الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أم الربيعين .. تاريخ وصور وذكريات ... القسم الأول

حامد خيري الحيدر

2023 / 4 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تنويه: هذه الإستذكارات تمتد الى سنوات بعيدة مضت، رَسَخت في ذاكرة الكاتب خلال عمله الآثاري في محافظة نينوى عند أواسط التسعينات من القرن العشرين، وللأسف فأن معظم المباني والمعالم الدينية والتاريخية والرموز الأثرية والتراثية التي سيتم التطرق إليها، قد تم تدميرها وتخريبها على يد عصابات "داعش" الإجرامية لدى احتلالهم هذه المحافظة الأبية للفترة 2014_2017.... (الكاتب)


مدينة الموصل حاضرة شمال العراق الباسلة وأحدى أهم رموز أصالته التاريخية، هي مركز محافظة نينوى وشريان حَركتها وقلبها النابض، تقع الى الشمال من العاصمة بغداد بمسافة تقارب الأربعمائة كيلومتر، متوسطة بموقعها الاستراتيجي عند تقاطع خطي طول 43,8 شرقاً وعرض 36,12 شمالاً المنطقة المُعتدلة الشمالية، حيث تَحدّها المنطقة الجبلية في الشمال والشمال الشرقي، وهضبة الجزيرة في الغرب والجنوب الغربي، عُرفت عبر الزمن بخصوبة سُهولها المُتموجة الفسيحة وغزارة أمطارها واعتدال مناخها، الذي يُشابه الربيع فيه الخريف لذلك سُميّت بأم الربيعين.
كانت أم الربيعين وستبقى، مدينة خلاّبة يفوح منها عِطر التاريخ، تُشعر من يَدخلها بأن نَسائم الماضي تحتضن صَدره فتُسكره بعَبقِ تراث خالد ذو ميزة خاصة تُنسيه تماماً من أين أتى، خاصة حين يرى أجمل مَشهد سالب للنظر فيها، ألا وهو صورة نهر دجلة الخالد بجانبيه (ساحليه) الجميلين "الأيسر" و"الأيمن"، اللذان يبدوان كذراعي أمٍ رؤوم تحتضن بحُنو طفلها الجميل المُدلل، الذي تراه يَنساب بهدوء ورَشاقة بين ضفتيه المُتعانقتين بخمسة جسور مُتباينة القِدم والتصميم، هي على التوالي من الشمال الى الجنوب.. جسر "الشهداء" الذي أبدل أسمه الى جسر "أبي تمام"، الجسر "الخامس"، الجسر "العتيق"، جسر "الجمهورية" الذي سُميَّ فيما بعد بجسر "الحرية"، ثم الجسر "الرابع"، وقد ظل الجسران "الرابع" و"الخامس" من دون أسماء بعينها، ليَضّلا يُعرفان عند أهل المدينة بهذين الاسمين.
يَضّم الجانب (الساحل) "الأيمن" "مدينة الموصل القديمة"، حيث الأسواق والمَحال العتيقة والأزقة الضيقة، التي إن أنصت المرء نحوها، فلابد أن يسمعها تحكي حكايات الأقدمين، وهي تُسافر بين عوالم الماضي مُختزلة الزمن لتُشعره بأن أرواحهم لازالت تتنقل بين احيائها التراثية الجميلة، ومبانيها التاريخية الشامخة التي يَمتد بها الزمن الى سنين وقرون مَضت، مثل أحياء.. "النبي جرجيس"، "السَرج خانة"، "الزَنجلي"، كما يخترق هذا القسم من المدينة أيضاً العديد من الشوارع الحديثة مثل.. شارع "الفاروق"، شارع "نينوى"، شارع "أبن الأثير"، شارع "حلب"، بالإضافة الى مبانٍ رسمية وإدارية وثقافية هامة مثل مبنى المحافظة ومفتشية آثارها وكذلك متحف الموصل، بينما يحتوي الجانب (الساحل) "الأيسر" مبنى جامعة الموصل التي تُعرف بـ"المجموعة الثقافية"، التي شُيّدت حولها وبالقرب منها العديد من المَبان والمَحلات والأسواق الحديثة، بالإضافة الى عدد من الأحياء السكنية مثل أحياء.. "نركَال"، "الشرطة"، "البلديات"، "الأندلس"، "المهندسين".
