الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انكسيمنس، آخر فلاسفة ملطية، والحكيم الذي رأى أن الهواء أصل العالم.

حسين علوان علي
(Hussain Alwan)

2023 / 4 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إنكسيمنس هو آخر فلاسفة المدرسة الايونية، كان مواطنا من مدينة ملطية وتلميذا لأنكسمندر مرافقا له ويَصغره بـ 25 عام أو أقل. في عام 494 ق.م حين دمر الفرس الغزاة مدينة ملطية التي احتوت بدايات نشوء الفلسفة اليونانية على يد فلاسفتها الثلاثة، كان انكسيمنس في أوج عطائه شاهدا على دمار حضارة عظيمة، ومدينة الفلسفة لم تنهض بعد ذلك من جديد حتى حين أعاد الأيونيون بناءها بعد 15 عام، لم تستطع أبدا أن تستعيد مكانتَها الملهمة في كونها موطن الفلسفة ومحلّ ميلادها ولا عجب، ماذا يمكن أن تتركه الحرب غير الدمار واضمحلال الحضارات وموت القيم؟.
ترك انكسمنس كتابا يحتوي آراءه الفلسفية والعلمية لم يبق منه شيء يذكر، لكن العديد من الفلاسفة اللاحقين نقلوا آراءه و تناولوها بالتحليل والنقد بإسهاب وتفصيل ربما أكثر ممّا حدث مع سابقيه رائدي الفلسفة اليونانية طاليس وانكسمندر.
على عكس استاذه انكسمندر الذي اقترح أن أصل العالم والأشياء هو مبدأ اللانهائي، وخلافا لرأي طاليس الفيلسوف الأول حين اعتبر الماء السائل أصل العالم ومنشئه، فإنّ انكسمنس ذهب مذهبا آخر حين قرر أن الأصل في العالم هو الهواء حيث يحيط الهواء بكلّ شيء، ولأنه بالذات يفعل، أي انه يحيط بكلّ شيء، فلابد أنه كان أصل الأشياء جميعا، منه خُلقت الآلهه ومنه تكونت الأشياء ماكان منها وما سيكون. من الهواء خلق الكون كلّه. شبّه الفيلسوف بذلك أن الهواء يحمل العالم ويحيط به كما يفعل مع ورقة شجرة.
لابدّ أن هذا الطرح واجه معارضة شديدة ولبسا وغموضا في مقاصده، كيف يمكن تفسير رأي ينحو الى أن العالم خلق وتخلف عن الهواء؟ قدم انكسمنس تفسيرا كشف عن طريقة تفكير عبقرية لـ شخصية علمية فذة بمعزل عن كون تفسيره كان مقنعا أو لم يكن كذلك، وهذه الميزة الأهم عند الفلاسفة الايونين الثلاثة، في أنهم أول من تداول طريقة التفكير التي تقوم على التحليل المتسلسل القائم على التجارب المحسوسة ونتائجها (حتى لو كنّا نراها اليوم خاطئة وهي كذلك بالفعل وتبدو غير معقولة) وليس الاكتفاء بما تذهب إليه الأساطير من خرافات وخيالات وأوهام.
رأى انكسمندر أن الهواء يهب الحياة، فالموتى لا يتنفسون والموت هو العدم وانتفاء الحياة، الهواء الذي نتنفسه هو حالة الهواء الطبيعية الأصلية الثابتة، ومقابل ذلك فإن للهواء عدة حركات تؤدي الى تبدل الأشياء حوله، فالهواء في اقصى حالات اعتداله يكون لا مرئيا في حالته الطبيعية أمامنا، لكن بتعرضه للبرودة والرطوبة والحرارة يتغير فيصبح مرئيا، فإذا تمدد وتخلخل أصبح الهواء نارا، واذا تكثف الهواء وزاد في كثافته اصبح سحابا ثم ماء، وإذا تكاثف الماء أصبح أرضا، وإذا تكاثفت الارض اصبحت صخورا. الهواء هو علّة الحياة فينا وهو علة العالم من حولنا، ويوجد في جميع الأشياء المتحركة. هكذا رأى انكسيمنس الامر.
