الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


‏ الجد الأكبر - جبتو مصرايم – هيروغلي.عبراني (8) ‏

محمد مبروك أبو زيد
كاتب وباحث

(Mohamed Mabrouk Abozaid)

2023 / 4 / 24
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


نتابع معاً في هذه المقالة الختامية البحث في برديية " الجبتانا " المنسوبة لـ مانيتون السمنودي ، ‏بينما نثبت هنا بالأدلة القاطعة أنها مدونة صهيونية بحتة، نهلت من معين توراتي بامتياز ، سواء من ‏حيث لغتها ومفرداتها أو من حيث الثقافة والبلاغة أو حتى من حيث خيال الكاتب نفسه .. وقد تعرضنا ‏في المقالات السابقة للكثير من تلك النقاط وأثبتنا أن مؤلف الجبتانا يهودي عربي يمني ولا علاقة ‏لها بشعب وادي النيل، رغم أنه كتب مدونته بالهيروغليفية واليموطيقية كوسيلة ‏احتيالية منه ليبرهن على أنه من أبناء وادي النيل وأنه تحدث بلسا قومه ... ‏

يعود المؤلف ليقول:" سمعتْ جبتانا نعيق البقرة بعنف فاتجهت إلى الحظيرة وحيث وجدت لابانو ‏وجبتو يستعدان لإخراج البقرة لذبحها فتذكرت حالتها وأدركت أن حال البقرة من حالها ‏فدخلت إلى الحظيرة وربتت على ضرع البقرة التي استسلمت لها فأخذت تعتصر أخلاف البقرة ‏فسال ذلك السائل الأبيض. وأشارت إلى كونا التي كانت تحمل وعائها الفخاري، فملأت للطفلة ‏وعاءها باللبن وملأت أوعية أخرى واستطاب الجميع طعم ذلك السائل الشهي. والذي أطلقوا عليه ‏اسم لابانا " (الجبتانا ص 108) . وهذا ما يعني أن اللغة كانت لازالت في مرحلة التكوين، لكنه ليس ‏تكوين أصلي هيروغليفي وإنما إعادة تكوين يهودي لأن كلمة "لابانا " غير موجودة في ‏الهيروغليفية وغير معروفة في وادي النيل إنما هي كلمة عبرية تم تدوينها لأول مرة على ‏البرديات في وقت تأليف القصة في أروقة مكتبة الإسكندرية القديمة عهد بطليموس.‏

وفي المجمل فإن القصة نفسها مستعارة من طابع الحياة المنتشر في جنوب غرب جيرة ‏العرب حيث تقول: اختاروا الركن الجنوب الشرقي من المعسكر لإقامة الحظيرة، وأغلقوا ‏هذا الركن بضلع يكمل مثلث الحظيرة وحفروا هذا الضلع ووضعوا فيه الأغصان وحزم ‏اللوتس البردي وتركوا دلتا أو باباً للدخول والخروج.. ووضعت البقرة وليدها في الحظيرة ‏وأغلقت الدلتا وألقى للبقرة كمية من الأغصان المورقة والأعشاب الخضراء... تكونت خلف ‏الأسوار داخل القرية بركة غمرتها مياه الفيضان التي تسربت إلى هذا المكان المنخفض فذهب ‏الرجال والشبان والأطفال للاستحمام في مياه هذه البركة الآمنة التي لا تصل إليها التماسيح.. ‏وخرج الرجال والشبان من الماء واستلقوا تحت ظلال الأشجار بينما ظل الأطفال يعبثون في هذه ‏البركة الصغيرة... انتبه الجميع على صراخ الصغار ونباح الكلاب وضجة القردة على ‏الأشجار وبدأ الصغار كوفو وكوفا وكونو وكونا وكأنهم يطاردون شيئاً من الماء ونظر ‏الكبار إلى حيث ينظر الصغار فوجدوا طائراً ضخماً من نوع الرُخّ وبين مخالبه طفل صغير ‏ونظرت جبتانا فأدركت ما حدث وانفجرت باكية فقد اختطف ذلك الوحش الطائر صغيرها ‏شاسو الذي كان بجوار الخص.. وساد الوجوم ولف القرية كلها صمت كئيب.. وصمتت ‏الكلاب عند الأسوار كما صمتت القِرَدة فوق الأشجار " (الجبتانا " ص 106 ) .‏

