الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل يمكن التوفيق بين العلم والدين

محمود يوسف بكير

2023 / 4 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يهدف المقال إلى بيان السبب الرئيسي في فشل الطريقة التقليدية القديمة في التوفيق بين الدين والعلم عن طريق إلباس الدين رداء العلم عنوة.وكيف أن المنهجية والأهداف المنشودة من كليهما مختلفة تماما. ومع هذا فإننا نرى أنه من الممكن التوفيق بين الدين والعلم وفض الاشتباك بينهما كما سوف نبين في الفقرة الرابعة من هذا المقال.
١ بذلت محاولات عديدة في عالمنا العربي للتوفيق بين العلم والدين وكان من أشهرها محاولات كل من الدكتور مصطفى محمود و الدكتور زغلول النجار وآخرين والتي هدفوا من خلالها إلى إضفاء الطابع العلمي على القرآن من خلال تفسير بعض آياته على أنها حقائق علمية شملت معظم العلوم الطبيعية مثل الطب والفلك والأحياء والطبيعة النووية و الجغرافيا إلى آخره، وقالوا أنها آيات أو نظريات علمية ذكرت في القرآن قبل أن يكتشفها العلم الإنساني. وقالوا أيضا أن هناك آيات تحمل تنبؤات علمية لا يعلمها أحد حاليا إلا الله وأن الإنسان سوف يعلم بها عند حدوثها. وهذا التناقض الفكري يعني ببساطة أن الانسان في النهاية هو مكتشف العلوم. وعادة ما يتم أدراج هذه ألتنبؤات تحت آيات غامضة مثل "ويخلق ما لا تعلمون" وهي آية يمكن أن يندرج تحتها أي شيءٍ وكل ما هو قديم وجديد في العلم والحياة. والمشكلة في منهجية هؤلاء المفكرين هي أنهم يحولون القرآن من كتاب يدعو إلى الهداية والفضيلة إلى كتاب علمي يشتمل على نظريات علمية مثبتة ولا تحتمل الجدل، وتناسوا أن أغلب النظريات العلمية تتطور وتتغير مع الوقت، فإذا ما تحدث القرآن عن نظرية ذات معطيات ومخرجات علمية محددة اليوم، فماذا لو ثبت بعد فترة من الزمن أن بعض هذه المخرجات أو الاكتشافات كان السبب فيها عوامل ومتغيرات أخرى لم تكن معروفة من قبل فهل سيقولون أن القرآن كان مخطئا؟ والمعنى أن هؤلاء المفكرين يخلطون بين منهجية الدين المقدسة والمنهجية العلمية التجريبية بحيث جعلوا الأخيرة منهجية مقدسة هي الأخرى، وهذا مناقض للمنهجية التي تقوم عليها العلوم الطبيعية والإنسانية. وعلى سبيل المثال فاننا في الجامعات ندرب طلاب الدراسات العليا على منهج الشك والنقد في البحث العلمي وأن عليهم البحث عن الأخطاء في كل النظريات القائمة حتى ولو كانت مثبتة بشكل علمي بغرض إصلاح ما بها من خلل أو إفشالها والإتيان بنظريات جديدة أفضل منها، وهكذا يتطور العلم من خلال نزع القدسية عنه عكس المنهجية الدينية المقدسة والتي لا تقبل النقد أو التطوير.
٢ وقد أدى ما سبق من حيث فشل النهج الديني في تطوير نفسه بل وتحريم النقد أو الخروج عما ورد عن السلف الصالح من تفاسير واجتهادات، أدى هذا الجمود والتصلب إلى إنفصال الدين ورجاله الأفاضل عن الواقع المعاش للناس والتخلف عن ملاحقة العلم والتغيرات التكنولوجية التي لا تتوقف عن الظهور، حتى أصبح دور الدين هامشيا في المجتمع وفي حياة الأغلبية خاصة الشباب.وظل الدين محلك سر ولا يتحدث عن القضايا المعاصرة التي تهم الناس مثل موقف الدين من الديموقراطية وحقوق الانسان وحرية التعبير والاستبداد والظلم وتراجع المساواة في الفرص بين الناس وتفاقم مشكلة تزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء وحق المرأة في التعليم والعمل والتغير المناخي …إلخ ولازال رجال الدين يتجاهلون هذه القضايا المصيرية ويكتفون بالحديث عن السلف الصالح ونفس الحكايات القديمة التي حفظها الناس ولم تعد تحظى بالاهتمام. منذ أيام الفراعنة قديما وقبل قيام الدولة الحديثة كان الدين هو كل شيء في حياة الناس وهو المنظم والمسيطر والموجه لكل شؤونهم وعلاقاتهم ولم يدع رجال الدين وقتها أن الكتب المقدسة تنظر في الظواهر العلمية، ولذلك فإن من يسأل اليوم لماذا لا تحدث معجزات ألآن؟ يكون الرد المنطقي لأنه لم يكن هناك معجزات أصلًا في الماضي، بل كانت هناك ظواهر طبيعية خارقة أو غير معتادة ولكن لم يكن هناك تفسير علمي لها، وكان لرجال الدين وقتها الشجاعة لتسميتها بالمعجزات ، أي الظواهر التي عجزوا عن فهمها. أما رجال الدين اليوم فإنهم لا يقرون بعجزهم عن فهم العلم وبدلًا من هذا يبحثون عن أي آية بها تشابه مع الظاهرة المعجزة للادعاء بإن الإعجاز العلمي في الكتاب المقدس تنبأ بها.