هذه متوالية مدهشة من الاستنتاج والبناء الفكري المتسلسل، ليس لأنه حقيقي أكثر من تصورات خيالية ربما، لكن طريقة استنباط المعلومة وتطورها وتركيباتها، بل وحتى جرأتها مثيرة للإعجاب ، ولعلّها كانت من المحاولات المبكرة جدا لإشاعة التفكير العلمي والفكري التجريبي بهوية عقلية تامة غير خاضعة لـ تهويمات الأسطورة وسطوتها المخدرة، ألا نرى في هذه المتوالية الجميلة الفنّية كيف أن إنكسمنس يكتشف العلاقة بين الكثافة والحرارة، كلما قلت كثافة الشيء مال إلى الحرارة، وكلما زادت كثافة الشيء مال إلى البرودة. الهواء لدى انكسمنس هو وسيلة التغير في العالم حيث تنتج حركته مختلف الحالات المتباينة، الساخن والبارد، الرطب والجاف، المائع والصلب، وسبب التخلخل والتكثف في الهواء هو وجوده بكميات أكبر في أماكن، وكميات أصغر في أماكن أخرى، إنكسيمنس يختزل التنوع الطبيعي في العالم الى مفهوم كمي وعددي، انه يحاول تفسير العالم من خلال الرياضيات والكم والعدد، وهذه ممارسة علمية تجريبة قاد انكسيمنس العالم اليها منذ ذلك الحين ومازالت مستمرة حتى اليوم. اليوم أضحت حياتنا في أغلبها ممارسات أنتجها العلم. ربما يتسائل الان احد ما اين هي الحكمة في ذلك؟ هل تستحق هذه الأفكار الخيالية أن نسميها فلسفة؟ هل تستحق حتى التحليل والعرض؟
الحكمة هنا أن فلاسفة أيونيا قرروا أن يجدوا تفسيرا لظاهرة الحياة والوجود من خلال ردّ العالم الى أصل واحد، ماذا عنوا بذلك وكيف؟ هذا العالم من حولنا متعدد وفيه تنوع حيوي مذهل من كائنات وجماد، هذا العالم لكي يوجد فلا بد له أن يكون قد تفرع من أصل واحد ولم يوجد هكذا فجأة. لقد شرحت في المقال السابق كيف أثبت انكسمندر استاذ انكسمنس استحالة أن يكون الإنسان قد وُجد هكذا بشكله الحالي مرة واحدة على الأرض كما تدّعي الأساطير والأديان، لماذا، لأن العالم بتنوعه الرهيب هذا هو عملية تطور وتبدل وليست عملية ثابتة في زمن راهن، هذا ما نشاهده ونلمسه بأعيننا في الطبيعة، إذا أن هذا التنوع والاختلاف إذا كان لابد له من أن ينسب إلى أصل واحد مختلف، لابد أن يكون هذا الشيء المختلف هو حالة الثبات ، إذ أن الثابت الواحد، هو ما يختلف عن المتنوع المتعدد. هكذا اعتبر انكسمندر قبله ان هذا الاصل هو مبدأ اللانهائي، وافترض طاليس قبلهما انه الماء. هاهو انكسمنس يقول بان هذا الاصل هو الهواء. وليكن، رغم ذلك فان هذه الافكار كانت موجودة هي أو ما يشابهها قبلا عند سكان وادي الرافدين في بابل وسومر، عند الفراعنة والفرس والهنود وغيرهم، نعم لابد انها كانت ربما موجودة بهذا الشكل وأشكال أخرى بل وحتى عند اليونان أنفسهم، لكنها كلها كانت تتبع الأساطير، ولعلها مفارقة أن أفكار الفلاسفة الأيونيين نفسها بـ غرائبيتها تشبه هي ايضا الأساطير، غير أن المهم والاهم في ذلك كله.. انها افكار أوجدها بشر ولم توجدها الإله، كانت نتاج تفكير رجال تميزوا بالحكمة في ذلك الزمن وذاع صيتهم في أنحاء المعمورة المعروفة يومها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اليمن.. حملة لإنقاذ سمعة -المانجو-! • فرانس 24 / FRANCE 24


.. ردا على الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين: مجلس النواب الأمريكي




.. -العملاق الجديد-.. الصين تقتحم السوق العالمية للسيارات الكهر


.. عائلات الرهائن تمارس مزيدا من الضغط على نتنياهو وحكومته لإبر




.. أقمار صناعية تكشف.. الحوثيون يحفرون منشآت عسكرية جديدة وكبير