هذه القصة تدور أحداثها واقعية في منطقة جنوب غرب الجزيرة العربية حيث الموطن ‏العتيق لليهود، وأهالي هذه المنطقة كانوا يقيمون في " أخصاص ؛ ومفردها خُصّ، أي كوخ من ‏الحطب والقش، وإن وضعوا عليه بعض الطين، وغالباً من كانت البيوت بدائية وتُبنى من الطين ‏المعجون بالقش مع روث البهائم ولا يجعلون له باب، بل يتركونه بلا " أغلاق " فقط يجعلون منفذاً ‏قصيراً عليه ما شبه ستارة قصيرة، وهذه ما حاول المؤلف توظيفها في وادي النيل فقال أن الباب ‏كان عبارة عن " دلتا " بينما كلمة دلتا " غير موجودة في اللغة الهيروغليفية، بل هي كلمة ‏يونانية الأصل، ويحاول المؤلف توظيف عناصر من خياله مع عناصر موجودة في عصره، وكانت ‏العناصر المحزنة في خياله من نصوص التوراة ومتونها تدور أحداثها ووقائعها في أدغال عسير، ‏ولهذا استخدم المؤلف كلمات مثل "أدغال، غدران وبرك ومستنقعات، وقرود وغزلان وطائر ‏‏"الرُخّ"، وكانت البيئة التوراتية الأصلية غنية بهذه التعبيرات - ( بحث د أحمد القشاش : أبحاث ‏في التاريخ الجغرافي للقرآن والتوراة ولهجات أهل السراة) ، ما جعل مخيلته عامرة بها، لكنه في ‏وادي النيل لم يرد الإفصاح عن هويته الذهنية إفصاحاً كاملاً، فاستخدم عناصر هي ليست من ‏تربة وادي النيل بعضها موجود في بيئة عسير وبعضها يوناني الأصل مثل كلمة " دلتا " التي ‏وضعها على باب الخُصّ! فأفكار القصة شبه حقيقية في وادي النيل بينما أحداثها خيالية، وفي ‏ذات الوقت هي واقعية في سهول جبل عسير. ‏

ونلاحظ صياغة (الذي هو) تتكرر بشكل واضح، وهي متلازمة دائمة خاصة بنصوص ‏التوراة بعد التعديل، فهي تريد التعريف بمكان أو شيء جديد تريد الإسقاط عليه... لكننا ‏نتساءل إذا كانت الأسطورة في جميع صفحاتها تقرن اقتراناً دائماً وأبدياً بين جبتو مصرايم ‏ونسل الآلهة، وتشرح تقريباً جميع الآلهة القديمة بدقة بالغة (في ظل ظروف الحياة شديدة ‏البداءة والهمجية)، فلماذا لم نجد هذه الصياغة على جدارية واحدة في المعابد أو المقابر، لا ‏ذكر لمصرايم هذا إطلاقاً، ما يعني أنه تم تأليف الأسطورة لأجل غرس اسمه فقط ولا شيء آخر... ‏ثم أنه في البداية يقول (هذه الترنيمة القديمة) هذا ليس مانيتون وإنما هو المؤلف اليهودي الذي ‏يريد التأكيد على أن الترنيمة قديمة وليست من تأليفه حتى يستقر في ذهن القارئ أن ‏متلازمة جبتو مصرايم هي قديمة قدم الترنيمة... ‏