كما يَضّم هذا الجانب أيضاً مدينة "نينوى" الأثرية، العاصمة الآشورية الخالدة، التي يَمّر من وسطها نهر "الخوصر" في طريق مَصبّه عند نهر دجلة، ليقسم المدينة الى قسمين.. "الشمالي" الذي يحوي "تل قوينجق" الأثري، وقد نجا تقريباً من امتدادات توسع المدينة الحديثة وتجاوزات السُكنى عليه، و"الجنوبي" الذي يَضّم "تل النبي يونس" الأثري، الذي للأسف لم يكن بحظ أخيه، حيث تَم في عقد الخمسينات من القرن العشرين استقطاع ثلثي مساحته تقريباً، لتُشيّد عليه عدداً من الأحياء السكنية تجاوزاً على المدينة القديمة، رغم الإعلان عن أثريتها في الجريدة الرسمية عام 1935، مما أدى الى فقدان أراضي أثرية واسعة غدت اليوم تحت أسس تلك الأحياء، وبالتالي ضياع الكثير من معالمها التاريخية، ومن هذه الأحياء.. "السويس"، "النعمانية"، "الجزائر"، بالإضافة الى حي "الدركَزلية"، الذي يعني باللغة التركية "حي الجنود" أو "حي الدَرَك"، وحي "النبي يونس" الذي شُيّد بالقرب من التل الأثري، تبركاً بالجامع المُشيّد عليه، الذي يُضنّ أهل المدينة حسب معتقداتهم القديمة (والله أعلم) بأن النبي يونس مدفون فيه، وفي هذا الخصوص لابد من الإشارة الى الجهود الكبيرة التي بذلها الآثاريون العراقيون العاملون في المؤسسة الآثارية، خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين، لإيقاف عمليات البناء والتجاوز داخل المدينة الاثرية، حيث نجحوا حينها في مساعيهم المُثابرة هذه الى حدٍ كبير بإنقاذهم أجزاء واسعة من أراضيها.
أما الموصل القديمة في "الجانب الأيمن" بإطلالتها الخلابة على نهر دجلة، فحين يُنظر إليها من الجانب المُقابل خاصة ساعة الغروب، يُرى فيها منظراً ساحراً يأسر القلوب لا يُضاهيه أي مشهدٍ آخر، حيث ينتاب الناظر حينها شعور خاص بأن التاريخ بأكمله قد بدا حقيقة تتجسد أمامه، وليس مَخفّياً بين صفحات الكتب أو مَطموراً تحت أكوام التراب، حينها لابد أن يَغيب عنه الوعي فَسحة من الوقت، تاركاً جميع خلجاته تنقاد صَوبه، تتأمله، تحسه، تشعر بنفحاته الباردة المارة فوق نهر دجلة وهي تُرطب وجهه، ليغدو وهو يفصل بينهم بمَسيره الدائم الدؤوب كأنه يُزاوج الوَهم بالحقيقة، بعد أن أصبحت مويجاته مع تتابع حركتها الهادئة الرتيبة بين صعود وهبوط، مثل سجادة طائرة تحمله معها وتُسافر به الى عوالم بعيدة، كانت قد غَدت من نَسج الخيال، ليشعر دون أي إرادة منه حينها وقد اصبحت جزءاً من ذلك العالم الساحر، المُمتد نحو الماضي السَحيق الهائم بين قصص الأطفال وحَكايا العجائز ودُنى الأحلام، لينسى مع نَشوته تلك أي رَغبة له للعودة الى حقيقة ما يعيش.
وحينما يستيقظ ذلك الناظر المُبتلى بهذا الجمال الساحر من سَكرته ويشعر بأن أقدامه لا زالت تُلامس الأرض، حتى يبدأ بتفحص تلك المباني التي أسرّت وتمّلكت ناظريه، وأولها بقايا القصر الكبير الذي يقع الى جوار الجسر الخامس، المَعروف بـ"قرَه سَراي" الذي يعني أسمه بالتركية "القصر الأسود"، والذي للأسف لم تُبقِ منه سنين الدهر وظلم أحداثها، سوى جزءاً صغير منه مُشيّد بالحَجر والجص، يتمثل بأيوانين كبيرين متلاصقين لهما عقدين مُدببين، لكل أيوان باب تعلوه نافذة تطلان على نهر دجلة، ويتضح من ما تبقى من السقف، وبقايا الأسس، أن القصر كان يَشتمل على اكثر من طابق واحد، كما كان يحوي على العديد من الغرف والمرافق البنائية الواسعة، وفي الغالب كان يَضّم عدة مَبان لإدارة الحكم ودوراً للسكن والإقامة، وقد ذكرت المصادر التاريخية ضخامة القصر وروعته أيام ازدهار عهده، حيث كانت تُجمله التماثيل والنافورات.