٣ ولكن إذا كان للدين أوجه قصور عديدة كما بينا، فهل العلم مثالي؟ بالطبع لا فللعلم إخفاقات وكوارث كثيرة وخطيرة ولعلي أذكر عدة أمثلة من عشرات الأمثلة التي تحضرني في هذه اللحظة وهي الأسلحة النووية التي نتوقع أن تكون السبب يوما ما في القضاء على الحياة على هذا الكوكب الجميل، فإذا لم تكن هي فإن التلوث الهائل والانبعاثات الحرارية الناتجة عن الأنشطة الإنسانية التي أخلت بالفعل بالتوازنات البيئية للأرض سوف تؤدي إلى نفس النتيجة، وكل هذه الكوارث كانت ولازالت من المخرجات السيئة الت أتى بها العلم غير المنضبط.
٤ إزاء ما سبق يمكن القول بإنه إذا كان البعد العلمي غائب في الدين فإن البعد الأخلاقي غائب أيضا في العلم، ومن ثم فإن محاولة التوفيق بين العلم والدين قد تكون شيئا جيدًا للبشرية وللحياة بكل أنواعها على هذا الكوكب المنهك بسبب الغرائز المتوحشة لأسواء مخلوقات الكون ألا وهو الانسان. وبناءا عليه يكون من المهم فض الاشتباك بين العلم والدين وإن يكون هناك نوع من التكامل بينهما بحيث يواصل العلم اكتشافاته وتطوره، ولكن في ظل وجود نوع من المبادئ الإخلاقية والضمير الإنساني الحي التي تنادي بها الأديان والتي يكفيها أن تلعب هذا الدور الرقابي بدلا من حشر نفسها في حديث العلم، وبمعنى آخر فقد آن الأوان أن تهتم الجامعات ومراكز الإبحاث بالجوانب الأخلاقية للبحث العلمي قبل فوات الأوان. وبناءا عليه فإن ثقافة الإلغاء الكامل للأديان بدعوى أنها مليئة بالخرافات لن تكون مفيدة كثيرا للبشرية.
وتأييدا لهذا وفي محاولاته القيمة لتقديم نوع من الاصلاح الديني على غرار ما حدث في أوروبا، رأي الإمام محمد عبده أن يكون دور الدين هو الحارس للقيم في المجتمع بحيث يمثل نوعاً من السلطة الأخلاقية التي تراقب الدولة والحاكم لمنعه من الاستبداد والتسلط على العباد أو استغلال نفوذه لتحقيق منافع شخصية له ولمن حوله. وما نطالب به ينصب في هذا التوجه. والحقيقة أن مشكلتنا ليست مع الدين في حد ذاته بقدر ماهي مع رجاله. ونحن نتسآل كيف حولنا هذه القوة الغامضة والغائبة عن عالمنا الخارجي ولكنها حاضرة بقوة ودائماً داخل ضمائرنا ومحفزة لنا على فعل الخير، كيف حولناها من قوة بناءة إلى قوة هدامة؟ كيف حولنا الأديان من قوة يمكن ان تجمعنا إلى قوة تشتتنا وتجعلنا نتقاتل بجنون ؟ كيف حولناها من قوة تدعونا إلى البر والرحمة بالآخر إلى قوة للاستغلال والتسلط؟ نقول إنه يفترض في اي دين ان يتسم بالبساطة وان يكون في متناول اي انسان عادي ولكن من يسمون أنفسهم برجال الدين في كل الأديان حولوها إلى طقوس ومراسم ودراسات وتفسيرات معقدة تنافس اللوغاريتمات الرياضة في صعوبتها. ولازال رجال الدين يتفننون في بناء المزيد من الحواجز بيننا وبين الدين الأصلي. وأود هنا أن أنوه بالجهود التنويرية التي يبذلها الكثير من المفكرين والكتاب في عالمنا العربي خاصة في موقع الحوار المتمدن لتنقية العقل الديني وتحريره من أسره وما فرض عليه من قيود لمنعه من التفكير النقدي والمنطقي وما علق به من خرافات وتطرف، هذه هي العلمانية المستنيرة التي ندعوا لها في الكثير من مقالاتنا.
والخلاصة أن الإنسان لن يكف أبدا عن البحث عن الإله. سنظل دائما بحاجة الى الدين لإشباع المكون الروحي الغريزي داخلنا خاصة في لحظات الضعف والمرض واليأس وخسارة أعز الناس لدينا والوحدة القاتلة وانشغال الناس عنا فلا يبقى أمامنا من ملاذ إلا الإله أياً كان تصورنا وفهمنا له. ولدينا قناعة قوية بأن الأديان سينتهي بها المطاف إلى أن تصبح مسألة شخصية خاضعة للضمير الفردي لكل إنسان وعندها لن يكون هناك صراع وتناقض بين العلم والدين ويتحقق ما ننشده من توافق معقول ومفيد بينهما كما بينا في المقال.