وفي مواقع كثيرة جداً يحاول المؤلف نسب القلم للكاهن السمنودي مانيتون، ويؤكد ‏على ذلك مراراً وتكراراً مملاً، فنجده يقول: ( أُثبت - أنا مانيتون السمنودي- سورتا اللبن التي ‏نسخها بعض تلاميذي عن متون الأهرام وتحكي هذه المتون عن ترنيمة في عصر ما قبل ‏إيزيس وأوزوريس تسمى ترنيمة "اللبن والبقرة حتحور" ( " الجبتانا " ص 108 ) .. تقول الترنيمة:" ‏أيتها الأم البقرة السماوية حتحور يا خالقة السائل الأبيض سائل الحياة الثاني تعطيه الأم ‏لأبنائها وتعطيه البقرة لوليدها وتعطيه أيضاً لأبناء جبتو مصرايم أيتها الأم البقرة حتحور لك ‏المجد في السماء فأنت تستحقين مكانك في قدس أقداس التاسوع، فأنت واهبة السائل الأبيض ‏مثلما كان رع وبقية التاسوع مسئولين عن سائل الحياة.. هيلا.. هيلا.". ‏

وفي فقرة أخرى يقول: في اليوم التالي كان الصيد قليلاً وأراد جبتو ولابانو ذبح البقرة الأم ‏فاعترضت لابانا وجبتانا وأمرتا الفتيات والغلمان بإحضار المزيد من البيض والموز لوجبة الضحى ‏وصار للقرية ولأهل جبتانا حظيرة وكلما اصطادوا بقرة ذات ولدٍ فإنهم يأكلون الصغير ‏ويتركون البقرة الكبيرة للحصول على اللبن) ( الجبتانا "ص 108 ) ... ونلاحظ أبجديات الكتابة ‏المفككة بين عناصر الحضارة والحياة البدائية لبني إسرائيل لرعي البقر وحلب الغنم. ففي ‏الحقبة التي كان أجدادنا القدماء يقدسون فيها البقرة حتحور لم تكن حياتهم بدائية بهذا ‏الشكل.‏

ونلاحظ أن الأسطورة غير منسجمة فنياً حتى، برغم أننا على إدراك أن الأسطورة بوجه ‏عام لا معيار فكري لها، وإنما هي في مجملها خيال، لكن حتى هذا الخيال يجب أن يكون ‏منسجماً مع بعضه، فكيف نقول أن جبتانا كانت قرية يسكنها صيادو الغابات والبراري ‏ويعودون بالبقر وعجول أفراس النهر في المساء، وأن جبتو كان يأتزر بجلد بقرة وغير ذلك من ‏وسائل الحياة البدائية جداً... ثم في ذات السطور نقرأ اسم أبي الهول مع أنه قمة رموز الحضارة ‏والفن المعماري الدقيق، وهذا يستحيل الجمع بينه وبين سياق الأسطورة التي تقول بأن الجبتيين ‏كانوا يسكنون الأخصاص " خُص" في وقت وجود أبي الهول والأهرامات !! هذا يعني أن ‏الأسطورة ليست قديمة وإنما تم تأليفها بعد عصر أبي الهول والأهرامات.. وبعد عصر أبي الهول ‏والأهرامات لا ينسجم تصور العيش في جبتانا التي هي منف وعين شمس في أخصاص ! ‏فالأسطورة غير منسجمة من الناحية الفنية وهو ما يدفعنا للقول بأن اليهود أعادوا تحرير ‏مخطوطات مكتبة الإسكندرية وغرسوا هذه الأسطورة بصياغة يهودية لغرض محدد. ‏لأن المشهد العام في الأسطورة يحاول الرجوع لبدايات إيجبت بينما هو يعيش في عصر آخر ‏وتداخلت عناصر التاريخ كله في نقطة البداية، ولهذا مزج دون وعي بين البداية وقمة ‏التحضر، ما يعني أن المؤلف هو زائر لهذا البلد وحاول أن يتصور بدايتها فخانه الخيال وخانه ‏التعبير وخانته عناصر القصة، وخانه مخزونه الثقافي ومخيلته الذاتية، وخانه قلمه في ‏كثير من الكلمات والتعبيرات التوراتية، وخانه عقله في كثير من العقائد اليهودية، لأن ‏مؤلفها ليس أديب بحس فني أدبي مسترسل ومنسجم بتلقائية، إنما هو كاهن موسادي ‏مغرض... ولذلك في كل فقرة تقريباً يذكر عبارة - أنا مانيتون- كجملة اعتراضية لتأكيد ‏الهوية، وكأن المؤلف يحاول تذكير القارئ بأن المؤلف هو مانيتون السمنودي وليس أحد ‏غيره، وهذا ليس سياق تلقائي بريء، إنما سياق خطة موسادية.‏

