الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حين تدعو الدراما إلى الجريمة

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2023 / 4 / 23
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لا شك أن وجود الفن مرتبط بالظروف الاجتماعية ويتطور وفقا للقوانين التي تصنعها، لذا عُرف الفن بأنه أحد أدوات التعبير عن الواقع ، وليس كله كذلك..بمعنى أن الوظيفة المناط بها الفنانون ليست مجرد تصوير واقعهم فحسب بل توجيه ذلك الواقع لظروف أفضل..ومن تلك الجزئية عُرف أن الفن رسالة..

قديما كانت شخصية البطل في الأعمال الدرامية والسينمائية يلزمها قدرا من الوسامة والرومانسية، وإذا تعثر هذين الشرطين فيستعيض الفنان عنهما بمهارات تمثيلية مختلفة ومتنوعة يعبر بها عن قصص مختلفة من زوايا مختلفة وبشخصيات مختلفة، أو يقدم نفسه كصاحب رسالة اجتماعية إصلاحية في المقام الأول والأخير ، وتلك التي تحمل بعض الجمهور على التعلق بالفنان وعذره في وسامته ورمانسيته وانتظار كل جديد من أعماله..

لكن مؤخرا ظهرت أعمالا درامية كسرت تلك القوانين والشروط في البطولة، وهي تنطوي على التغير الدائم في المجتمع وفقا للصيرورة الزمنية، فبعد أن كان البطل يحمل قدرا من الوسامة والرومانسية حمل البطل شكلا يتطابق مع البلطجية والسفاحين والأشرار في السينما القديمة، حتى القصص المتنوعة التي يحملها الفنان الذي قدر له أن يفقد وسامته ورومانسيته أيضا صارت غير موجودة، فحدث تنميطا وتكرارا وتدويرا لنفس القصة التي يقوم عليها البطل، واختصارها (أن بلطجيا يهابه ويخافه كل سكان المنطقة يتعرض لمؤامرات الأشرار فينتقم منهم بوسائل خارجة عن القانون ، وبأعمال ومشاهد كلها عنف تحمل طابع القسوة والهمجية والفوضى مثل تعليق ضحاياه في الشارع مثلما كان يحدث في القرون الوسطى، أو تعريتهم من ملابسهم وضربهم في الشارع أيضا، وإهانتهم بملابس النساء وخلافه)

ولا شك أن هذه المشاهد العنيفة القرووسطية تُغري أحلام وخيالات البلطجية والسفاحين الذين اعتادوا هذه المشاهد في حياتهم اليومية، فالعمل الدرامي هنا يوجه نفس الخطاب الذي يوجهوه لخصومهم وأعدائهم، وتتشكل قوى الطبيعة وفقا لأهوائهم وطموحاتهم في السيطرة المجانية بمجرد القوة والذراع، فتكون النتيجة التي يفهمها المشاهد هي تشريع قانون الغاب والرجوع بالحياة البشرية إلى البدائية والنمط المعيشي في العصر الحجري قبل تكوين ما يسمى "دولة" أو سلطة مركزية يمكنها فرض القانون على الجميع وحمل الكل على الالتزام .

مسلسلات رمضانية عدة أشهرها "جعفر العمدة والأجهر" وهي تكرار لأعمال قديمة لنفس الفنانين كالأسطورة وملوك الجدعنة، حملت نفس الطابع الوظيفي في نشر العنف وتصوير البطل بسمات مختلفة عن التي كانت عليها السينما والدراما في الماضي، فلو قلنا أن الفن مرتبط بالظروف الاجتماعية ويتطور معها فما الذي جدّ على الشعب المصري حتى يتحول الفن لتقديس تلك الشخصية الشريرة الفوضوية؟..وهل ذلك النوع من البلطجية لم يكن موجودا في الماضي ؟..بالطبع كان موجودا لكن وضعه في السياق الدرامي كان كما هو دون تلميع أو تقديس أو جعله يتفاعل مع عناصر نخبوية أخرى لكي يقبله المثقفون ويمتثلون لرغبة الشارع التي قدست ذلك النوع من البطولة، وتناسي المثقفون أن رسالة الفن تفرض على الجميع إصلاح المجتمع..فما وجه الإصلاح في تقديم شخصية البطل (كبلطجي شرير لا يحترم القانون)؟

والجديد أن هذه الشخصية البطولية قدمت بسمات أخرى مختلفة أيضا، فقد عهدنا البطل يحترم المرأة ولا يؤمن بتعدد الزوجات في المقابل يقدس الحياة الزوجية ويكره الخيانة، في مقابل مؤامرات الأشرار السينمائية في توريطه بخيانات زوجية لدفع شريكته للانفصال، وهو ما يعطي طابعا مثيرا للقصة الدرامية تدفع الجمهور لسماع ومشاهدة العمل الدرامي لنهايته ترقبا لما سوف يروه من صدق وأمانة البطل في إخلاصه لمحبوبته وإثبات عدم خيانته.