مستشار اقتصادي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لا , لايمكن التوفيق بين العلم والدين
منير كريم ( 2023 / 4 / 20 - 22:54 )
تحياتي للاستاذ محمود بكير المحترم
لايمكن التوفيق بين العلم والدين
موضوع العلم العالم المادي ومنهجه التجربة والرياضيات ونتائجه نسبية تقريبية وقابلة للتخطيء
موضوع الدين العالم الغيبي والميتافيزيقي ( الروح) ومنهجه الايمان ونتائجه مطلقة ولا زمنية
لكن ممكن ان نجعل الصراع سلميا من خلال التطور الحضاري للمجتع
اما بالنسبة للاخلاق فلا يشكل الدين مصدرا للاخلاق مرضيا
اعتقد ممكن ان ننمي اخلاقا انسانية تسامحية من خلال الفن والادب المناسب
شكرا لك


2 - معضله
على سالم ( 2023 / 4 / 21 - 02:49 )
اهلا دكتور بكير وموضوع هام , حقيقه ان التوفيق بين العلم والدين صعب تحقيقه بسبب انهم يسيروا فى طريقين متوازيين ولايلتقوا ابدا والهوه كبيره بينهم , ربما يحاول بعض المصلحين التوفيق والتحايل بينهم لكن الموضوع ليس بهذه السهوله واليسر , الاشكاليه هنا ان الدين ثابت والعلم متحرك , انا مع رأيك انه يجب وضع الدين فى اطار شخصى بحت للفرد اذا اراد ان يتعبد بينه وبين الهه , لكن من الصعب بمكان ان يفرض رجال الدين الاستبدادين اجيندتهم الكهنوتيه على الناس وان يتدخلوا فى الدساتير والقانون العام وحياه الناس الخاصه بحجه الحلال والحرام والثواب والعقاب , اكيد ليس من حقهم ان يفعلوا هذا تحت اى ظرف من الظروف , هذا صراع سوف يستمر طويلا والفيصل هنا هو نسبه نضج الناس فى التعامل مع هذه الفوارق وان يحجم الدين ولايكون شئ يتم فرضه على الناس بالقوه


3 - ازالة الشرائع من الاديان او منعها من التدخل
د. لبيب سلطان ( 2023 / 4 / 21 - 08:14 )
استاذنا العزيز
كل دول العالم المتحضرة اليوم فرضت عدم تدخلها في الاديان مقابل عدم تدخل الاديان في حياة الدولة والمجتمع. ومنها تحولت الاديان كما تطرحون الى توافق ليس مع العلم وحده بل مع الدولة والمجتمع والانسان عموما
ان الجانب الروحاني في الاديان شيء مهم لكثير من الناس وحتى الكثير من الطقوس فيها تمثل قيما اجتماعيا وتقاليد جميلة وفيها رمزية ووقع جميل ووجداني ومنه ربما تكون دعوتكم التوافق بين العلم والدين الروحاني معناها ان يتم لكل منها القيام باختصاصه ووظيفته في المجتمع ، وهو طرح مقبول من حيث التخصص لكل منهما، ولكن ذلك يتطلب التخلص من تشريعات الدين لكي يتحول الى روحاني و السؤال هو من يحدد ماهي حدود الدين الروحاني ؟ بلاشك ليس المتدينين ورجال الدين بل ،كما قام به في كل العالم ، هو العقل الذي فرض شكل الدولة والقوانين ومنه حرر الدين من التدخل في التشريع وبه اراح نفسه واراح الله والدولة والعباد ومنه لايمكن ان نوفق العلم مع الدين الا بتخليصه من الشرائع ومنه يصبح الدين روحانيا واخلاقيا وتحلو مشكلته وتوافقه مع العلم والدولة والمحتمع ويصبح مفيدا اخلاقيا
مع الشكروالتقدير