ومن الملاحظ أن هناك فكرة خبيثة تم زرعها في المخطوطة وهي زواج جبتو من الطفلة " نيما " ‏وهذه مغرضة لأن أجدادنا لم يكونوا يتزوجوا إلا بعد البلوغ والنضج... والثانية والأخطر هي ‏فكرة شيطنة أبي الهول وجعله رمزاً دائماً للمسوخ والشياطين.. ففي كثير من الفقرات نجد ‏تصوير لشياطين ومسوخ بأجساد حيوانية ورؤوس آدمية، وهي الفكرة المستوحاة من شكل أبي ‏الهول، فقد كره اليهود أبي الهول لأنه رمز القوة والحكمة، ويقف بشموخ حارساً للأهرامات، ‏ولهذه الغاية نحته خفرع، وكان الملوك يحترمونه ويضعونه في مكانة علية، لدرجة أن الملك ‏تحتمس قام بترميمه ووضع لوحة بين قدميه في مقدمة التمثال وتعرف بلوحة تحتمس أو لوحة ‏الحلم. بينما مؤلف الجبتانا اعتبره رمز الشياطين والمسوخ.‏

فنقرأ:(ذات يوم من برمهات أصر الفتى العنيف جبجا أن يقود صيادي جبتانا قبل الغروب ‏لاصطياد المزيد من البقر لاستئناس الأمهات من أجل اللبن، وكان النيل ضحلاً في ذلك الوقت. ‏فتقدموا شمالاً حتى اقتربوا من المنطقة المحرمة وهي منطقة التلال البيضاء التي يقال أنها ‏موطن الشياطين والمسوخ... ولمح الصيادون خنزيرة وصغارها يعبثون ببطن بركة جافة.. فأمر ‏جبجا الصيادين بالتخفي والكمون خلف الأدغال حتى تطمئن الخنزيرة وصغارها. ‏فيهجمون على حين غرة منها.. تخفّوا وكمنوا واستمروا دقائق حتى غابت الشمس وفجأة ‏شموا رائحة كريهة... وتقدم صبي صغير - دون إذن من جبجا- ليمسك بأحد صغار الخنازير ‏فإذا بمسخ صغير من مسوخ أبي الهول بوجهه الإنساني وجسده الحيواني يهجم على الصبي ‏وعلى الفور أصدر جبجا الأمر بالهجوم، فأعمل الجبتيون رماحهم في جسد أبي الهول وخلّصوا ‏الصبي من براثنه، وأثخنوا المسخ بالجراح... ثم أصدر جبجا الأمر بالعدو في اتجاه جبتانا حيث ‏أن صراخ المسخ قد يستدعي المسوخ والشياطين... وصل الصيادون إلى جبتانا والتقطوا أنفاسهم ‏قرب نار القرية التي أمر جبتو بأن تزود بحزم من البردي واللوتس.. وتوتر الجميع، نبحت ‏الكلاب وضجت القردة على الأشجار، فقد امتلأ الجو بالرائحة الخبيثة للمسوخ... وبعد دقائق ‏من تأجج النيران بدأت الرائحة الخبيثة تخبو تدريجياً... وعاود جبتو شعوره القديم بالخوف ‏على جبتانا قرية الجبتيين من المسوخ والتنانين وشياطين الظلام ..." ( " الجبتانا " ص 112 )‏

أي أن المؤلف اعتبر أبي الهول مسخاً من مسوخ الشياطين ! وفي هذه الفقرة تتجمع العناصر ‏الكاذبة التي اعتمد عليها المؤلف في سرد أفكاره، إذ أنه يدخل عصر أبي الهول ولا زال يصور ‏عناصر الحياة البدائية في الغابة وتقافز القردة على الأشجار وفي الغابات ! بينما عصر أبي ‏الهول كان بعد العصر المطير بآلاف السنين، فلا يمكن الجمع – في حدث واحد – بين أبي ‏الهول وجبتانا القرية والغابات والقرود .‏

ثم يقول المؤلف تحت عنوان: الإصحاح الرابع: استيقظ جبتو من نومه متأخراً في صبيحة ‏يوم من أيام برمهات ولما لم يجد أحد في الخص انحنى وخرج من دلتا الخص التي تُركّت ‏مفتوحة، فوجد رع قد أشرق ببهائه على الكون وكانت سهام أشعته الذهبية تنفذ من بين ‏أشجار القرية، فتترك على الأرض بساطاً منسوجاً من النور والظل... لم يجد جبتو في ساحة ‏القرية إلا الغلمان والصبية والأطفال، إذ الجميع ذهبوا للصيد أو التقاط الثمار... ولما أرسل رع ‏بعض سهامه الذهبية إلى عيني جبتو تذكر جبتو مصرايم " ابن الآلهة. كما تذكر تلك ‏السورتا التي حفظها عن جبتو مصرايم" والتي يحي بها الإله رع كقداس صباحي: أيها الرب ‏الإله رع.. يا صاحب المجد والسلطان في قدس أقداسك في السماء.. أنت يا وارث أتوم منذ الأزل ‏أفض علينا بدفئك ونورك.. لك المجد. فأنت واهب الحياة لكل ما يتحرك، ولكل ما يتنسم ‏نسمة هواء..." (الجبتانا ص 113) . (إشارة: تعبير " قدس الأقداس " هو تعبير توراتي صرف. ‏ويستغل المؤلف جمال الترنيمة وعذوبة التعبير وصدقه في تدعيم القصة.)‏

في ترنيمة جبتية قديمة كان الكاهن الزعيم جبتو يرددها في قداسه المسائي، وتقول: يا ‏إلهي رع العظيم ... إنك تشرق ببهائك وسهامك الذهبية فتملأ الكون نورا، وحين تغيب في المساء ‏يخلد الجميع إلى السكون، وتنتشر المسوخ وشياطين الظلام، ثم تعود لتشرق من جديد.. أنت ‏باعث الحياة في النهر العظيم، فأنت الذي يأمر " حابي" بأن يعمل بشادوفه السماوي لنقل الماء من ‏جنة الآلهة، إلى حيث يقيم نسل الآلهة من الجبتيين.. يا إلهي رع.. أنت باعث الخضرة والنبات في ‏جسد جب، وباعث الحياة في كل الدبابات، وكل من تنسم نسمة حياة.. يا إلهي رع.. احمِ قريتنا ‏من المسوخ وشياطين الظلام واجعلنا في العدد كنجوم السماء، ورمال الصحراء... هيلا.. هيلا.. هيلا. ‏‏" ... ثم يسترسل مانيتون في رواية ويوضح أنه كانت لدى أهل القرية صوت استغاثة إشاري هو ‏‏"جبتو ... جبتو" (الجبتانا ص127 ) فهل كان صوت الاستغاثة الإشاري هذا متعاصراً مع هذا التطور ‏في الفكر الديني ! ومن الواضح هنا أن المؤلف قد نجح في توظيف الترانيم القديمة الطاهرة في ‏نصوص تحمل بصمته هو وغايته هو. ويتعجب المحقق من توقيت الصلاة في الصباح والمساء، بما ‏يتوافق مع مواعيد الصلوات التوراتية، ويتوقع أن اليهود نقلوا من ثقافة القدماء، لكن في الواقع ‏هم دمجوا بين ثقافتهم وثقافة القدماء فخرجت الجبتانا تحمل طابع مزدوج.‏

