الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدلية القاتل والمقتول

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2023 / 4 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


١ - الغاية والوسيلة

هناك فكرة قديمة متداولة مفادها أن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يمارس القتل مجانا ومن أجل القتل وليس من أجل البقاء كما تفعل الحيوانات الأخرى. هذه الفكرة أو الحكمة لا تنطبق في الحقيقة على كل الحالات ولا تغطي كل الواقع العام لظاهرة القتل. رغم وجود حالات نادرة باتولوجية يستمتع فيها القاتل بالقتل والتمثيل بجثت ضحاياه، مثل جاك السفاح وجزار روستوف وخانق بوسطون وغيرهم من القتلة المعروفين الذين يعانون من إضطرابات نفسية عميقة أدت إلى قيامهم بهذه الجرائم المتسلسلة طوال أعوام حتى لحظة القبض عليهم، وقتلهم بدورهم. إذا أستثنينا هذه الحالات النادرة فإن القاتل في أغلب الحالات يقتل لأن هناك من يدفع له ثمن جريمته، سواء كان ذلك على المستوى الفردي - القاتل المأجور أو المرتزق - أو على المستوى الجماعي المنظم كالعصابات الإجرامية الكبيرة مثل المافيا وكوزا نوسترا وعصابات تهريب المخدرات الكبرى في أمريكا الجنوبية، أو المؤسسات العسكرية كالجيش والشرطة أو أجهزة الأمن والمخابرات المختلفة والتي هي وظائف حكومية ذات رواتب وإمتيازات محددة ومعروفة، وذات هدف واحد يتيم هو شن الحروب والغارات وممارسة القتل لحماية مصالح إقتصادية وسياسية للجهة التي تدفع رواتب هذه الفئة من القتلة الشرعيين. فالقتل في نهاية الأمر مجرد "حرفة" يمارسها البعض لكسب قوته وقوت عياله، وفي هذه الحالة، الإنسان يقتل ليأكل مثله مثل أي حيوان مفترس. وفي حالات أخرى يستخدم الإنسان "قوته" الحيوانية بطريقة منظمة ولأغراض مختلفة ولا تتعلق بالبقاء وحده. فالقوة الحيوانية، إذا استعملت في مجالها الطبيعي ستمكن الحيوان من البقاء والحفاظ على حياته في الغابة أو في الصحراء، في البحر أو في السماء كما تفعل كل الحيوانات والأسماك والطيور، تأكل بعضها البعض، القوي يأكل الضعيف والكبير يأكل الصغير. والإنسان ككائن متطور وككائن أجتاز منذعدة قرون مرحلة تسلق الأشجار كالقرود، كان عليه أن يجتاز أيضا فكرة إستعمال قوته الحيوانية ويتخلص من فكرة الهيمنة والسلطة والقوة، لأنه لم يعد يحتاج كفرد لهذه القوة للحصول على غذائه وضمان بقائه، نتيجة اندماجه في حياة اجتماعية وكونه يعيش مع أفراد آخرين يشكلون هويته كإنسان تحكمه التزامات إنسانية وقوانين أخلاقية تضمن له البقاء والمساندة والمساعدة من بقية أفراد المجتمع. إلا أن الإنسان، أو بالأحرى المؤسسات التي تدعي أنها تمثل الإنسان، ما تزال مستمرة في استعمال هذا السلاح البدائي "القوة" للحصول على أشياء أخرى مثل السلطة والجاه والثروة وهي أشياء لا تتعلق بالبقاء مباشرة وإنما بالسيطرة على بقية أفراد القبيله، وهي عادة إنسانية وليست حيوانية بأي حال من الأحوال. الإنسان استمر في تطوير هذا الجانب الحيواني المتخلف "القوة" لإستعماله في أغراض إنسانية بحثة مثل تجميع الثروة والإستحواذ على أراضي الآخرين وفرض آرائه ورؤيته للعالم وإستعباد بقية البشر ليخدموا أغراضه الخاصة. واليوم أصبح القتل ظاهرة عامة ويومية ولم نعد نستطيع تعداد الجثت ولا تحديد أماكن المجازر اليومية، وأصبحت مقولة ستالين المشهورة يمكن أن تكون عنوانا لكل الصحف اليومية " موت إنسان واحد يعتبر مأساة، وموت الآلاف مجرد إحصائيات ". ونذكر هنا سلسلة القصص المصورة اليابانية (مانجا) والمعروفة بإسم "مذكرة الموت" للكاتب "تسوجومي أوبا" والرسام "تاكيشي أوباتا"، للتدليل على بؤس العقل الإنساني المعاصر وضمور خياله وعقله لدرجة تبعث على اليأس والإحباط. أحداث القصة تدور حول شخصية "لايت ياجامي"، وهو طالب في المرحلة الثانوية من دراسته، ذكي على ما يبدو وذو خيال واسع، يحب الخير والهدوء والنظام، ويؤرقه ما يراه حوله من شرور وجرائم تثير القشعريرة في جسده كلما فكر فيها ناهيك عن الفساد الذي استشرى في كافة طبقات المجتمع. وقد عثر ذات يوم بالصدفة على مذكرة لها قوة سحرية خارقة للطبيعة وتحمل اسم Death Note (مذكرة الموت) تمنح لمستخدمها القدرة على قتل أي إنسان عن بعد وبدون أن يلمسه، شرط أن يكون قد رآه في السابق، وذلك عن طريق كتابة اسم الضحية في المذكرة مع تذكر واستحضار صورته في المخيلة، فالإسم وحده لا يكفي لتعيين الضحية لوجود أناس كثيرين يحملون نفس الإسم كما يبدو. وتسرد أحداث القصة محاولة "لايت" لإقامة عالم تتوفر فيه السعادة والأمن، مكونا من البشر الذين يحبون الخير، خالِ من الشر والجريمة، ويكون، بطبيعة الحال، هو الحاكم المطلق لهذا العالم المتخيل وذلك باستخدام المذكرة السحرية لقتل كل من يعتقد كونه شريرا، وينظف العالم من البشر الذين لا يستحقون الحياة في نظره. ولا نشك أننا نسبح هنا في عالم الشر ذاته، وهو نفس البرنامج الذي قامت عليه كل دكتاتوريات العالم، أي إختيار البشر الذين يستحقون الحياة حسب المعايير التي تختارها وتدمير البقية. الإعتقاد الطفولي بأن الجريمة توجد لأنه هناك مجرمون، التخلص من المجرم وقتله يعني محو الجريمة من المجتمع، ناسين حقيقة بسيطة وفي منتهى البساطة، وهي أن المجتمع ذاته هو الذي ينتج المجرم والجريمة معا، فليس هناك من يولد مجرما أو قاتلا منذ اليوم الأول لحياته، وإنما نخلق مجرمين وقتلة ونكونهم وندربهم في مصنع المجتمع الكبير. وننسى حقيقة أخرى أكثر بساطة من الأولى، بأنه من المستحيل أن نخلق مجتمعا يخلو من القتل مستعملين القتل كوسيلة للوصول إلى هذا الهدف، فالوسيلة التي نستعملها لا يمكن أن تكون متناقضة مع الهدف المنشود. فالغاية لا يمكن أن تبرر الوسيلة، بل على العكس من ذلك، الوسيلة جزء لا يتجزأ من الهدف المنشود ولا يمكن أن تنفصل عنه أو تكون في تناقض معه. ولكن هذه البديهيات البسيطة عادة ما تغيب عن عباقرة الفكر والفن والفلسفة والسياسة. وعندما أبدى البعض إشمئزازهم وتقززهم وإدانتهم الشديدة للطريقة الهمجية التي قتل بها الديكتاتور القذافي، أجاب الجميع وتقريبا بدون إستثناء بأنه يستحق هذه الموتة الشنيعة وبأنه لا داعي لمحاكمة مثل هذه المخلوقات، ولا داعي لتبديد الوقت والأموال، بل يجب قتله وفي أسرع وقت ممكن، مثل كلب. بطبيعة الحال، الطريقة التي نعامل بها الأعداء تدل على هوية المجتمع بكامله وتشير بما لا يدع مجالا للشك إلى المستقبل الذي ينتظره. رفضنا للقتل وعقوبة الإعدام دافعه ليس الرأفة بالمجرم أو بالمحكوم عليه بالموت، وإنما بالقتلة أنفسهم وبالمجتمع الذي يمثلونه. لأن قتل الدكتاتور القذافي وصدام حسين تم بإسم الثورة وباسم الشعب العراقي والليبي بأكمله. ونحن نعرف أن الذي يقتل مرة ويتذوق طعم الدم، فإنه سيواصل القتل مرات ومرات، وهذه هي الدوامة التي تعاني منها ليبيا والعراق وسوريا، ومصر، وغيرها، حمامات يومية من الدم والإغتيالات والتفجيرات والحرائق، وصراع مستميت على كراسي السلطة وما يتبعها. بطبيعة الحال، الأمر لا يخص فقط هذه المجتمعات البائسة، وإنما يشمل المجتمعات الأوروبية ذاتها، فالمجازر مستمرة منذ وقت طويل وقد تدوم عدة سنوات أخرى في الحرب الدائرة في أوكرانيا بين روسيا وأمريكا وحلف الناتو.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هكذا علقت قناة الجزيرة على قرار إغلاق مكتبها في إسرائيل


.. الجيش الإسرائيلي يسيطر على الجانب الفلسطيني من معبر رفح




.. -صيادو الرمال-.. مهنة محفوفة بالمخاطر في جمهورية أفريقيا الو


.. ما هي مراحل الاتفاق الذي وافقت عليه حماس؟ • فرانس 24




.. إطلاق صواريخ من جنوب لبنان على «موقع الرادار» الإسرائيلي| #ا