الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخصاء كعادة بشرية

رماز هاني كوسه

2023 / 5 / 1
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


عادات كثيرة و أفعال غرببة مارسها جنسنا البشري منذ وجوده على سطح هذا الكوكب تنوعت ما بين العنيف والمسالم منها عادة الخصاء و التي مورست بداية على الحيوانات و من ثم انتقلت لتمارس على البشر . و تظهر عادة الخصاء castrationكممارسة اجتماعية مارستها المجتمعات البشرية منذ بدء تشكلها و لا يكاد يخلو مجتمع من ممارسة هذا التقليد المشين عبر التاريخ . و الملفت للنظر ان هذه الممارسة بقيت موجودة لنهاية القرن التاسع عشر و لها أسبابها الاجتماعية و السياسية و التي سأحاول نقاشها في هذا المقال .
نبدأ بالأسباب الاجتماعية . فقد بدأ ظهور هذه العادة مع انتظام البشر ضمن تكتلات اجتماعية و ظهور مفهوم المجتمع و ما تلاه من ظهور لمفهوم المدينة و الدولة و انتشار الحروب على السيادة و الموارد ببن المدن و الدول . الافراد كانوا يعتبرون من ضمن الموارد التي يكسبها المحاربون و من يؤسر من الأفراد يتم بيعهم كعبيد . و مع انقسام المجتمع لفئة الأحرار و فئة العبيد و دخول العبيد للخدمة ببيوت الاحرار و احتكاكهم بالنساء ظهرت الحاجة من قبل الأسياد الأحرار لإيجاد طريقة تحفظ انسابهم خوفا من علاقات جنسية تنشا بين العبيد الذكور و نسائهم . من هنا ظهرت فكرة الخصاء كعادة متبعة و هدفها اجتماعي بالدرجة الأولى و هو الحفاظ على النسب في مجتمع أبوي . أما بحال المجتمع الامومي السابق للمجتمع الأبوي فتنتفي الحاجة لفكرة الخصاء باعتبار الانتساب للأب أمر ثانوي غير مهم . و استمرت هذه العادة موجودة مع استمرار وجود العبيد للخدمة داخل المنازل . و ظهرت فئة خاصة من العبيد تسمى بالخصيان و هي معدة للخدمة لدى نساء قصور الحكام و الامراء و هو أمر بقي مشاهدا لبدايات القرن العشرين في منطقتنا . و تسجل كتب التاريخ الكثير من أسماء الخصيان في التاريخ العربي الذين برعوا بمجالات متعددة كالغناء مثلا و حتى السياسة و هو ما سنتعرض له لاحقا .
شكل الغناء سببا مباشر لاستمرار ظاهرة الخصاء لفترة طويلة . فعند اكتشاف طفل صغير ذو صوت مميز كان يتم خصاؤه بغية الحفاظ على صوته الناعم و المميز و هو ما يؤمن له مستقبلا مميزا في الغناء لبقية عمره . فعند الخصاء لا يصل الطفل للبلوغ و لا تتطور حباله الصوتية قلا يخشن صوته مستقبلا و نحصل بالنهاية على رجل بصوت طفل و يستطيع الوصول الى نغمات عالية بالغناء الأوبرالي لا يستطيع وصولها اقرانه من الرجال غير المخصيين . و لعب الدين دورا في ظهور هذا التقليد نتيجة حاجة الكنيسة الى منشدين بأصوات ناعمة داخل الكنائس و نتيجة منع النساء من رفع صوتهن داخل الكنائس غضت الكنيسة البصر عن استقدام المغنين المخصيين لحاجتها إلى أصواتهم الطفولية في الإنشاد مع نضجهم العقلي الذي يساعدهم بالأداء اكثر من الأطفال . و من هذا الباب زاد الطلب على المغنيين المخصيين في أوروبا نتيجة فرادة أصواتهم و انتشر بشكل واسع الطلب عليهم للأداء في دور الاوبرا . و آخر مغني منهم تم توثيقه هو اليساندرو موريسكي الذي توفي عام 1922 و يوجد تسجيل له متوافر على اليوتيوب . فالدافع هنا كان فني و تجاري وراء انتشار هذه العادة .
ننتقل لعامل آخر لعب أثرا في ظهور هذا التقليد و هو العامل الديني . و اول ما يتبادر للذهن ان السبب وراء ممارسة الخصاء بتأثير الدين يقف وراءه دوافع التبتل و الابتعاد عن الملذات الدنيوية و هو امر صحيح نوعا ما فنحن نلاحظ انتشارا للعزوف عن الزواج بين الرهبان المتبتلين على سبيل المثال . فالأمر هنا يدخل في اطار اظهار الزهد بهذه الحياة و متعها . و لكن اذا تعمقنا أكثر بالبحث حول جذور هذه العادة لوجدناها اقدم من ظهور الأديان السماوية . حيث يتحدث لوقيان السميمساطي في كتابه الآلهة السورية عن تقليد يقوم به الرجال في سوريا أثناء الاحتفال بالأعياد الدينية و يتمثل بخصاء أنفسهم و ارتداء ملابس النساء من بعدها و يعود هذا التقليد لأسطورة سورية عن شاب وسيم كلف بمرافقة زوجة ملكه فخاف من ان تقع زوجة سيده في حبه و يخون سيده فقام بخصاء نفسه و من ثم ارتدى ملابس النساء حتى لا تغرم النساء به . نستطيع ان نرجع الخصاء هنا لفكرة التبتل و لكن ما الغاية من ارتداء ملابس النساء فالتفسير المذكور بالأسطورة غير مقنع . كرأي شخصي تنبع عادة الخصاء من بقايا عبادة الآلهة الام قديما قبل حدوث الانقلاب الذكوري . فسابقا كانت المجتمعات أمومية و للمرأة مكانتها الأعلى من الرجل لدورها بالإنجاب و رعاية الأطفال فهي مصدر الخصب و التكاثر و النماء و من هنا كانت الآلهة المسيطرة انثى . و انطلاقا من هذه الفكرة فإن الخصاء لسبب ديني هو تصرف رمزي يدل على التشبه بالإلهة الأم القديمة مصدر الخصب و الحياة . فقدان القدرات الجنسية الذكورية يجعل الرجل شبيها بالمرأة و ما ارتداء الملابس النسائية هنا الا إشارة أخرى لاكتمال هذا التحول . و ربما عادة الختان الباقية ليومنا هذا من بقايا هذا الإرث القديم .