كان "قرَه سَراي" يُمثل دار الحكم لإمارة الموصل في أواخر زمن الدولة العباسية، وفي الغالب من أمر ببنائه على أنقاض دار المملكة التي أنشأها "السَلاجقة"، الامير "عماد الدين زنكي" مؤسس "الدولة الأتابكية" في الموصل 521_657هـ/1127_1259م، ثم سَكنه الامير "بدر الدين لؤلؤ" الذي حكم المدينة للفترة 630_657هـ/1232_1259م، والذي كان مولعاً بتشييد الابنية الفخمة، حيث تذكر المصادر التاريخية أنه قام بتوسعة القصر، وتجميله، ونقش على جدران أحد أيوانيه ألقابه مكتوبة بخط الثُلث، التي بقت واضحة الى الوقت الحالي، مما جعل بعض الباحثين يظن خطأً في بادئ الأمر أنه هو من شَيّده، وقد سُميَّ حينها بـ"الجَوسق البدري" أي "قصر البدري"، نسبة الى البَنّاء "سُنبك البدري" الذي قام بتجديد عمارته، ولم يكن "قرَه سَراي" هو الاسم الذي يُعرف به بين الناس آنذاك، بل كان يُطلق عليه "آق سَراي" أي "القصر الأبيض" نسبة إلى لونه الأبيض، كونه مُسيّع بمادة الجص البيضاء، أما تسميته بـ"قرَه سراي" فقد أطلقت عليه بعد دخول المغول الموصل وأحراقهم للقصر، واسوداده بفعل الدخان فسُميَّ حينها بهذا الاسم.
أما البناية الأخرى التي لابد أن تَشّد البصر إليها بقبتها المُميزة ذات الشكل المخروطي المُضّلع، واطلالتها الجميلة المُميزة على دجلة، فهي ما تَعارف على تسميتها بمرور الزمن بـ"مَرقد الامام يحيى بن القاسم"، علماً أن الآراء قد اختلفت في حقيقة صاحب المَرقد ونَسبه، حيث يُذكر أن الأصح أن يُسمى "الأمام يحيى أبو القاسم"، أحد أئمة آل البيت، وكان قد شُيّد فوق المَرقد جامع كبير خلال فترة العصر العباسي الأول 132_232هـ/750_847م، لكنه تَهدّم فأعيد بنائه مُجدداً على أنقاض المسجد القديم في عهد الامير "بدر الدين لؤلؤ" عام 637هـ/1239م، كما هو مُثبت بكتابات تذكارية على أحد جدرانه.
أما قبة المَرقد المَخروطية المُضلعة التي اقيمت فوق الضريح، فهي ذات سبعة أوجه تقوم على رَقبة بنائية مُثمنة الأضلع، ومن الجدير بالذكر أن هذا الأسلوب في تشييد القباب ليس رافدينياً أصيلاً ، لكنه ظهر في العراق غالباً خلال الفترة السَلجوقية في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، خاصة في مناطقه الشمالية، ثم أنتقل منه الى كلٍ من أيران وشمال سورية، حيث أتبع في تشييد قِباب الكنائس المسيحية والمعابد والمزارات الأيزيدية، بالإضافة الى المساجد الاسلامية وبيوت السكن، ويقتضي هنا الإيضاح بأن القِباب المخروطية التي ظهرت في العراق كانت على نوعين... قباب مخروطية مُقرّنصة، مثل قِباب مراقد الست "زمرد خاتون" (بغداد/جانب الكرخ) والشيخ "عمر السهروردي" (بغداد/جانب الرصافة) والامام "محمد الدُرّي" (قضاء الدور/ محافظة صلاح الدين)، وقِباب مخروطية مُضّلعة مثل قِباب جامعي "النبي يونس" و"النبي دانيال" إضافة الى مرقد الأمام "يحيى أبو القاسم" هذا في مدينة الموصل.
ويُعّد هذا المَرقد من مشاهد العراق التاريخية الفريدة ومن الآثار المعمارية الاسلامية الباقية منذ القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، المُتمثلة بأسوب البناء، وشكل وتصميم النقوش الجميلة التي أتبعت في تَزيين جدرانه وزخرفة محرابه المعمول من المَرمر، ومن الجدير بالتنويه هنا بأن المؤسسة الآثارية العراقية منذ فترة مبكرة من تأسيسها قد شيّدت دعامتين كبيرتين من الحجر على جانب المرقد المُطل على دجلة لمنع انهياره بعد ظهور تَشققات وتصدعات كبيرة في جدرانه وأسسه.
وطبعاً لابد أن يَمتد الحديث كذلك الى سور مدينة الموصل، حيث تذكر المصادر التاريخية أن المدينة كان لها سور كبير، مَرّ بعدة مراحل من البناء والترميم ثم الهدم وإعادة البناء، وكان أول من أختطه هو الأمير "سعيد" أبن الخليفة الأموي "عبد الملك بن مروان"، الذي أصبح والياً على الموصل خلال حُكم أبيه عام 65_89هـ/685_708م، وقد بقي هذا السور قائماً حتى هَدَمه الخليفة العباسي "هارون الرشيد" عام 180هـ/797م، من أجل إخضاع المدينة لسيطرته، إثر ثورة كبيرة قام بها أهل الموصل ضد خلافة بني العباس، لتبقى المدينة بلا سور حتى عام 474هـ / 1081م، حيث بنى "شرف الدولة العُقيلي" سوراً للموصل قليل الارتفاع، جَرَت عليه فيما بعد الكثير من الإضافات وعمليات التقوية والتدعيم والترميم والتوسعة، خاصة عند سيطرة "السَلاجقة" و"الأتابكة" على المدينة خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، وقد تعَرض هذا السور الى دمار كبير خلال حملتي القائدين المغوليين، "هولاكو" عام 660هـ/1262م و"تيمورلنك" عام 796هـ/1394م، ليتم إعماره مُجدداً مع زمن الحكم العثماني في عهد الوالي "بكر باشا إسماعيل الموصلي" عام 1625م.
وكان هذا السور مَتين قوي ومرتفع البنيان مربع الشكل غير منتظم الأضلاع، مُشيّد بالحجر والجص، مُحيطه بحدود عشرة كيلومترات، تَتخلله أثنا عشر باباً، هي.. باب الطوب، باب السراي، باب "الأوجش، الذي تَغيّر أسمه الى باب "لكَش"، باب الجْديد، باب البْيض، باب سنجار، باب العْمادي، باب الحرية، باب القلعة، باب الجسر، باب شط القلعة، باب السِر، ويطل بعض من هذه البوابات على أحياء سكنية معروفة في المدينة سُميت بأسمائها. وقد أرتبط هذا السور الذي شُيّدت داخله العديد من القلاع والقصور والأبنية الفخمة التي تعود الى فترات زمنية مختلفة بأحداث هامة من تاريخ المدينة، حيث مَكنّها من الصمود بوجه الملك الايراني "نادر شاه" عام 1743م، في زمن واليها "حسين باشا الجليلي"، حين زَحَف إليها بجيش كبير قوامه ثلاثمئة الف جندي ومئتي مدفع في من أجل اخضاعها لسلطانه، ثم ليُحاصرها مدة طويلة قاربت الستة أشهر دون أن ينجح في اقتحامها، بعد أن دافع أهلها عن مدينتهم ببسالة عظيمة رغم قساوة ذلك الحصار، إذ اضطروا خلاله بعد نفاذ مؤونتهم الى أكل القطط والقوارض والعظايا من أجل ديمومة صُمودهم.
وللأسف فقد أزيل القسم الأكبر من هذا السور عام 1915، ثم أزيل الباقي عام 1934، ولم يتبقَ منه سوى قسم صغير يطل على نهر دجلة مع أطلال أحدى قلاعه الكبيرة التي عرفت بـ"الباش طابية" وتعني بالتركية "القلعة الكبيرة"، وتعّد اليوم إحـدى أهم المعالم التاريخية الاصيلة التي تُمثل شخصية مدينة الموصل وروحها، وقد سُميّت بهذا الاسم لأنها كانت أكبر القلاع الدفاعية في السور، حيث انها ترتفع بحدود خمسة وعشرين متراً عن الارض المُحيطة بها، وخمسون متراً عن حافة نهر دجلة، وتتكون من برج عالِ وغرف للجنود ومشاجب ومخازن للعتاد، وأنفاق تحت الأرض توصل الى خارج المدينة، وكحال السور فقد جَرى هَدم القلعة وتخريبها ثم إعادة بنائها وإعمارها مَرّات عديدة خلال التاريخ، وما يُشاهد منها اليوم يعود الى عهد الوالي "حسين باشا الجليلي"، حيث تم ترميمها خلال استعداد المدينة لمُلاقاة جيش "نادر شاه"، بعد أن غدت مركزاً لقيادة المعركة من جانب الأهالي. ورغم صُمود الـ"باش طابية" بوجه الجيوش العاتية ونيران الحروب، لكنها فشلت في حماية نفسها من تأثير عوامل التَعرية الطبيعية والمناخ عبر الزمن، حيث ظهرت التشققات والتصدعّات في أجزاء عديدة منها بسبب انعدام الصيانة، مما أدى الى انهيار بعض من أقسامها العلوية، إضافة الى مَيلان واجهة برجها المُطل على النهر بزاوية كبيرة، مما ينذر بانهياره مُستقبلاً وسقوطه بالكامل في حال لم تتخذ اجراءات عاجلة لإنقاذه.
أما تاريخ مدينة الموصل فيُعتقد أن بدايتها الأولى كانت مجرد مُستوطن أو قرية صغيرة تعود الى الفترة الآشورية المتأخرة عند مطلع الألف الأول قبل الميلاد، وأن أقدم إشارة وَرَدت عنها كانت من ضمن ما كتبه المؤرخ اليوناني "زينفون" صاحب العشرة آلاف مقاتل عام 401ق.م، وذلك خلال رحلته الشهيرة التي مَرّ بها بأرض الرافدين، حيث ذكر موقعاً باسم "مُسبيلا"، على أنه كان يقع مُقابل أطلال مدينة زائلة، رغم أنه لم يُحدد أسمها ولكن من الواضح أنها مدينة "نينوى" الأثرية، كما ويَعتقد قسم من الباحثين أن معنى أسم "مُسبيلا" هو تحوير للكلمة اليونانية "مسيولاي" التي تعني "المَمر الأوسط"، لكن في الغالب أن تلك التسمية هي تحوير للكلمة الآشورية "مُشبالوم "، التي تعني "الأرض السفلى" أو "الأرض الواطئة"، المَأخوذة من الجذر الأكدي "شَبالو " الذي يعني "أسفل" أو "خَفضَ". وفي زمن الساسانيين سُميّت الموصل باسم "نو أردشير" أي "المدينة الجديدة"، كما أسماها سُكانها من المسيحيين والآراميين خلال تلك الفترة بـ"حصن عَبورايا" بمعنى "الحصن الذي في الضفة الأخرى" أو "الحصن الغربي"، مما يُشير الى أن هذه التسمية قد أطلقت من سكان الضفة اليسرى من نهر دجلة أي مدينة "نينوى" الاشورية، كما أطلقت عليها كذلك تسميات أخرى من قبل عدد من المؤرخين العرب، مثل "الحصنين" كما ذكر "أبن الأثير" في تاريخه الشهير، و"عَربايا" كما ذكر "الهَمذاني" و"أرض خولان" كما أورد ذلك "المَقدسي" نسبة الى أسم قبيلة عربية نزَحت من اليمن واستقر قسم منها في أرض الشام وقسمها الآخر بأرض الموصل.
كما لقبت المدينة كذلك بألقاب أخرى عديدة على مَدى الزمن وخلال حِقب مختلفة، أطلقها الرحالة والمؤرخون، تُمثل جزءاً من مشاهداتهم وانطباعاتهم عنها، نسبة الى جمال طبيعتها أو طيب مَناخها أو لأحداث مؤثرة مَرّت على تاريخها وأهلها، مثل.. الزهراء، البيضاء، أم القلاع، أم الرماح، وغيرها الكثير، لكن بقى لقب "الحَدباء" لصيقاً بها من دون باقي المُسميات، وهناك رأيان في أصل هذه التسمية، الأول ما ذهب به "ياقوت الحَموي" وهو وجود "أحتداب" وأعوجاج في جريان نهر دجلة شمال موقعها، أما الثاني وهو الأكثر تَرجيحاً ما ذكره "أبن بطوطة" استناداً الى طبيعتها الجيولوجية، مَفاده وجود "أحتداب" في أرضها وارتفاع موقعها عما يُحيطها ويُجاورها، أما الرأي الذي يُردده الكثيرون والذاهب بإرجاع التسمية الى منارة الجامع النوري المعروفة بـ"الحَدباء" فهو رأي ضعيف قلة من يأخذون به ويعتمدوه. أما أقدم ذكر لها باسمها الحالي "الموصل" الذي عُرفت به واشتهرت، فكان عام 16هـ/637م، حين دخلتها الجيوش العربية الاسلامية بقيادة "ربعي بن الأكفل التغلبي" في زمن الخليفة عمر بن الخطاب، عندها أطلقت هذه التسمية بشأنها لأنها توصل الجزيرة العربية بمَمالك آسيا وكذلك نهر دجلة بأخيه الفرات، وبالفعل فقد غدَت المدينة فيما بعد من أهم مَحطات القوافل التي تربط وتصل تلك المناطق مع بعضها.