ويقول المؤلف: حان وقت النوم فمدت النار بمزيد من الأغصان ودخل الجبتيون القدامى ‏أخصاصهم. أما الجدد فإنهم افترشوا حزم اللوتس والبردي متخذين منها فُرشهم وأغطيتهم... وبعد ‏أن اطمأن جبتو على الجميع دخل خصه وفد تكوّن لديه عزم على الأخذ بيد الجميع وعلى ‏بناء المزيد من المساكن للوافدين الجدد... وتأكد لدى جبتو شعور عميق بأنه نبو وبأن الآلهة ‏تمده بالحكمة التي يحتويها قلبه وينطق بها لسانه".. وتذكر جبتو العجل أبيس الذي ختنته ‏الآلهة كما تذكر وحي الآلهة له. بأن يختن كل مولود ذكر من نسل جبتو مصرايم " ‏‏(الجبتانا ص 118) ... ويقول في موضع آخر:" سعد الجميع بهذا العشاء الذي ضم كل الباقين من ‏سلالة " جبتو مصرايم" الذي هو من نسل الآلهة، وكانت سعادة الوافدين الجدد أعظم".. وفي هذه ‏الفقرة يحاول المؤلف بإصرار شديد الربط بين عقيدة الختان وسلالة الجبتو، وجبتو مصرايم. ‏

نعود إلى الصفحات الأولى، حيث يقول المؤلف: كتبت بأمر من الملوك البطالمة تلخيصاً كاملاً ‏لحكام مصر وآلهتها وأسراتها منذ عهد عحا المحارب والملقب أيضاً بنعرمر.. حتى وصل ‏الإسكندر.. إن تلك القوائم للآلهة والملوك المصريين العظام التي لخصتها قد انتشرت من ‏الإسكندرية وهليوبوليس وطيبا فصارت توجد نسخ منها في هاران وببلوس وفينيقيا ومعابد ‏الأدوميين والعبرانيين والفلسطينيين..." (الجبتانا ص 30) . ونتساءل هنا هل كانت هناك معابد ‏للفلسطينيين يم إرسال نسخة من الجبتانا إليها ! فالجبتانا حتى ليست كتاب دين وإنما أساطير ‏وخرافات تاريخية! غير أن الفلسطينيين كانوا يعبدون الإله " عك" ومعهم الفينيقيون، أما ‏العبرانيون (والمقصود بهم هنا اليهود وليس كل العبرانيون) فلماذا يرسل لهم نسخة من الجبتانا ‏برغم أن المؤلف يعرف عقيدتهم جيداً، وقال في تقدمته أن إله الكنعانيين والفلسطينيين ‏يسمونه " لا " بينما العبرانيون يسمونه " إلو هيم " فهل من المنطق أن يقوم بإرسال نسخ من الجبتانا ‏إليهم ! أم أن الغاية من ذكر هذه الفقرة كان مجرد محاولة من المؤلف لإثبات وجود لهم على ‏الخريطة ! ‏

ومن عيون الكذب نقرأ كلاماً مكتوب على لسان مانيتون يقول (الجبتانا ص 37): ‏رجعت - أنا مانيتون- إلى معبدي الهادئ ذي الأسوار السبعة معبد سبينيتوس في لغة الإغريق، ‏والتي هي سمنود في لغتنا الجبتية، ونظمت ورتبت ما تجمع لديّ من قطع الأستراكا ومن ‏برديات نُسخت فيها أوراد كثيرة من متون الأهرام والتوابيت، ومن برديات سجّل فيها تلاميذي ‏حكماً موروثة وبعض سجلات المعابد القديمة ومتون العقائد الموروثة وأسفار الآلهة والألواح ‏القديمة المسجل عليها شرائع شعوب غابرة..."‏