إلى جانب الدوافع الاجتماعية كان هناك دافع آخر وراء الطلب على المخصيين و هو السياسة ولتوضيح ذلك يجب التعرض لنقطة هامة متعلقة بالبشر و دوافعهم النفسية . ما يحكم تصرفاتنا نحن البشر هو غريزة البقاء التي تشكل الدافع الرئيس وراء أفعالنا و تصرفاتنا و وجود هذه الغريزة تدفعنا دوما لنكون انانيين نوعا ما و نفضل مصلحتنا الخاصة و نضعها بالمقام الأول على مصالح غيرنا و هو أمر مفهوم باطار سعينا للبقاء . و تترافق أنانيتنا ليس فقط بتفضيل انقسنا بل ينتقل ذلك لتفضيل و محاباة من نرتبط بهم برابط الدم من أبناء بالدرجة الرئيسية و من ثم الأقارب بدرجة اقل . و محاباتنا لأبنائنا في حياتنا اليومية تشكل نقطة ضعف في اتخاذ قراراتنا حيث نفضل أحيانا ما هو لصالحهم على ما هو للصالح العام فبالنهاية كل ما نقوم به و مجمعه من ثروة و جاه سينتقل لهم . ولاؤنا لرابط الدم أقوى منه لأي رابط أخر وذلك قبل ظهور مفهوم القومية و الدولية و الولاء لها بديلا عن رابط الدم قديما و الذي نرى بقاياه للآن في المثل الشعبي (انا و اخي على ابن عمي . انا و ابن عمي على الغريب ) . و من هذه النقطة فضل كثير من الملوك و الحكام اختيار قادة عسكريين و وزراء و مستشارين مقربين لهم من بين الخصيان لسيب بسيط و يتمثل بعدم وجود نسل لهؤلاء الخصيان مما يلغي احتمالية تفضيل مصالحهم الخاصة و مصالح أبنائهم لغياب وجود أبناء أساسا . و مع غياب رابطة الدم القوية يمكن للملك و الحاكم أن يضمن ولاء هؤلاء الخصيان له فقط لغياب الحافز الاناني لدى هؤلاء المخصيين نسبيا لغياب رابط الدم . . فبادر الكثير من الحكام لاختيار حراس شخصيين من هؤلاء الخصيان و من كان يملك الكفاءة و المقدرة استطاع الوصل لمراكز مهمة عسكرية و سياسية مثل القائد العسكري مؤنس من الفترة العباسية و كافور الاخشيدي الذي حكم مصر و هجاه المتنبي بأبياته المعروفة واصفا إياه بالأسود المخصي . فكرة تغييب او الغاء رابط الدم لضمان الولاء اعتمد عليها العباسيون عندما جلبوا المماليك الترك لجيوشهم . فقاموا ببناء مدينة خاصة لعسكرهم من المماليك حتى لا يتفاعل هؤلاء مع المجتمع المحلي و يتزاوجون منه و يرتبطون معه برابط الدم فيقل ولاء للخليفة مع وجود روابط مجتمعية و اسرية لديهم كنوع من الخصاء الاجتماعي و استمر هذا الأمر لفترة من الزمن قويت بعدها شوكة المماليك هؤلاء و فضلوا روابطهم العائلية الشخصية على ولائهم للخليفة و اصبح الخلفاء ألعوبة بيدهم . . هذه الفكرة طورها العثمانيون لدرجة اكثر تقدما و فعالية و تتمثل بفكرة الانكشارية ( يني شيري المقاتل الجديد ) حسب فرانسيس فوكوياما . فكان احد شروط الانتساب للانكشارية