وخلال فترة الدولة العباسية 132_656هـ/750_1258م، حَكمت عدة إمارات في مدينة الموصل منها "بني حمدان" 293_371هـ/906_981م، و"بني عُقيل" 386_489هـ/996_1096م، و"السَلاجقة" 495_520هـ/1101_ 1126م، لكن أشهر وأبرز سلالة توّلت حكم الموصل بعد ذلك هي "الدولة الأتابكية" 521_659هـ/1127_1259م. وقد تَعرضت المدينة كحال باقي مدن وحواضر العراق الى التدمير على يد المغول بقيادة "هولاكو" بعد عام أو عامين من احتلالهم لبغداد، ثم حكمت في الموصل بعد ذلك عدد من الدول، هي.. "الدولة الأيليخانية" 678_738هـ/1282_1334م، و"الدولة الجلائرية" 755_793هـ/1356_1393م، و"تيمولنك"، و"القرة قويونلية" 810_868هـ/1410_1467م، و"الآق قويونلية" 868_910هـ/1467_1508م، ثم "الدولة العثمانية" 1534_1918م.
هذا وقد ذُكرت المدينة في كتب العديد من الرحالة والبلدانيين والمؤرخين العرب مثل "أبن جبير" و"المقدسي" و"ياقوت الحموي" و"القزويني" و"ابو الفداء" و"أبن بطوطة" و"الخطيب العمري"، كما أن المؤرخ العربي الشهير "أبن الأثير" كان من أبناء الموصل ووضع كتابه المعروف "الكامل في التاريخ" بأجزائه السبعة فيها، بالإضافة الى ما ذَكره عنها أيضاَ العديد من الرحالة الأوربيين ووصفهم لمَعالمها ومبانيها وأطلال آثارها وطبيعة الحياة فيها من خلال رحلاتهم إليها، مثل الألماني "ليونارد راوولف" في القرن السادس عشر، والفرنسي "جان تافرينيه" في القرن السابع عشر، والألماني "كارستون نيبور" في القرن الثامن عشر، إضافة الى البريطانيين "جمس بكنغهام" و"كلوديوس ريج" في القرن التاسع عشر.

المصادر:

_ أحمد علي الصوفي ... تاريخ بلدية الموصل/ الجزء الأول ... الموصل 1970
_ داود الجلبي ... الملك بدر الدين لؤلؤ والآثار القديمة الإسلامية في الموصل ... سومر/2_ج1 ... بغداد 1946
_ سعيد الديوجي ... الموصل في العصر الأتابكي ... بغداد 1958
_ سليمان صائغ الموصلي ... تاريخ الموصل/ الجزء الأول ... القاهرة 1923
_ سهيل قاشا ... الموصل في العهد الجليلي ... بيروت 2010
_ صلاح حميد الجنابي ... جغرافية منطقة الموصل ... موسوعة الموصل الحضارية/ الجزء الأول ... الموصل 1991
_ طه باقر ، فؤاد سفر ... المُرشد الى مواطن الأثار والحضارة/ الرحلة الثالثة ... بغداد 1966
_ عطا الحديثي ، هناء عبد الخالق ... القِباب المخروطية في العراق ... بغداد 1974
_ قحطان رشيد صالح ... الكشاف الأثري في العراق ... بغداد 1987








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القناة 12 الإسرائيلية: المؤسسة الأمنية تدفع باتجاه الموافقة


.. وزير خارجية فرنسا يسعى لمنع التصعيد بين إسرائيل وحزب الله في




.. بارزاني يبحث في بغداد تأجيل الانتخابات في إقليم كردستان العر


.. سكاي نيوز ترصد آراء عدد من نازحي رفح حول تطلعاتهم للتهدئة




.. اتساع رقعة التظاهرات الطلابية في الولايات المتحدة للمطالبة ب