و هنا يفضح المؤلف نفسه، حينما يقول بأنه جمع المادة المعرفية من مصادر مختلفة من برديات ‏ومتون الأهرام والفخاريات وغيرها، وذلك يعني أنه جمع ( معلومات أو ترانيم – مقاطع متفرقة ‏ومفككة) لكن الجبتانا ليست مفككة بهذا المفهوم، وإنما هي قصة واحدة ذات سيناريو لا ‏يمكن جمعها بكل هذه التفاصيل الدقيقة من مصادر مختلفة إلا إذا اختلفت فصولها بحيث ‏يكون جمع كل فصل من مصدر مستقل، فلو أعدنا المرور على أحداث القصة لا يمكن تصور ‏أنها كانت متفرقة وتم جمعها ولصقها حتى خرجت بهذه الحبكة الفنية. فالمؤلف بالفعل جمع ‏الحكم المأثورة وأكبر قدر أمكنه لملمته من المعلومات ووضع مسوداته وبدأ في صياغة القصة ‏بما جمعه من معلومات وفق سيناريو أحداث من وحي خياله، وقام بتطعيم المتن ببعض الحكم ‏والمأثورات العذبة حتى تنطلي الفكرة على القارئ وتأخذ بلباب عقله .‏

ويقول المؤلف: بدأت كتابة الجبتانا ملتزماً بتوجيهات رع ومسجلاً أسفار التكوين ‏الجبتية باللغة الجبتية وبخطوطها الثلاثة الشائعة بعد الإسكندر: الخط الهيراطيقي ‏والديموطيقي والجبتي مع عدة نسخ بالإغريقية .. كتبت أسفار التكوين الجبتية " الجبتانا ‏‏" وكلفت تلاميذي في معبد سمنود كتابة بعضها سنرسله إلى هليوبوليس وإلى معبد الإله ‏سيرابيس في الإسكندرية وإلى معبد مدينة الله الأولى في طيبة وإلى معابد ببلوس و ‏فينيقيا ومجدو وبائيروت وأورشاليم وهاران" (الجبتانا- ص 37) ... ويتضح هنا أن الغاية الثانية ‏من هذه الفقرة كانت هي تعريف العالم بأن هناك مدينة على الخريطة اسمها " أورشليم " أراد ‏المؤلف أن يبرز اسمها بين المدن في الوقت الذي لم يكن فيه أي أورشاليم إطلاقاً، بل كانت ‏عاصمة فلسطين هي إيلياء، ثم أنه لو كان مانيتون فعلاً قائل هذا الكلام، فلماذا يرسل ‏نسخة إلى أورشليم، ومعروف أن أورشليم لا تعترف بهذه العبادات ولا التراتيل بل هي عاصمة ‏العبادة التوحيدية ! فكيف يرسل إليها نسخة من الجبتانا ! غير أنه إلى الآن لم يتم العثور ‏على مدينة أو حتى بقايا تدل على أنه كان هناك قرية اسمها " مجدو" . إنما هو وارد في ‏التوراة فقط وبذات الصياغة، ما يعني أن المؤلف كان لديه أجندة مسبقة. بينما الاسم موجود ‏بالفعل على جداريات معبد الكرنك ضمن جداول فتوحات رمسيس وتحتمس في آسيا، ‏لكن منطوقة " مكتي " أو " مكت " والعلماء التوراتيون يقرأونه مجدو، بينما الحياديون ‏يقرأونه كما هو، فلماذا يختلف مانيتون في صياغة ذات الاسم ! لماذا لم يذكره باللغة ‏الديموطيقية كما هو وارد على جدار المعبد وبذات اللغة" مكت " ألا يعني ذلك أن المؤلف ‏صهيوني التوجه، فهو لا يكتب بلغة قومه، إنما يكتب بلغة اليهود !‏

أما الفكرة المكملة التي سعى إليها المؤلف، إضافة إلى " أورشليم" فكانت " جبتو مصرايم" ‏لذلك يقول: في مركز المعسكر يقع مقر جبتو الأكبر جبتو الزعيم و جبتو مصرايم كما ‏كانوا ينادونه، ومن جبتو جاء اسم أرض الآلهة جبتو أو جبتانا في لغتنا الجبتية، ومن الاسم ‏الثاني مصرايم كانت عند العبرانيين والساميين والآدوميين. ويقول " وعلينا ألا ننسى أن جبتو ‏مصرايم والجبتيين من نسل الآلهة (الجبتانا ص 58) . الغريب أنه وفقاً لسياق الأسطورة، فإن جبتو ‏هذا أبو الجبتيين كان منذ أكثر من 30 ألف عام، بينما العبرانيين هم فسيلة عربية لم تظهر إلا ‏بعد نهاية الحضارة الجبتية ! ومصرايم وعشيرته لم يكونوا موجودين في عصر جبتو ... ‏

