهضة المكللة بأوراق الغار، ونقدّم لها سعفة نخيل خضراء ريّانة بالعمل والأمل والوطنية والحب. كل سنة وأقباط مصر مسلمين ومسيحيين بخير وفرح وأمان ومحبة، ومصر في حرية وتحضّر.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إليكم مواعيد القداسات في أسبوع الآلام للمسيحيين الذين يتّبعو


.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم




.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله


.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط




.. 102-Al-Baqarah