4 - الاستاذ منير كريم
محمود يوسف بكير ( 2023 / 4 / 21 - 11:28 )
شكرا ‏على تعليقك القيم وأعتقد أننا متفقان في أن الدين والعلم مختلفان تماما من ناحية منهجيتهما في البحث وإثبات الحقائق. وكما ذكرت في المقال فإن التوفيق بينهما في هذه الجزئية مهمة مستحيلة. ما اقترحته في المقال هو فض الاشتباك بينهما وأن يعملان بشكل منفصل كل في مجال تخصصه ودون فرض وصايات. ‏مسيرة العلم لا يمكن أن تتوقف ولكنها تحتاج إلى ضوابط أخلاقيه والأديان بمبادئها وميراثها الأخلاقي يمكن أن توفر هذه الضوابط دون فرضها بالارهاب والتخويف أو في شكل القوانين لأن هذه مهمة الدولة ممثلة في سلطاتها التنفيذية والتشريعية. العلم بدأ يأخذ منعطفات خطيرة خاصة في مجال الهندسة الوراثية والتلاعب في جينات البشر ‏والحيوانات وحتى في ما نأكله من طعام ،والذكاء الاصطناعي أيضا يتطور بسرعة مذهلة دون أي ضوابط وانت بالتأكيد متابع لاحد التطبيقات الجديدة وهي تشات جي بي تي والتي تسبب قلقا شديدا في كل الأوساط خاصة ألأكاديمية لأن هذا التطبيق سيضر بالعملية التعليمية برمتها. مع كل الشكر والتقدير


5 - الاستاذ علي سالم
محمود يوسف بكير ( 2023 / 4 / 21 - 11:30 )
أهلا بك وشكرا على تعليقك. أنا بالطبع معك تماما في رفض تدخل الدين في كل شؤون حياتنا كما تفضلت ،ومعك أيضا في أن عملية التوفيق بين الدين والعلم مهمة صعبة ولذلك اقترحت في المقال أن نفض الاشتباك بينهما كما أوضحت في تعليقي السابق للاستاذ منير منير كريم ، والأكثر من هذا أنني ذكرت في المقال ان كل المؤشرات تشير إلى تقلص دور الدين في حياتنا وهذا ما لا يقبله رجال الدين ‏الذين لا يريدون تركنا أحرارا، وذكرت أيضًا أن الدين سوف يصبح قريبا فضاءا خاصا بكل فرد ودون وصاية من احد، ولكنه سيبقى في حياتنا بالشكل الذي نحبه وليس كما يحبون. مع تحياتي


6 - دكتور لبيب سلطان
محمود يوسف بكير ( 2023 / 4 / 21 - 11:31 )
أشكرك على تعليقك وبالتأكيد أن الهدف من المقال كما تفضلت هو تحقيق نوع من التكامل والتوافق بين العلم والدين كما هو الحال هنا في الغرب بدلا من الاشتباك والإزدراء المتبادل بينهما في عالمنا العربي. أما بالنسبة لما ذكرته بوجوب تحويل الدين إلى نوع من الروحانية ودون تشريعات، فأعتقد أن الجانب الروحاني موجود بالفعل ولكن المشكلة كما تفضلت هي هذا الميراث الضخم من التشريعات و الفتاوي ‏التي لم تعد ملائمة للعصر ولا لاحتياجات الناس وهذه من الصعب تخيل أن تختفي بسرعة، ولكن هذا سيحدث بالتدريج كما حدث في الغرب وهو أمر بذلت فيه الكثير من الدماء ونتمنى ألا يحدث هذا عندنا. العقل كما تفضلت سيقود هذه المسيرة بشكل سلمي.
مع شكري وتقديري

اخر الافلام

.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah


.. 104-Al-Baqarah




.. وحدة 8200 الإسرائيلية تجند العملاء وتزرع الفتنة الطائفية في