وبذلك –وبكل بساطة – تم صهر ودمج الجبتيين في مصرايم، لأن مصرايم هو مدخل ‏الفكر التوراتي واليهودي إلى إيجبت، وهو بالفعل ما وجدناه في فصول التاريخ خلال حقبة ‏الوجود العربي، أو ما عُرف بـ" التاريخ الخرافي" حيث كانت كل صفحاته تبدأ بـ " مصرايم " ‏ابن نوح الذي انتقل إلى أرض إيجبت. لكن في الجبتانا، ربما لم يكن قد خطر ببالهم بعد ‏موضوع قفزة مصرايم من السفينة إلى شمال إفريقيا واستقراره بوادي النيل، ولهذا عمد المؤلف ‏إلى خلق فكرة " جبتو مصرايم " من الجذر، باعتبار أن الجبتيين يعتبرون أنفسهم وحكامهم ‏أبناء الآلهة، فكان جبتو مصرايم الابن الأول للإله، ثم بعد ذلك ظهرت فكرة أن يكون ‏مصرايم هو ابن نوح (ع) لما انتشرت العقيدة المسيحية والإسلامية وبدأ الشعب ينجذب تجاه ‏سير الأنبياء، فبدت تلك البوابة لمصرايم أفضل كي يدخل منها وادي النيل ويصبح أباً لهذا ‏الشعب، لكنها أيضاً تجاهلت الجانب الآخر وهو الربط بين اسمي الدولة " إيجبت و مصر" ‏فكانت الجبتانا قصة مكملة لهذا النقص. وعلى كل حال اليهود دائماً يضعون خطط ‏بديلة.‏

ويعود المؤلف ليؤكد على الهوية المزيفة فيقول: أنا - مانيتون - أقرر بأن الجبتانا هي ‏التاريخ الحقيقي للسلالة الجبتية آلهة وأبناء آلهة وملوكاً ابتداءً من بدء التكوين وظهور ‏أتم أول الآلهة وانتهاءً بالملك عحا المحارب نعرمر ومروراً بالتوحيد الأول للأرضين على يد ‏أوزيريس الناسوتي الذي تحول بعد أن فداه حورس بعينه إلى أوزيريس اللاهوتي باعث ‏الخضرة في مصر والمشرف على طريق الراحلين إلى الغرب (الجبتانا ص 37). ‏

يُتبع ...‏‎

‏(قراءة في كتابنا : مصر الأخرى – التبادل الحضاري بين مصر وإيجبت‎ ‎‏)‏‎ ‌‎
‏ (رابط الكتاب على نيل وفرات):‏‎
‏ ‌‎ ‏https://tinyurl.com/25juux8h‏‎ ‌‎

‏(رابط الكتاب على أمازون) :‏‎
‏ ‏https://cutt.us/sxMIp‏ ‏‎

‏( رابط الكتاب على جوجل بلاي‏‎ ):
https://cutt.us/KFw7C

‏#مصر_الأخرى_في_اليمن):‏‎
‏ ‏https://cutt.us/YZbAA

‏#ثورة_التصحيح_الكبرى_للتاريخ_الإنساني‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصدع غير متوقع داخل حزب -فرنسا الأبية- • فرانس 24 / FRANCE 2


.. كاميرا CNN على متن سفينة روسيا الحربية على بعد 90 ميلا من سا




.. في أول ظهور علني لها.. كيت ميدلتون تقف مع العائلة المالكة عل


.. ضربات أميركية تستهدف رادارات الحوثيين في عدد من المواقع اليم




.. الشيخ ماهر المعيقلي يدعو لغزة في يوم عرفة