هو عدم الزواج و تشكيل اسرة ( عدم الزواج و ليس الامتناع عن ممارسة الجنس ) فضمنوا بذلك عدم وجود رابط دم يفضله الانكشاري على رابط الولاء للسلطان و يحاول الانشغال بجمع الثروة لأبنائه . فبغياب الأبناء يبقى الولاء فقط للسلطان في يظل غياب مفهوم الولاء للدولة و المجتمع الذي تطور لاحقا . و كان ذلك ببداية تشكيل الإمبراطورية العثمانية و نجح هذا النهج بتحقيق استقرار و توسع عسكري سريع للعثمانيين و بعد ان بلغوا اوج قوتهم وتوسعهم بدأ التراخي كحال الدول عبر التاريخ و قاموا التراجع عن هذا الشرط و سمح للانكشارية بتشكيل الأسر و حينها أعاد التاريخ دورته كما حصل مع العباسيين و المماليك . بدأ الانكشارية بتغليب مصالحهم الشخصية على مصلحة السلطنة ممثلة بالسلطان العثماني خدمة لأسرهم و أبنائهم و زاد تدخلهم بمفاصل الحكم حتى اضعفوا الدولة . و استمر تدخلهم السلبي حتى تم القضاء عليهم من قبل السلطان العثماني ببداية القرن التاسع عشر بنا يعرف نكبة الانكشارية .
و كخاتمة فغن الفكرة السابقة ليست من ابتكار العباسيين أو العثمانيين بل هي ببساطة تطوير لفكرة أفلاطون حول المدينة الفاضلة و التي تستند بشكل رئيسي على أن تقوم الدولة بهندسة المجتمع و تنظيمه و ليس أن يقوم المجتمع بإفراز الدولة التي تعبر عنه . مدينة افلاطون الفاضلة تبنى على أخذ الأطفال من اهاليهم بعمر صغير حتى لا يكون للأهل دور بتربيتهم .و تقوم الدولة بالإشراف عليهم ضمن معسكرات و مدارس مغلقة و تخضعه لاختبارات دورية و حسب نتائج الاختبارات يتم توجيه الأطفال اما للعمل الزراعي أو الصناعي و التجاري و العسكري إلخ . و هي فكرة و إن نجحت بشكل جزئي ضمن شروط خاصة و لكنها فشلت عللى المدى الطويل لأنها أرادت الغاء غريزة الفردانية و رغبة التملك و التميز لدى الفرد البشري. و الغريزة دائما ما تنتصر على من يحاول الغاءها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الخصاء
على المشاط ( 2023 / 5 / 1 - 16:35 )
بحث جيد ولكن فات الكاتب ان الخصاءمستمر لحد اليوم في مناطق مختلفة ما دامت العبودية مستمرة ،، مثلآ في افريقيا. وكذلك سمعت ان بعض أطفال الضفة الشرقيه للخليج العربي يتم اخصائهم وبيعهم لاغنياء الخليج لجمالهم وربما لسباقات الجمال ت

اخر الافلام

.. إيران تتوسع في إفريقيا.. والسودان هدفها القادم.. لماذا؟ | #ا


.. الجزيرة ضيفة سكاي نيوز عربية | #غرفة_الأخبار




.. المطبات أمام ترامب تزيد.. فكيف سيتجاوزها نحو البيت الأبيض؟ |


.. حماس وإسرائيل تتمسكان بشروطهما.. فهل تتعثر مفاوضات القاهرة؟




.. نتنياهو: مراسلو الجزيرة أضروا بأمن إسرائيل | #غرفة_الأخبار