ورأينا أيضا أن ملابس النساء لم تكن إهانة عظمى للرجل فقد ارتداها عباقرة التمثيل كإسماعيل ياسين وعبدالمنعم إبراهيم وعادل خيري..وغيرهم، لكننا في تلك الأعمال صارت ملابس النساء على الرجال إهانة عظمى يستوجب معها القول أن المرأة كائنا وضيعا وملابسه أقل قيمة وقدرا ومنزلة من ملابس الرجل.

رأينا أيضا شخصية البطل الجديدة في الدراما (متعددة الزوجات) بل وتضربهم ولا تحترمهم، فأي رسالة يُراد بها أن تصل ؟..وإلى ماذا يفكر صناع تلك الأعمال الفوضوية التي لا طائل منها سوى تشريع قانون الغاب وإهدار حقوق المرأة وتشريع الخيانات الزوجية والشهوانية وتقديس الرجال والفكر الذكوري..؟..ناهيك عن أن المحاور التي ترتكز عليها هذه الأعمال لا تخلو من الدعايا والبروباجاندا في تسويق شخصية ذلك البطل في الاعتماد على الحقد الطبقي عن بعض الكادحين وسكان العشوائيات والأحياء الشعبية والقرى بأن هذا العمل الدرامي يمثلهم، وما ينتج عنه من رفع حدة الصراع الطبقي أكثر وفرض نمط حياة عشوائي فوضوي يكون هو البديل الوحيد لصمت وسكوت ذوي الطبقات العليا والمتوسطة التي ترى في تلك الأعمال جرس إنذار في الانقلاب على الدولة وسلطة القانون..

أختم بأن التاريخ الاجتماعي للفن يؤكد أن الفنون لا تنشأ عن وعي إنساني فردي بل عن وعي جماعي في ظل علاقات وظروف يمر بها المجتمع، وأعترف أنه لولا الفوضى التي حدثت بعد ثورة يناير عام 2011 لما حصلت تلك الأعمال على الشعبية بعدما تشكل في وعي الناس تفاصيل هذه الفوضى التي انطلقت من نفس المناطق والأحياء التي تقدس حاليا هذا النوع من الدراما، حيث رأى الناس بأم أعينهم تلك الفوضى التي دفعت ملايين المصريين لحراسة منازلهم بأنفسهم وبأسلحة بدائية بسيطة كالنبوت وسكاكين المطبخ فيما عرف باللجان الشعبية، ومشاهد الصراعات والمعارك التي أعقبت تلك الثورة لم تفارق خيالات وأذهان الشعب إلى اليوم، فلماذا نلوم السينما والدراما إذن وهي مجرد تفاعل مع تلك الفوضى في الوجدان؟

وجوابي أن العمل الفني هو مجرد منتج إبداعي يندمج فيه الفردي مع الجماعي، بمعنى أن أوهام وطموحات الفرد عن تلك الفوضى بعد يناير إذا حصلت على القوة والتأثير اللازمين لصناعة العمل فسوف تنتقل به إلى المستوى الجماعي، وهو ما حدث بالفعل، حينما حصل بعض المنتجين والفنانين والمخرجين على القوة اللازمة (ماديا واجتماعيا وإعلاميا) وبمظلة سياسية تمكن هؤلاء من فرض نمط تصورهم للعالم على الدراما المصرية، واخترقوا عن طريقها الوعي الجمعي الذي صار يتفاعل – مؤيدا – لكل مشاهد العنف والقسوة والذكورية في العمل باعتبارها هي الواقع العملي للحياة في مصر، ومن تلك الجزئية يخرج بعض النقاد للاعتراض على هذه الأعمال بوصفهم تشويها للمجتمع المصري وتجريفا لوعي الشباب وجموع الشعب عن النظر في مآلات ذلك العنف على حياتهم ومصالحهم..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تفاعل -الداخل الإسرائيلي- في أولى لحظات تنفيذ المقاومة ا


.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم




.. لم تصمد طويلا.. بعد 6 أيام من ولادتها -صابرين الروح- تفارق ا


.. كل سنة وأقباط مصر بخير.. انتشار سعف النخيل في الإسكندرية است




.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب